وسط مدينة شنقيط الأثرية التي منحت اسمها موريتانيا عبر التاريخ، انتصب المسجد العتيق وصومعته الشاهقة، ليضيف للمدينة القديمة قيمة جمالية لا يضاهيه في جمالها غيره من المساجد التي انتشرت في كامل أنحاء البلاد.
مسجد ظل عبر التاريخ منارة علم وعبادة، وإليه ينسب كبار العلماء الشناقطة الذين ملأ صيتهم العالم باستظهار وحفظ العلوم، فافتتن بهم المشارقة في الأزهر الشريف والأردن والحجاز والسودان، وباقي دول العالم الإسلامي دون استثناء.
ماضٍ قديم وحضارة عريقة
مسجد يحدثك عن ماضٍ قديم وحضارة عريقة وفكر خلاق لدى الرجل الشنقيطي الذي سخر الحجارة والطين لبناء مسجد متكامل في تناسق بديع، ليشكل فنًا معماريًا قلما يوجد مثله في كثير من المساجد في أنحاء العالم الإسلامي، إذ إنه يبرز خصوصية حقيقية لليد التي بنته وللعقل الذي صممه.
مسجد عتيق بُني بنمط معماري فريد من نوعه، حيث شُيد بطريقة تمكنه من مقاومة عاديات الزمن والظروف المناخية الصعبة والعزلة القاتلة، طريقة تُتيح له البقاء لأطول فترة زمنية ممكنة، طريقة مكنته من أن يظل شامخًا لأكثر من ثمانية قرون متتالية، الأمر الذي جعل المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم “اليونسكو” تصنفه كتراث بشري عالمي.
ما يميز مسجد شنقيط العتيق، أيضًا، أن جدرانه لا يوجد بها نوافذ للتهوية أو الإضاءة
رغم مرور قرابة 800 سنة على بنائه، ما زال المسجد يحافظ على عمارته التقليدية وبُنيته القديمة، حتى إن المصلين ما زالوا يفترشون الحصى للصلاة، كونهم يعتقدون أن الصلاة على الأرض أفضل من الصلاة على الفراش، ولهذا بقيت أرضية المسجد من دون فرش منذ بنائه وإلى يومنا هذا، وباستثناء الطلاء الأبيض الذي طلي به المسجد من الداخل أو رفع السقف قليلاً، فإن سكان المدينة لم يقبلوا أي تغيير لهيئة مسجدهم، وهي بذلك تحافظ عليه كما كان تقريبًا عندما بناه أهل شنقيط الأوائل.
واجهة المسجد تعكس نموذج الزخرفة الإسلامية الذي تطبعه البساطة، والذي يعتمد على استخدام الأقواس التي تضفي لمسات فنية وجمالية على أبواب المسجد، ويحيط بالمسجد سور من الصخور الحمراء المنحوتة من الجبال المحيطة بالمدينة، وللمسجد خمسة أبواب يدخل المصلي من أي باب شاء، لكن هناك بابًا سادسًا يتوارى خلف المئذنة في أقصى اليمين، ويؤدي عبر ممر ضيق إلى المصلى الخاص بالنساء في الركن الجنوبي الغربي من المسجد.
عمارة فنية تعكس تطويع الإنسان للطبيعة لخدمته
يتوسط الجدار الشرقي للمسجد محراب للصلاة نصف دائري ومنبر خشبي لإلقاء الخطب، وفي الباحة الخارجية للجامع مكان مخصص للوضوء، وبيت متهاوٍ كان يخصص لغسل الموتى، وتوجد بجانب الجامع قطع حجرية منقوشة بأسماء بعض الموتى.
ما يميز مسجد شنقيط العتيق، أيضًا، أن جدرانه لا يوجد بها نوافذ للتهوية أو الإضاءة، لكن بدلاً من ذلك توجد نوافذ صغيرة مفتوحة في السقف تمد المسجد بالضوء والهواء خصوصًا وقت الزوال، ولا تتعدى فتحة النافذة الواحدة 15 سنتيمترًا مربعًا، ويتم إغلاق هذه النوافذ بقطع صخرية مصفحة تمنع تسرب الماء حين تنزل الأمطار.
مئذنة شاهدة على تميز المدينة
مسجد احتل قلب المدينة حتى يؤمه جميع المصلين من جميع أطرافها، مسجد لم يلاحظ عليه أي خلل في جسمه المتماسك، حاز قمة الجمال لما فيه من عناصر تراثية قيمة تتجلى في صومعته الشاهقة ذات العشرة أمتار التي تعتبر رمزًا لدولة موريتانيا الحديثة، وذات البناء المتميز حيث جُلبت مواد بنائها من خارج المدينة وقد تفنن مصمموها في تشييدها وزُين رأسها بأربع بيضات من بيض النعام تم تثبيتها على أطرافها العلوية الأربعة، حتى أضحت تحفة تراثية خالدة على مر السنين.
تشير الكتب التاريخية أن بناء المئذنة تم على مرتين
بنيت مئذنة شنقيط، بشكل منفصل عن المسجد، حيث تدخل من باب قصير أقرب للنافذة يؤدي إلى السلم الصاعد وهناك في المنارة نوافذ صغيرة تساعدك على تمييز عتبات السلالم التي تؤدي إلى سطح علوي يجلس عليه المؤذن لمراقبة غروب الشمس ودخول وقت المغرب، أما توقيت صلاتي الظهر والعصر فقد نصبت له صخرتان متى وصلهما الظل أذن لأحدهما.
أما من الخارج فلا تشاهد إلا الحجارة التي لا تحتاج بحكم إتقان البناء وإسناد بعضها إلى بعض وتراصها إلى طين أو أسمنت وإنما تعانقت حتى غدت بنيانًا مرصوصًا، وتشير الكتب التاريخية أن بناء المئذنة تم على مرتين، إذ تم بناء قاعدتها أولًا بالتزامن مع بناء المسجد، وبعد مرور 200 سنة تم بناء الجزء العلوي منها لتأخذ صورتها النهائية الحاليّة.
منارة علم وعبادة
إضافة إلى جمال معماره، يستمد هذا المسجد أهميته من قيمته التاريخية والدعوية والعلمية، فقد تم بناؤه سنة 660 هجرية على يد جماعة العلويين الأوائل الذين دخلوا موريتانيا وأسسوا مدينة شنقيط قبل أن تتحول هذه المدينة إلى مركز إشعاع حضاري في المنطقة، حيث أنجبت عصارة الحضارة الشنقيطية.
أنجب المسجد على مر الزمان عديد من العلماء الذين تفتخر بهم موريتانيا
ومنذ تأسيسه إلى الآن، ظل مسجد شنقيط منارة للعلم والدعوة، ومركزًا يخرج منه كبار العلماء، وفيه يصلي آلاف الموريتانيين تبركًا به، وطلبًا للعلم من شيوخ الدين هناك الذين ورثوا علمهم من أبائهم وأجدادهم.
ومن على منبر هذا المسجد، برز أئمة كبار سخروا حياتهم كلها لنشر الدين والتعريف به وبث المعرفة بين الناس، ومنه انطلقت قوافل الدعوة والجهاد نحو العديد من المناطق في البلاد وفي غرب القارة الإفريقية.