كان قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، صفعة على وجه عملية السلام الهشة بالفعل فى الشرق الأوسط، وعلى وجه الدبلوماسية الدولية. وكما كان متوقعا، أدى ذلك القرار إلى إدانة ورفض عالميين. وما تزال أمام الولايات المتحدة فرصة لإلغاء قرارها وقبول القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها إحياء عملية السلام.
وعلى الرغم من إصرار إدارة ترامب على أن هذه الخطوة ستسهل الحوار بين إسرائيل وفلسطين، فإنه ما يزال من غير الواضح كيف يمكن النظر إلى عدم احترام مركز القدس التاريخي والديني والقانوني الفريد من نوعه على أنه خطوة في الاتجاه الصحيح، بل على النقيض من ذلك، فقد قوضت ما تبقى من أمل في السلام. ومنذ عدة اشهر أشار المسؤولون الامريكيون الى خطة جديدة جارية لاستئناف محادثات السلام، ولم يظهر شيء حتى الآن. ولكن إذا كان قرار القدس هو الجزء الأول من مبادرة السلام الجديدة، فمن الممكن الإعلان أن المبادرة ماتت بالفعل، وعلى الأمريكيين أن يدركوا أن القدس ليست عقارا للبيع.
اعترفت جميع الدول الأعضاء البالغ عددها 57 دولة إلى جانب الدول التي تحمل صفة مراقب بالإجماع بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي
تمثل خطوة إدارة ترامب عن القدس مزيجا ساما من الشعبوية والأحادية، ذلك إن ترامب باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، لم ينقلب على 70 عاما من السياسة الخارجية الأمريكية فحسب، لكنه انتهك أيضا سلسلة من قرارات مجلس الأمن الدولي التي يعود تاريخها إلى عام 1967. يتضامن العالم بأسره حتى البابا والكنائس الأخرى مع الشعب الفلسطيني في القدس ومع حل الدولتين. ومن بين النتائج الجيدة لقرار ترامب الخاطئ أن القرار الأمريكي أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي من جديد بعد أن دخلت في غياهب النسيان منذ بداية حركات الربيع العربي وصعود إرهاب داعش. وينبغي الآن استخدام هذا الزخم الجديد للتوصل إلى سلام عادل ودائم.
وعلى مدى السنوات الكثيرة الماضية، قام الفلسطينيون بأكثر من نصيبهم العادل لإرساء الأساس لعملية السلام، ففي وقت سابق من هذا العام، كشفت حماس عن وثيقة سياسية جديدة قبلت فيها إنشاء دولة فلسطينية على طول حدود عام 1967، وميزت تمييزا مهما بين الديانة اليهودية والمشروع الصهيوني. وفي تشرين الأول/ أكتوبر، وقعت حركتا حماس وفتح اتفاقا للمصالحة للمشاركة في المفاوضات، لكنهما لا يجدان نظيرا حقيقيا وجادا على الجانب الإسرائيلي لدفع عملية السلام.
وردا على هذه التطورات، دعا الرئيس، رجب طيب أردوغان، إلى عقد قمة استثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي في 13 ديسمبر/ كانون الأول. وقد جمعت القمة التي عقدت في إسطنبول أكثر من 30 رئيس دولة وحكومة، واعترفت جميع الدول الأعضاء البالغ عددها 57 دولة إلى جانب الدول التي تحمل صفة مراقب بالإجماع بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي. وقد منح هذا القرار التاريخي زخما جديدا للقضية الفلسطينية وسيكون له أصداء بعيدة المدى.
واعتبارا من اليوم، اعترفت 137 بلدا بدولة فلسطين، وما زال الدعم ينمو. وهذا تطور مهم بالنظر إلى الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بغض النظر عن تحركات إسرائيل ودوافعها من أجل السلام أو عدم وجودها. وسيعقب هذا الاعتراف تحرك في الأمم المتحدة لإلغاء القرار الأمريكي الأحادي. ومن المرجح أن يعقب تصويت مجلس الأمن الدولي الذى ستستخدم فيه الولايات المتحدة حق النقض، تصويت فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا أمر جيد أيضا من أجل الاعتراف العالمي بالحقوق الأساسية للفلسطينيين.
على الإسرائيليين ومناصريهم الأمريكيين والأوروبيين أن يدركوا أن الاضطرابات في الأرض المقدسة لن تختفي حتى ينتهي الاحتلال الإسرائيلي
ومن النتائج المهمة الأخرى لمؤتمر قمة منظمة المؤتمر الإسلامي في إسطنبول الالتزام بالحفاظ على الطابع الديني والتاريخي للقدس والحرم الشريف وتمكين الفلسطينيين عامة والمقدسيين على وجه الخصوص. وسيتم تعزيز الصناديق التي أنشئت في إطار البنك الإسلامي للتنمية والمؤسسات الأخرى التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي لمساعدة الفلسطينيين.
على من يعتقدون في الدوائر المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة أن القدس لا تهم المسلمين أن يتعلموا درسا في التاريخ الديني، فقد كانت القدس أول قبلة للمسلمين وتضم ثالث أقدس مسجد في الإسلام، وكانت في رحلة معراج النبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى السماء، وجزءا لا يتجزأ من تاريخ الإسلام الديني والثقافي منذ أن دخلها الخليفة الثاني عمر الخطاب في 638 واعترف بحقوق المسيحيين واليهود. وعلى مدى القرون الأربعة التالية للفتح الإسلامي حكم المسلمون القدس التي تقاسمها أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث حتى سقطت خلال الحروب الصليبية في 1099. وعندما استعادها صلاح الدين الأيوبي في عام 1187، فعل ما فعله عمر قبله بقرون، إذ أعطى الأمان لجميع أصحاب الديانات، وأعاد الحاخام الأكبر لليهود إلى القدس من قبرص، حيث كان في المنفى بسبب الحروب الصليبية.وعندما تركت آخر الحاميات العثمانية المدينة القديمة للبريطانيين في عام 1917، بدأت المشكلات الخطيرة تصيب المدينة.
على الإسرائيليين ومناصريهم الأمريكيين والأوروبيين أن يدركوا أن الاضطرابات في الأرض المقدسة لن تختفي حتى ينتهي الاحتلال الإسرائيلي، وأن الاحتلال هو الذي يجب أن ينتهي حتى يصبح تحقيق السلام والأمن والاستقرار والازدهار والاحترام والثقة أمرا ممكنا. إن القدس ليست معروضة للتداول في سوق الشعبوية وأحادية القرار، وليست معروضة بالتأكيد للبيع بأي ثمن. وإذا كانت إدارة ترامب جادة بشأن السلام في الشرق الأوسط، فعليها أن تحث إسرائيل على إنهاء سياستها طويلة الأمد من الاحتلال والإهانة والنهب، وهي سياسة يجب إدانتها ورفضها بوصفها إهانة للإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
ترجمة وتحرير: ترك برس