في الوقت الذي تقول فيه وسائل إعلام، أمريكية وعربية وعبرية، إن هناك أجواء إيجابية تخيم على الجولة الراهنة من مفاوضات صفقة التبادل بين المقاومة والكيان المحتل، كان هناك مسؤول دبلوماسي إسرائيلي -لم يفصح عن هويته- يشكك في تلك الأجواء ويتعمد إصدار بيانات تشاؤمية بشأن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، مؤكدًا أن الحكومة “لن توافق على إنهاء الحرب ضمن أي صفقة مع حماس”، وأن “الجيش سيدخل رفح، سواء أكانت هناك هدنة لإطلاق سراح المختطفين أم لا”.
نجحت تلك التصريحات السلبية في تعكير المشهد الإعلامي والسياسي بما عزز من حالة اليأس لدى عائلات الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة، كذلك أثارت حفيظة قادة حماس وبقية الفصائل، التي حاولت إبداء المرونة هذه المرة قدر الإمكان مقارنة بالجولات السابقة.
ثم كانت المفاجأة التي كشفتها صحيفة “جيروزاليم بوست”، حين أشارت إلى أن المسؤول الدبلوماسي مجهول الهوية، صاحب التصريحات السلبية، هو نفسه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وذلك وفق صحفيين إسرائيليين قرروا أن يفضحوا لعبته الرامية إلى عرقلة صفقة تبادل الأسرى بحسب الصحيفة العبرية التي قالت إن تلك التصريحات لا تمثل وجهة نظر المجلس الوزاري.
#عاجل | نتنياهو: إسرائيل لن توافق على مطالب حماس التي تعني الاستسلام وستواصل القتال حتى تحقيق كل أهدافها
📌الرضوخ لمطالب حماس سيكون هزيمة كارثية لإسرائيل
📌 لا يمكن لإسرائيل قبول مطالب حماس بإنهاء الحرب وسحب القوات من غزة وترك حماس في السلطة pic.twitter.com/RESGqU2upb
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) May 5, 2024
وكان وفد من حركة حماس ومسؤولون قطريون وأمريكيون قد وصلوا إلى القاهرة السبت 4/5/2024 للمشاركة في جولة جديدة من المفاوضات، فيما رفضت الحكومة الإسرائيلية إرسال وفدها، وهي الخطوة التي لاقت ترحيبًا كبيرًا من أعضاء اليمين المتطرف داخل الحكومة وعلى رأسهم وزيري المالية والأمن القومي.
المثير للجدل أن نتنياهو وفريقه دوما ما كانوا يتحججون بعرقلة حماس للمفاوضات وأنها السبب في إرجاء إبرام صفقة للتبادل، وبعد أن أبدت المقاومة مرونة نسبية في عملية التفاوض هذه المرة، تراجع رئيس الحكومة عن الاتفاق، فما الدوافع من وراء هذا الموقف المتناقض؟
أجواء إيجابية ولكن
لأول مرة منذ انتهاء الهدنة السابقة ديسمبر/كانون الأول الماضي يخيم التفاؤل على أجواء المفاوضات، حتى لو كان حذرًا، لكنه يفرض نفسه بشكل واضح، وبمستوى أكثر حضورًا، وفق تصريحات المتابعين والمراقبين لمسار العملية التفاوضية لدى طرفي الأزمة والوسطاء.
وحاولت الولايات المتحدة ومصر وقطر تقريب وجهات النظر من خلال تدشين أرضية يمكن أن تكون منصة للانطلاق نحو صفقة قريبة، حيث تعهدت إدارة بايدن بتعهدات وقدمت ضمانات حاولت من خلالها طمأنة حماس بشان وقف دائم لإطلاق النار والوصول بمسار الاتفاق إلى إنهاء الحرب مستقبلا وهو الشرط الذي تتمسك به المقاومة وتعتبره خطًا أحمر.
وهو ما أكدته القناة الـ 12 الإسرائيلية التي أشارت إلى أن الجولة الحالية من المفاوضات قد شهدت تحولات لم تعرفهما الجولات السابقة، على رأسها نقل الإدارة الأمريكية لحماس عبر الوسيطين المصري والقطري التزامها بإنهاء الحرب سواء وافقت إسرائيل أم لا، متعهدة أن تنته بعد المرحلة الأولى من الصفقة.
هذا بجانب التقدم الملحوظ في ملف أسماء الأسرى المحكوم عليهم بالمؤبد في سجون الاحتلال، والتي كانت تشترط حماس أن يكونوا ضمن الصفقة، حيث قدم الاحتلال بعض التنازلات في تلك المسألة، علاوة على الاتفاق على بعض المرتكزات التي كانت قد تمسكت بها المقاومة في السابق مثل إعادة النازحين إلى منازلهم وانسحاب جيش الاحتلال من الممرات التي تقسم القطاع والاستعداد للتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار كعملية تمهيدية لإنهاء الحرب.
رئيس المكتب السياسي لحركة #حماس: #نتنياهو يخترع مبررات دائمة لاستمرار العدوان على غزة وتوسيع دائرة الصراع وتخريب الجهود المبذولة عبر الوسطاء pic.twitter.com/qBilvAnt4t
— TRT عربي (@TRTArabi) May 5, 2024
ورغم تلك الأجواء الإيجابية وفي الوقت الذي تتحدث فيه وسائل الإعلام العبرية عن اقتراب إبرام الصفقة، فاجأ نتنياهو الجميع برفضه إرسال الوفد الإسرائيلي للقاهرة، وهي الخطوة التي تنسف عمليًا تلك الأجواء التفاؤلية التي خيمت على الجولة الحالية وتعيد الأمور إلى المربع صفر مرة أخرى.
وقوبل هذا القرار الصادم للشارع الإسرائيلي بترحيب كبير من وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، فيما وصف وزير المالية بتسالي سموتريتش صفقة التبادل المحتملة بأنها “صفقة استسلام” وأنها ستكون “كارثة” على إسرائيل، مضيفًا أن “الحكومة الإسرائيلية لديها تفويض واحد فقط؛ هو النصر”.
نتنياهو “الرهينة” يعرقل الصفقة
أثار قرار عدم إرسال الوفد التفاوضي للقاهرة حفيظة المعارضة والشارع الإسرائيلي وقيادات كبيرة في المؤسسة العسكرية، حيث طالب زعيم المعارضة يائير لابيد رئيس الوزراء بسرعة إرسال الوفد، قائلا إنه ينبغي أن يكون متواجدًا الليلة ضمن أطراف العملية التفاوضية والوسطاء، مضيفًا “يجب ألا تعودوا من دون إبرام صفقة وإعادة المحتجزين، لا يوجد هناك مهمة أخرى، لا شيء آخر لنفعله” وتابع: “لا يوجد شيء اسمه نصر دون التوصل إلى اتفاق وعودة المحتجزين”.
وفي ذات السياق قالت عائلات الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة في بيان طارئ لها إن “الشعب الإسرائيلي يريد المختطفين أحياء ويوافق على دفع الثمن، لكن نتنياهو يفضّل التحالف مع بن غفير وسموتريتش”، مضيفة : “إن كان ثمن استعادة المختطفين وقف الحرب فيجب وقفها فوراً”.
أما القائد الأسبق للاستخبارات العسكرية عاموس يدلين فوصف -خلال تصريحات له للقناة الـ12 الإسرائيلية- بنيامين نتنياهو بـ “المختطف رقم 133″، لافتا أنه أصبح رهينة بيد كل من وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن القومي إيتمار بن غفير، وفق تعبيره، في إشارة إلى الرضوخ لضغوطهما بشأن عرقلة أي صفقة من شأنها أن تخفف التوتر وتُنهي الحرب مستقبلا.
تغطية صحفية | عائلات أسرى الاحتــ..ـلال تطالب نتنياهو بتحمل المسؤولية وإبرام صفقة تبادل مع حمــ..ـاس، مؤكدة أن التاريخ لن يغفر له تفويت هذه الفرصة لإعادة الأسرى pic.twitter.com/vaPJK5mnef
— شبكة رصد (@RassdNewsN) May 5, 2024
ويراوغ رئيس الحكومة العبرية بملف التفاوض مع المقاومة والوسطاء معًا، آملا في الوصول إلى صفقة مجانية، ثنائية التوجه، يستعيد من خلالها أسراه وفي نفس الوقت يواصل الحرب ومواصلة القتال، وهي الصفقة التي يعلم يقينًا أنها مرفوضة شكلا ومضمونا من قبل المفاوض الفلسطيني.
وفي المقابل، ورغم تلك المراوغات، أبدت حماس مرونة نسبية هذه المرة مقارنة بالجولات السابقة، حيث أكد عضو المكتب السياسي للحركة حسام بدران، أن هناك جدية كبيرة في التعامل مع التفاوض، ورغبة كبيرة في التوصل لاتفاق ينهي معاناة الغزيين، لافتا أن نتنياهو وحكومته يتعمدان تعطيل أي هدنة أو تهدئة، فيما أكدت مصادر حمساوية أخرى أن حرص الحركة على التوصل لاتفاق لا يعني أن يكون بأي ثمن، مشددًا على مرتكزاتها الثابتة وعلى رأسها وقف كامل للحرب وانسحاب الاحتلال من كل قطاع غزة”، محملا رئيس الحكومة الإسرائيلية مسئولية عرقلة الصفقة.
الاستماتة في عرقلة الصفقة.. ما الهدف؟
يبذل نتنياهو قصارى جهده لاستمرار الحرب وقطع الطريق على أي محاولات لإنهائها، إيمانا منه أنها إن انتهت في ظل تلك الوضعية، حيث الفشل في تحقيق أهدافها الثلاثة المعلنة ( القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا لإسرائيل)، فإنها تحمل شهادة وفاته السياسية، وربما تقوده إلى السجن ليقضي به ما تبقى من حياته.
وعليه يتعامل رئيس الحكومة المختطف من اليمين المتطرف بحسب وصف عاموس يدلين، مع الحرب بشكل برغماتي شخصي، على أنها مسألة حياة أو موت، بالنسبة له وجنرالاته المقربين، ومن ثم فإن القبول بطي صفحتها عملية صعبة ومعقدة وتحتاج لضغوط من نوع خاص.
ومما يزيد من وضعية نتنياهو الحرجة فشله بعد أكثر من 210 يوم على الحرب في تحقيق أي من أهدافها، فلا حرر أسيرًا واحدًا على مدار أكثر من سبعة أشهر كاملة، رغم تدميره ما يزيد عن ثلثي القطاع، ولا ضمن ألا تشكل غزة تهديدًا لإسرائيل، حيث لا تزال صافرات الإنذار تدوي في سماء عسقلان ومدن الغلاف جراء رشقات المقاومة، هذا بخلاف القضاء على حماس وبنيتها والتي لا تزال تكبد جيش الاحتلال خسائر فادحة في الشمال والوسط وخان يونس.
وفي ضوء تلك الأجواء فإن أي تهدئة أو هدنة مع حماس تعني باختصار انتصارها رسميًا رغم حجم الخسائر الهائلة في صفوف الفلسطينيين، وهو الانتصار الذي يعني بالتبعية هزيمة نكراء لجيش الاحتلال الذي شُوهت صورته ولُطخت سمعته وفقد استراتيجية الردع التي كان يتشدق بها على مدار السنوات الماضية.
حتى إن رضخ نتنياهو لضغوط الشارع الإسرائيلي الغاضب، وضغوط الحلفاء في أمريكا وأوروبا، وقبل بصفقة تبادل حتى لو كانت مؤقتة، فإن حكومته قد تتعرض لضربة كبيرة ربما تطيح بها من المشهد، خاصة إذا ما نفذ وزراء اليمين المتطرف تهديدهم بالانسحاب من الحكومة حال القبول باتفاق تبادل ووقف الحرب، مما يزيد من تأزم الموقف ويضع رئيس الحكومة في مأزق سياسي معقد.
مراسلة #العربية لانا كلغاصي: #نتنياهو يتمسك بتنفيذ عملية عسكرية في رفح.. ومجلس الحرب يجتمع لبحث آخر التطورات pic.twitter.com/hZmsuf2nNF
— العربية (@AlArabiya) May 5, 2024
ومن هنا وبحسب ما قالته صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية فإن نتنياهو من خلال تصريحاته السلبية حول اتفاق الهدنة، والإصرار على عملية رفح والتلويح بها بين الحين والأخر، يهدف إلى إيهام الرأي العام الإسرائيلي، بأن هناك إجماعا على مسألة التصعيد العسكري ضد صفقة تبادل الأسرى، في محاولة لخلق مزاج شعبي وهمي داعم لإدارته لتلك الحرب التي تجمع النخبة السياسية والعسكرية في الداخل الإسرائيلي على فشلها.
ومما يزيد من وضعية نتنياهو المتأزمة ويكرس صلفا وعنادًا إزاء أي محاولات للتهدئة إيمانه ولأول مرة منذ بداية الحرب أن المقاومة في وضعية تفاوض أقوى، إذ أنها تخلصت بشكل كبير من الضغوط والأعباء التي كانت عليها طيلة الأشهر السبعة الماضية، فبجانب فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، فقد دفعت المقاومة والغزيون الجزء الأكبر من فاتورة الدم بارتقاء أكثر من 34 ألف شهيد، ونزوح ما يقرب من مليون ونصف وتدمير الجزء الأكبر من القطاع، وهي الفاتورة التي كانت تشكل ثقلا كبيرًا على القرار السياسي لحماس وبقية الفصائل.
علاوة على عدم قدرة الكيان المحتل على تحقيق أي منجز ميدانيًا مهما طال أمد القتال، إذ تحولت الحرب إلى معركة بلا هدف، وهو ما يوقع المفاوض الإسرائيلي تحت ضغوط ربما لا تقع تحتها حماس خاصة بعد انتقالها لمرحلة العمليات النوعية -ذات النفس الطويل- في استهداف الإسرائيليين، بالإضافة إلى البيئة الإقليمية والدولية التي تصب في صالح المقاومة والمزاج الشعبي العالمي الداعم لحق الفلسطينيين والمندد بإجرام ووحشية وعنصرية جيش الاحتلال.
واستخلاصا لما سبق، وفي ضوء تلك الأجواء التي تسير عكس عقارب ساعة الكيان المحتل، يحاول نتنياهو، بشكل برغماتي شخصي، إطالة أمد الحرب قدر الإمكان، والتصدي لأي محاولات من شأنها التهدئة وإسدال ستار القتال، لتبقى الكرة في ملعب الشارع الإسرائيلي ومن خلفه الأمريكي، قبل أن يتورط جيش المحتل في مستنقع رفح، وهي المعركة التي من المتوقع أن تغير كثيرًا من ملامح المعادلة بما لا يخدم مصالح الإسرائيليين على الإطلاق.