مع إعلان العبادي انتهاء المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ووصفه لذلك اليوم “بيوم النصر العظيم”، انفض غبار تلك المعارك عن مدن مدمرة سويت بالأرض تعادل مساحتها ثلث العراق، وتهجير الملايين ليكونوا نازحين في وطنهم أو لاجئين في بلاد الاغتراب، وخلَّفت الآلاف من القتلى والجرحى، وآلاف الأرامل وملايين اليتامى، في مشهد لم يشهد له العالم مثيلًا من عمليات نزوح جماعي لمواطنيه منذ الحرب العالمية الثانية.
وبذلك تفتح صفحة جديدة من المعاناة والألم لشعب العراق ولمكون مهم من مكوناته، ولكن هذه المرة ليست معاناة الألم والإجراءات الإرهابية بحقهم سواء من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” أو من المليشيات الإيرانية الإرهابية، إنما هذه المرة يعاني من ذل البقاء في مخيمات النزوح ويتجرع أساليب المليشيات المذلة بحقه.
تلك المليشيات التي تشعر أنها حققت نصرًا على أولئك المواطنين المنكوبين، وكأنه لا يكفيهم ما تجرعه هؤلاء الناس من معاناة وهم يعيشون تحت حكم منظمات إرهابية لثلاث سنوات ذاقوا الويلات منهم، وقُتل منهم أعز أبنائهم ونهبت كل أموالهم ومدخراتهم، ودفعوا ثمن جريمة لم يرتكبوها بل الذي ارتكبها هو جيش السلطة حينما تخلى عن مواقعهِ ليحتلها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ويعيث في الأرض فسادًا.
ما فاقم مشاكل النازحين أن الحكومة العراقية لم تكن على المستوى الكافي للتعامل مع مثل هذا المستوى من الكوارث العظيمة، لا من حيث تشريعاتها القانونية ولا من حيث توفر الإرادة لحل تلك المشاكل، فالمشرع العراقي لم يسن تشريعًا قانونيًا يدير أحوال البلاد في حالات الكوارث والنزوح.
فالمنظومة القانونية في العراق، أدرجت التشريعات المتعلقة بالكوارث والأزمات تحت إطار حالات الطوارئ التي لم تكن تصب في خدمة المواطنين، إنما كانت تهدف بالأساس حماية النظام الحاكم في بغداد وحماية القابضين على السلطة هناك، وأغلب موادها جاءت لتعطي صلاحيات استثنائية وواسعة للسلطة التنفيذية، من صلاحيات أمنية وعسكرية هدفها أمني وعسكري بحت، لتزيد من خلالها معاناة المواطن لا سيما النازحين، وما قانون أربعة إرهاب سيء الصيت إلا نموذجًا بائسًا من تلك القوانين والتشريعات.
حجم المشاكل الاجتماعية للنازحين، قد يتسع ليشمل كل ما عرفه علم الاجتماع من أمراض اجتماعية خطيرة
هل النزوح وليد الحالة اليوم؟
لم يكن النزوح الذي شهده العراق منذ عام 2014 هو النزوح الأول، إنما شهد البلد موجات عديدة من عمليات النزوح لمواطنيه بعد الاحتلال الأمريكي للبلد وفرض العملية السياسية التي أُسست على مبدأ الطائفية التي تعتبر السبب المباشر للاضطراب الأمني الحاصل اليوم، وما عمليات النزوح لمواطنيه التي نشهدها اليوم إلا واحدة من مظاهر ذلك الاضطراب الأمني الأكثر إيلامًا.
فوفقًا للمنظمة الدولية للهجرة (IOM) تم تسجيل ما يُقدر عددهم بنحو 1.2 مليون نازح عام 2006، غالبيتهم الساحقة من العرب السنَّة العراقيين، حدث ذلك بعد تفجير المرقد المقدس عند الشيعة في سامراء في فبراير/شباط عام 2006 واندلعت بعدها حملة مسعورة ضد العرب السنَّة، قتلًا وتهجيرًا جعل أعداد النازحين يرتفع إلى رقم مذهل ليصل إلى 2.7 مليون، بالإضافة إلى 2.2 مليون آخرين فروا إلى الدول المجاورة مثل سوريا والأردن.
وبعد اجتياح منظمة داعش الإرهابية لمناطق شاسعة من الأراضي التي يعيش فيها العرب السنة عام 2014، تفاقمت أزمة النازحين لتصل إلى أرقام مخيفة، وفي هذا السياق أعلن المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي أن ربع اللاجئين في العالم البالغ عددهم 66 مليونًا، من سوريا والعراق، أي أن هناك ما يقارب 16.5 مليون نازح عراقي وسوري. يضيف غراندي أن كثير من النازحين العراقيين رجعوا لديارهم منذ بداية الأزمة في 2014، إلا أنه بقي 2.9 مليون في أماكن النزوح حتى الآن.
ما المشاكل التي يعاني منها النازحون؟
إن حجم المشاكل الاجتماعية للنازحين، قد يتسع ليشمل كل ما عرفه علم الاجتماع من أمراض اجتماعية خطيرة، من تفكك أسري وترمل ويتم وفقر وحاجة وجوع واستغلال، إضافة لحالات التحرش بالنساء والأطفال، ناهيك عن أن الإجراءات الحكومية المتبعة في مخيمات النزوح لا تسمح لأولئك النازحين بلقاء أقربائهم من خارج المخيمات، الأمر الذي يضطرهم للقاء أحبائهم بعد سنين من الفراق عبر السياج الفاصل الذي يحيط بالمخيم والمكون من الأسلاك الشائكة، في منظر مؤلم يلحق المزيد من الأسى بقلوب النازحين ويفطر قلوب ذويهم من غير النازحين. كل ذلك تبرره الأجهزة الأمنية التابعة لبغداد والتابعة لحكومة إقليم كردستان، بأنها إجراءات أمنية لا بد منها.
ومع عدم وجود الحلول الكفيلة بإرجاع أولئك النازحين إلى مناطق سكنهم، تزداد أوضاعهم سوءًا في ظل استمرار الإهمال الحكومي المتعمد لأوضاعهم المزرية. حيث تعاني مخيمات النازحين من إهمال وقلة دعم من الحكومات والمنظمات، الأمر الذي تسبب في انتشار الأمراض الوبائية والجلدية في ظل غياب الرقابة والعناية الصحية، والنقص الشديد في المواد الغذائية والطبية.
إن الإسراع بعودة النازحين إلى مناطقهم وتوفير التدابير الأمنية والحياتية اللازمة لذلك، هو الحل الوحيد والأمثل للحفاظ على كرامة العوائل العراقية ومنع تفشي الظواهر السلبية بالمجتمع العراقي ككل وليس فقط في مجتمع النازحين، تلك الظواهر التي أصبحت تشكل منعطفًا خطيرًا في ثقافة المجتمع العراقي المحافظ.
الحكومة العراقية في بغداد في الأصل وليدة عملية سياسية أسست على أساس طائفي، فهي لا تلقي بالًا لأولئك النازحين ما داموا من غير الطائفة التي تتولى الحكم في بغداد
ما تأثير تداعيات استفتاء كردستان على أوضاع اللاجئين هناك؟
مثَّل إقليم كردستان بالنسبة للنازحين من العرب السنة منطقة آمنة بعد الاجتياح الكبير لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لمناطق العرب السنة عام 2014، كما كانت كردستان منطقة آمنة لأعداد كبيرة منهم بعد عام 2006 هربًا من التطهير الطائفي الذي انتهجته حكومة بغداد وملشياتها في تلك السنوات، مما أدى إلى ازدياد أعداد النازحين إلى درجة كبيرة، سواء من كان منهم داخل المخيمات أو من في داخل مدن كردستان.
ثم جاء موضوع الاستفتاء الكردي ليمثل تهديدًا جديًا لمصير كل تلك الأعداد الغفيرة من النازحين، فبعد إجراء الاستفتاء وقيام حكومة بغداد برد فعل قاسٍ ضد كردستان تمثل بحصار اقتصادي خانق ومناوشات عسكرية بين الجانبين، نزح أعداد كبيرة من الكرد من المناطق المتنازع عليها إلى داخل كردستان ليضاف رقمًا جديدًا للنازحين الموجودين أصلًا في كردستان.
وفي هذا السياق أعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من 175 ألف شخص نزحوا من ثلاث محافظات عراقية هي أربيل ونينوى ودهوك، على إثر النزاع المسلح بين بغداد وأربيل الذي نشب على خلفية إجراء الأخيرة استفتاء لانفصال كردستان العراق وتحرك القوات المشتركة والمليشيات الداعمة لها عسكريًا بهدف السيطرة على المناطق المتنازع عليها بين الجانبين.
وبسبب الإجراءات التي اتخذتها حكومة بغداد ضد الإقليم، وحظر الطيران بمطارات الإقليم، قررت كثير من المنظمات الإغاثية التي تعمل هناك وتساعد النازحين، تعليق عملياتها في كردستان وحرمان تلك الأعداد الكبيرة من النازحين من المساعدات الغذائية والدوائية ومستلزمات الحياة الأخرى.
ما الأسباب الكامنة وراء رفض السماح للنازحين بالعودة لديارهم؟
بسبب أن الحكومة العراقية في بغداد في الأصل وليدة عملية سياسية أسست على أساس طائفي، فإنها لا تلقي بالًا لأولئك النازحين ما داموا من غير الطائفة التي تتولى الحكم في بغداد، بل إن الأحزاب التي تتألف منها حكومة بغداد تجد في بقاء الوضع الحاليّ على ما هو عليه والاستمرار فيه مصلحة سياسية كبيرة، لما يعود عليها من فوائد انتخابية وتغير ديمغرافي يصب في الاستراتيجية التي تتبناها تلك الأحزاب.
النازحون يعانون من صعوبات كبيرة في العودة إلى مناطقهم بسبب الخوف من اعتداءات المليشيات الطائفية التي تسعى لإحداث تغيير ديموغرافي في تلك المناطق على أسس طائفية
وعلى هذا الأساس فإنها تتحجج بالحالة الاقتصادية التي يمر بها البلد لتتخلص من التزاماتها تجاه إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ليتسنى للنازحين العودة لديارهم، وتحيل هذا الملف إلى الدول المانحة، وهي بذلك تؤجل عمليات الإعمار لعدد من السنين سوف تستثمرها في الضغط على المكون السني لتحويله إلى أقلية غير مؤثرة في المعادلة السياسية العراقية، وهو هدف إيراني بامتياز تنفذه الأحزاب والمليشيات الموالية لها في العراق.
كما تشكل المليشيات الطائفية تحديًا كبيرًا لعودة النازحين لديارهم، فهي تشترك مع الأحزاب الحاكمة في بغداد بنفس الهدف تجاه تحجيم العرب السنة وتحويلهم إلى إقلية صغيرة في العراق ليس لها من الأمر شيء، إلا أن ما تختلف به عن الحكومة العراقية وأدواتها الأمنية أن لها حرية الحركة بارتكابها لجرائمها بشكل يتيح لها التنصل منها عند اللزوم، كونها قوى غير نظامية لا تتورط الحكومة بها دوليًا على اعتبار أنها قوة غير شرعية.
بل إن الأسلوب الذي تتبعه الآن هو قيامها بحل نفسها عندما يتم تصنيفها كمنظمة إرهابية كما هو الحال في مليشيا أبو الفضل العباس، لكي تتخلص من تبعاتها الإجرامية أو المسؤولية القانونية عن تلك الجرائم.
هذا الأمر جعل النازحين يعانون من صعوبات كبيرة في العودة إلى مناطقهم بسبب الخوف من اعتداءات المليشيات الطائفية التي تسعى لإحداث تغيير ديموغرافي في تلك المناطق على أسس طائفية.
ما تأثير النازحين على الانتخابات القادمة؟
لم تتخذ الحكومة العراقية أي خطوة جدية لإعادة النازحين إلى مناطقهم، كإعادة إعمار وتأهيل المدن المدمرة وتحسين الواقع الخدمي فيها، وليست لها رؤية واضحة أو خطة لإعادة النازحين أو إعمار المناطق المدمرة.
ويُبدي السياسيون العرب السنَّة رفضًا لإجراء الانتخابات بالوضع الحاليّ الذي يعيش فيه معظم ناخبيهم في مخيمات النزوح، حيث يقول الكثير من النواب السنة إن مجلس الوزراء حينما صوت على إجراء الانتخابات في منتصف أيار القادم، اشترط استقرار النازحين في مدنهم وليس عودتهم فقط، بالإضافة الى توفير بيئة آمنة في مناطقهم لإجراء انتخابات عادلة.
كما اشترطت القوى السُنية، أن تقلل الحكومة المظاهر العسكرية في المدن المحررة، وترك ملف الأمن لأبناء تلك المناطق أنفسهم، مع التلويح بمقاطعة العملية الانتخابية إذا لم تتم الاستجابة لمطالبها.
كثير من النازحين العراقيين رجعوا لديارهم منذ بداية الأزمة في 2014، إلا أنه بقي 2.9 مليون في أماكن النزوح حتى الآن
وعلى ما يبدو أن الأحزاب المؤلفة للحكومة العراقية ومن خلفها إيران قد حسمت أمرها في عدم التقدم ولو خطوة واحدة في طريق إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فضلًا عن إعادة النازحين إلى تلك المناطق، كل ذلك من أجل تحقيق أكبر منفعة انتخابية في الانتخابات النيابية القادمة، واستثمار النصر الذي أحرزوه على التنظيم لجعله نصرًا لأجندتهم الطائفية على الشعب العراقي.