حظي العراق بآخر إحصاء سكاني في القرن الماضي وتحديدًا في عام 1997، حيث لم يشمل التعداد محافظات أربيل والسليمانية ودهوك آنذاك، بسبب عدم سيطرة النظام السابق على هذه المحافظات التي تشكل إقليم كردستان العراق، وكشف الإحصاء حينها عن أن عدد سكان البلاد يبلغ زهاء 19 مليون نسمة، مع تقدير عدد سكان الإقليم بـ 3 ملايين نسمة.
اليوم، يعتزم العراق تنفيذ أول إحصاء سكاني للبلاد منذ 27 عاما، إذ تأمل الحكومة العراقية ووزارة التخطيط من الإحصاء المزمع التعرف عن كثب على إحصائيات دقيقة عن العراقيين، بما يشمل نسب الذكور والإناث والفئات العمرية ومناطق توزيع السكان بين المحافظات.
كما تشمل أهداف الإحصاء معرفة عدد القاطنين في المدن والأرياف ونسب التغيرات والتحديثات التي طرأت على أعداد السكان في المناطق النائية للبلاد، بما سيمكن المؤسسات الحكومية من رسم سياسات اقتصادية وتنموية تتطابق مع أعداد السكان وتوزيعهم.
استعدادات متواصلة
كان وزير التخطيط محمد علي تميم قد أعلن في مارس/ آذار الماضي أن وزارته ستشرع في النصف الثاني من شهر مايو/ أيار الجاري بالإحصاء التجريبي الأولي، فيما سيكون التعداد النهائي في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.
في غضون ذلك، أكد ضياء عواد رئيس الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط أن الجهاز سيجري التعداد السكاني العام، موضحًا أن وزارته مستمرة بالتحضيرات وأنه سيتم احتساب الأعداد من خلال الوثائق الثبوتية التي يمتلكها المواطن العراقي، والتي تشمل الاسم والمواليد والسكن، وذلك عبر تعاون وزارتي التخطيط والداخلية، والوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى.
وأكدت وزارة التخطيط أنها لا تزال في طور تدريب الكوادر الوظيفية التي ستعنى بإجراء الإحصاء الميداني، لا سيما مع اكتمال التطبيقات الإلكترونية التي ستزود بها الفرق الفنية في مختلف المحافظات.
وعن متطلبات إجراء التعداد السكاني، بيّن المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي أن هناك حاجة لتوفير الأجهزة اللوحية بعدد لا يقل عن 120 ألف جهاز لأجل إجراءه إلكترونيًا، مضيفًا أن المتطلبات تشمل إجراء تعداد تجريبي خلال شهر أيار/ مايو الجاري، بالإضافة الى تدريب ما يقارب 130 الف عدّاد من المدرسين والمعلمين على كيفية استخدام الأجهزة اللوحية وملئ الاستمارة وطرح الأسئلة، لافتًا إلى أن أكثر الإجراءات أهمية يتمثل بـ “بعمليات الحصر والترقيم التي تحتاج إلى شهرين على الأقل”، وفق قوله.
ليس هذا فحسب، إذ يؤكد الهنداوي وجود حاجة ملحة لإنشاء مركز وطني يعالج البيانات وفق أحدث التقنيات، وتوفير الصور الفضائية للوحدات الإدارية على مستوى المحافظة والقضاء والناحية والقرية، إضافة إلى توفير خدمات الهاتف النقال وشبكة الإنترنت لكل مناطق العراق، لتمكين نقل البيانات بشكل مباشر وبدقة عالية من العدادين إلى مراكز جمع البيانات.
ويختتم الهنداوي حديثه بالإشارة إلى أن موازنة عام 2022 خصصت مبلغ 100 مليار دينار لتنفيذ التعداد السكاني، في الوقت الذي تحتاج فيه الوزارة تخصيص أموال إضافية لاستكمال بقية الإجراءات.
إحصائيات تقريبية
يعتمد العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003 على بيانات وإحصائيات تقريبية لعدد سكان البلاد، إذ تعتمد الحكومة في إحصاءاتها التقريبية على البطاقة التموينية التي تزود المواطنين العراقيين بالمواد الغذائية الشهرية، فضلا عن بيانات وزارة الداخلية الاتحادية.
في السياق، قال المتحدث باسم وزارة التخطيط الهنداوي إن عدد سكان البلاد بلغ في نهاية العام الماضي 2023 نحو 43.32 مليون نسمة، موضحا أن نسبة السكان في المناطق الحضرية بلغت 69.9% مقابل 30.1% في الأرياف.
وتابع أن نسبة السكان ضمن الفئة العمرية الأقل من 15 عاما بلغت نحو 41%، فيما بلغت نسبة السكان للفئة العمرية (15-64) عاما نحو 57%، في الوقت الذي أشار فيه إلى أن نسبة السكان بعمر (65 سنة) فأكثر بلغت 3%.
وبلغ معدل النشاط الاقتصادي للسكان في الفئة العمرية 15 عاما نحو 40%، فيما بلغت نسبة الذكور الفاعلين اقتصاديًا نحو 87%، مقابل 13% للإناث الفاعلات في قطاع الاقتصاد.
معوقات عديدة
مع حث الحكومة العراقية الخطى نحو إجراء الإحصاء السكاني للبلاد، يؤكد عدد من الباحثين والمختصين وجود العديد من المعوقات التي قد تؤدي لتأجيل الإحصاء أو إجراءه دون الحصول على الأهداف الحقيقية له.
يقول الباحث صادق الأزرقي إن المعوقات تتمثل في التوتر الأمني واضطراب بعض المناطق، ما قد يسهم في الحد من إمكانية الوصول إلى بعض المناطق، فضلا عن تواجد عدد كبير من النازحين داخليا في مختلف المحافظات، وهو ما قد يجعل من الصعوبة تحديد عدد السكان بدقة، إضافة إلى أن البنية التحتية الضعيفة قد تعقد من عملية الوصول إلى بعض المجتمعات، وبالنتيجة يكون من الصعب تضمينها في التعداد.
ويوضح الباحث أن من المعوقات الأخرى تتمثل أيضًا بوجود بعض المجتمعات المترددة في التعاون بسبب عوامل ثقافية أو اجتماعية، مضيفا أنه “يمكن للكوارث الطبيعية أو الأوضاع البيئية السيئة أن تؤثر على القدرة على إجراء التعداد بشكل صحيح، وقد تواجه الإدارات المشاركة في التعداد تحديات إدارية مثل نقص الموارد أو التدريب غير الكافي للموظفين”.
في الجانب التقني تبرز كذلك العديد من المعوقات، لا سيما في ظل البنية التكنولوجية الضعيفة في البلاد، إذ يؤكد الخبير في مجال نظم المعلومات محمد سلام أن العراق يفتقر للبنية التكنولوجية، حيث أن العديد من المناطق النائية لا تتوفر فيها شبكات إنترنت سريعة، وبالتالي ستواجه فرق العدادين التابعة لوزارة التخطيط مشكلات في إجراء الإحصاء السكاني، وهو ما ينطبق على شبكات الهاتف النقال التي يمكن أن توفر خدمة إنترنت سريعة.
وفي حديثه لـ “نون بوست”، أوضح سلام أن كم المعلومات التي ستتدفق لوزارة التخطيط ستكون هائلة، وبالتالي هناك حاجة ماسة لمراكز معالجة بيانات موثوقة ومؤمنة من القراصنة والتلاعب في البيانات، مع وجوب توفير وزارة التخطيط في كل محافظة مركزًا معلوماتيًا خاصًا بمعالجة المشاكل التي قد تطرأ في التطبيقات المستخدمة في إجراء التعداد السكاني، لا سيما أن وزارة التخطيط كانت قد أعلنت أن عدد الأجهزة اللوحية المستخدمة يقارب 120 ألف جهاز، وهو ما يجعل من المستحيل على مركز الدعم التقني للوزارة معالجة المشاكل الطارئة.
من جهته، يشير الباحث السياسي رياض العلي أنه رغم تصريحات الحكومة العراقية ووزارة التخطيط في الآونة الأخيرة باستعدادهما لإجراء التعداد السكاني، إلا أن بعض التصريحات لمسؤولي وزارة التخطيط تشي بأن هناك مشكلات كبيرة لا تزال قائمة، مبينًا أن وزارة التخطيط كانت قد أكدت رصد 100 مليار دينار للإحصاء، فيما أكد مسؤولون في الوزارة الحاجة لضعف هذا المبلغ لإتمامه.
وفي حديثه لـ “نون بوست”، وفيما يتعلق بالجانب السياسي للإحصاء السكاني، أوضح العلي أن هناك العديد من التساؤلات المشروعة حول كيفية وماهية خطوات الإحصاء، لا سيما ما يتعلق بإقليم كردستان، وما إذا باشرت الوزارة بتدريب كوادر من مواطني الإقليم على كيفية إجراءه، فضلا عن تساؤلات أخرى لم تجب عنها الوزارة، وتتعلق بإمكانية الوزارة “سياسيًا” في الإعلان عن الأعداد التي حصلت على الجنسية العراقية بعد عام 2003، لا سيما أنه جرى تجنيس أعداد مهولة من الإيرانيين والباكستانيين في العقدين الماضيين.
مشكلة التجنيس
يشير الباحث والخبير في الشأن العراقي حسن العبيدي أن هيئة النزاهة الاتحادية كانت قد أعلنت قبل 3 أعوام عن كشفها لأكثر من 1300 قيد تم من خلاله حصول أجانب على الجنسية العراقية، مبينا أن عمليات تجنيس الإيرانيين كانت قد بدأت منذ عام 2006 واستمرت لسنوات عديدة دون أي إعلان عن ذلك من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة.
وبين العبيدي في حديثه لـ “نون بوست” أن ما يثير الريبة هو ما تم كشفه عبر بعض التحقيقات الاستقصائية التي تشير لتجنيس مئات آلاف الإيرانيين والباكستانيين وحصولهم على الجنسية العراقية وهم خارج البلاد، مضيفًا أن عدم تعليق وزارة الداخلية وعدم إفصاحها عن أعداد الذين حصلوا على الجنسية العراقية يؤكد هذه التحقيقات، وفق قوله.
وعن علاقة الإحصاء السكاني بملف تجنيس الأجانب، يوضح العبيدي أن الإحصاء السكاني يجب أن يشمل جميع حيثيات المجتمع العراقي، وأن على الحكومة أن تعلن عن عدد الحاصلين على الجنسية العراقية منذ عام 2003، لا سيما أن إحصائيات مثل هذه معمول بها في مختلف دول العالم، مضيفًا أيضًا أن “تركيا مثلا دائما ما تعلن عن عدد الحاصلين على الجنسية التركية، وهو ما معمول به في ألمانيا التي منحت جنسيتها لآلاف المهاجرين منذ عام 2015، وبالتالي فإحصائيات مثل هذه تعطي مصداقية أكثر للحكومات وخططها المستقبلية”.
يختتم العبيدي حديثه بالإشارة إلى أن الأوضاع الحالية وما يعلن عنه من إمكانية إجراء الإحصاء السكاني يبدو بعيدًا عن الواقع، فمن المتوقع أن يعلن خلال الشهرين المقبلين عن تأجيل الإحصاء السكاني إلى العام القادم، وفق قوله.