يشهد العالم في عصر التكنولوجيا الحديثة تغييرات اجتماعية واقتصادية لا حصر لها، ومن ضمنها ظهور منظومة المدن الذكية (خاصة في الدول الغنية) التي نشأت بسبب الكثافة السكانية في المدن وتدفق الناس المستمر من الأرياف إلى المناطق الحضرية، ولا شك أن هذا التحول يشكل تحديًا جديدًا في وجه الحكومات وضغطًا إضافيًا في حياة السكان اليومية، إذ إن هذه الزيادة المستمرة تحتاج إلى خطط إستراتيجية لمواجهة جميع المستجدات المتوقعة.
تشير الإحصائيات إلى أن 55% من سكان العالم يعيشون في المدن حاليًّا، ومن المرجح أن تزيد هذه النسبة لتصل إلى 70% عام 2050، وهذه الأرقام لها دلائل عدة وعواقب لا يمكن إهمالها أو إغفالها.
ماذا يقصد بالمدينة الذكية؟
تعود فكرة المدن الذكية إلى عام 1922 عندما ظهرت إشارات المرور الضوئية في الشوارع، لكن مصطلح “المدينة الذكية” لم يستخدم إلا عندما زاد الاعتماد على الإنترنت والأجهزة التكنولوجية بمختلف أنواعها، وأصبح هناك ما يسمى بالثورة الرقمية.
المدينة الذكية هي التي تعتمد على التكنولوجيا بشكل أساسي في بنيتها التحتية، لتحسين جودة حياة الناس ورفع معايير الأمن والسلامة في الطرق والمنازل
وعند تعريف المدينة الذكية فلا يوجد تعريف ثابت ومحدد المعالم، فهذا المفهوم قابل للإضافة والتغير من حين إلى آخر، لكن المتفق عليه أنها المدينة التي تعتمد على التكنولوجيا بشكل أساسي في بنيتها التحتية، لتحسين جودة حياة الناس ورفع معايير الأمن والسلامة في الطرق والمنازل.
والأهم من ذلك، قدرتها على الحد من التلوث والمحافظة على البيئة من خلال أنظمة متطورة تراقب تدوير النفايات واستخدام المياه دون إسراف وزيادة المساحات الخضراء وتزويد الأماكن العامة بخدمة الإنترنت.
وبالنسبة للاتحاد الأوروبي فإنه يعرفها على أنها المدينة التي تجمع بين المدينة والصناعة والمواطنين معًا لتحسين الحياة في المناطق الحضرية من خلال حلول متكاملة أكثر استدامة، ويشمل ذلك خططًا عمرانية تنافس الأساليب التقليدية.
ما الهدف من تأسيس هذه المدن؟
الهدف الأول والمباشر من هذه المدن الحديثة تحسين جود حياة السكان وتقديم أفضل الخدمات الممكنة، سواء في قطاع النقل أو الاتصالات أو البيئة أو تكنولوجيا المعلومات، وحتى التعليم، بسبب مشاكل الازدحام والاختناقات المرورية داخل المدن، إلى جانب حوادث الطرق وسوء المواصلات العامة وقلة المنتزهات والحدائق وانتشار التلوث بجميع أنواعه القاتلة والرعاية الاجتماعية المعدومة التي يعاني منها سكان المدن الكبيرة.
كما لا يمكن الوصول إلى حل واقعي دون تحمل الحكومات المسؤولية كاملة بالمشاركة مع سكان المدن وتعاونهم في إنجاح هذه التجربة لتحويلها إلى نموذج حياة واقعي قادر على الحد من الأزمات عبر الاستعانة بأنظمة التكنولوجيا الحديثة.
هذا ويعتقد، أنه في مرحلة زمنية معينة ستكون حكومات الدول مجبرة على تطبيق هذا المشروع في مدنها، بسبب التوقعات بالانفجار السكاني الكبير وارتفاع معدلات التلوث التي لن تكون المدن قادرة على تحملها، فتصبح عرضة للكوارث التي يصعب إدارتها بعد فوات الأوان.
ساعدت عدادات المياه الذكية مدينة برشلونة على توفير 58 مليون دولار سنويًا، إضافة إلى كوريا الجنوبية التي انخفضت تكاليف بناء المباني فيها بنسبة 30% بعد إدخال التكنولوجيا في البنية التحتية
ومثال على أنظمة هذه المدينة وضع حساسات إلكترونية في مواقف السيارات، بحيث تكون قادرة على إعلام السائق على هاتفه الذكي عن أماكن المواقف الشاغرة، وبالتالي تساعده على توفير وقته وتقلل من الازدحام المروري بنفس الوقت.
ومن هذه المدن، مدينة برشلونة التي ساعدتها عدادات المياه الذكية على توفير 58 مليون دولار سنويًا، إضافة إلى كوريا الجنوبية التي انخفضت تكاليف بناء المباني فيها بنسبة 30% بعد إدخال التكنولوجيا في البنية التحتية، وخطوط النقل في اليابان التي وصلت إلى 100 عربة قطار تستوعب 14 مليار راكب في السنة.
هل تعتمد الدول العربية على منظومة المدن الذكية؟
لا شك أن تنفيذ هذا المشروع يحتاج إلى رأس مال ضخم قد لا تستطيع جميع البلدان العربية توفيره بسبب ميزانياتها المحدودة، لكن بعض دول الخليج تملك هذه الإمكانية بالتعاون مع جهات أجنبية لتطبيقها بأفضل صورة ممكنة وبأقل خسائر، حيث تعتبر هذه الفكرة غير منطقية بتاتًا في البلدان الفقيرة على الرغم من أنها أكثر حاجة لها من الدول الغنية وذلك لأن حجم مشكلاتها يكون أكبر.
ومثال على الدول العربية التي نجحت في اقتباس هذه المنظومة إمارة دبي التي أعلنت عام 2013 تحولها بالكامل إلى مدينة ذكية عام 2021، وأنها في نفس العام ستودع المعاملات الورقية الحكومية للأبد، أما دولة قطر، فلقد عرضت جهودها وخططها العمرانية هذا العام لتحويل عاصمتها الدوحة إلى مدينة ذكية تقدم تسهيلات وخدمات رفيعة المستوى لمواطنيها.
تنفيذ هذا المشروع يحتاج إلى رأس مال ضخم قد لا تستطيع جميع البلدان العربية توفيره بسبب ميزانياتها المحدودة، لكن بعض دول الخليج تملك هذه الإمكانية بالتعاون مع جهات أجنبية لتطبيقها
هذا بالجانب إلى السعودية التي أسست مبادرة “تطبيق مفاهيم المدن الذكية” التي تسعى إلى تنفيذ هذا المشروع في 5 مدن سعودية بحلول عام 2020 بالشراكة مع القطاع الخاص.
أما أبرز الصعوبات التي تواجهها هذه الدول هي القوة البشرية التي تكون معدومة، خاصة أن هذا النوع من المدن يحتاج إلى الكثير من التخطيط لتحسين أسلوب الحياة بداخلها.
الوجه القبيح للمدن الذكية
قد تعد المدن الذكية العالم بالتخلص من أصعب الأزمات إلا أن دمج الحساسات المتصلة بالإنترنت داخل البنية التحتية وبالتالي تسجيل جميع تحركات وسلوكيات المواطن قد يثير بعض الشكوك عن الاستخدامات الممكنة لهذه البيانات، لذلك تعمل الجهات المسؤولة على تطوير نظام رقابة للتحقق من حركة البيانات ومنع أي اختراق أو أي استخدام غير شرعي لها.
ذلك لأن المدن الذكية تعتمد في الدرجة الأولى على البيانات، ومن أجل الحصول عليها، لا بد من استخدام أجهزة الاستشعار في كل مكان تقريبًا لقياس درجة الحرارة أو تنظيم حركة المرور أو قياس معدلات التلوث، وبالتالي تبقى خصوصية السكان مكشوفة لمن يتحكم بهذه التكنولوجيا، وهذا ما أكدت عليه شركة لوكس ريسيراتش، شركة أبحاث واستشارات، التي أوضحت أن العدد الإجمالي للحساسات التي ستنشر في المدن الذكية هو تريليون جهاز بحلول عام 2020.
يمكن أن تنتهي هذه المنظومة إلى حالة من الفوضى وانتهاكات الخصوصية إذا لم تفرض الحكومات سياسات واضحة على شركات التكنولوجيا العملاقة بشأن الأمن الإلكتروني
ومن أبرز العقبات التي في الانتظار الخلافات المرتبطة بتحديد المسؤولية فيما يتعلق بتغطية تكاليف الحساسات الذكية والبنية التحتية المرافقة لها، إذ يبقى المواطن المستهدف الأول لسداد تكاليف الضرائب الخاصة بهذا النوع من المدن.
ختامًا، تمثل المدن الذكية سوقًا جديدة في الحياة الاقتصادية للقطاع الخاص، ونمط حياة جديدة للأجيال الحاليّة والقادمة، ويمكن أن تنتهي هذه المنظومة إلى حالة من الفوضى وانتهاكات الخصوصية إذا لم تفرض الحكومات سياسات واضحة على شركات التكنولوجيا العملاقة بشأن الأمن الإلكتروني والتكاليف الباهظة.