رغم أنها ليست المرة الأولى التي يزور فيها نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، الشرق الأوسط، غير أن الزيارة المرتقبة هذا الأسبوع فرضت نفسها بقوة على بورصة الاهتمام العربي والإقليمي والدولي، كونها تأتي بعد قرار الرئيس دونالد ترامب الأخير بنقل سفارة بلاده للقدس والاعتراف بها عاصمة لدولة الاحتلال.
الزيارة المقرر لها 3 أيام سيلتقي خلالها بنس – أحد أبرز الداعمين لقرار رئيسه – قادة الصف الأول في كل من القاهرة وتل أبيب، تحمل الكثير من التساؤلات عن دوافعها الحقيقية والرسائل التي يحملها نائب الرئيس الأمريكي في حقيبته، خاصة بعد التأكد من فقدان رد الفعل العربي والإسلامي القدرة على اتخاذ أي موقف إيجابي يقلق ترامب أو يدفعه للتراجع عن موقفه.
الشراكة الأمريكية مع دولة الاحتلال وتعزيز العلاقات مع العالم العربي وفق مرحلة ما بعد الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، أبرز ما يسعى الذراع اليمنى لترامب التأكيد عليه خلال جولته التي ستتأثر بلا شك بقرار الـ6 من ديسمبر/كانون الأول، لكن يبقى السؤال: لماذا القاهرة؟ وهل يُطلب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الضغط على الفلسطينيين لقبول الأمر الواقع؟
زيارة حائط البراق
كان من المقرر أن يبدأ بنس جولته للشرق الأوسط في الأول من هذا الأسبوع، لكن تغييرات طرأت على جدوله المحدد بسبب التصويت على مشروع قانون الضرائب الأمريكي واحتمال الحاجة لصوته لترجيح كفة التصويت في مجلس الشيوخ، دفعته لتأجيلها ليومين آخرين.
ومن ثم بات من المقرر – وفق التعديل الجديد – أن يغادر نائب الرئيس الأمريكي، واشنطن، مساء الثلاثاء 19من ديسمبر/كانون الأول ليصل إلى القاهرة ظهر الأربعاء في زيارة لا تتجاوز بضع ساعات يلتقي خلالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ليتوجه بعدها وفي ساعة متأخرة من نفس اليوم إلى “إسرائيل”.
وسيلتقي بنس خلال زيارته للكيان الصهيوني التي من المفترض أن تستغرق يومًا ونصف تقريبًا بكل من رئيس الكيان ريئوفين ريفلين، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كما يلقي خطابًا أمام البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) ويزور الحائط الغربي (البراق) في القدس.
وفي صباح الجمعة 22 من ديسمبر/كانون الأول يغادر نائب ترامب تل أبيب متوجهًا إلى العاصمة الألمانية، برلين، حيث سيزور القوات الأمريكية الموجودة هناك، بحسب “رويترز“.
ترامب خلال زيارته لحائط البراق بالقدس
دعم تل أبيب
الهدف الرئيسي الذي يؤكد عليه بنس خلال جولته السريعة للشرق الأوسط يتمحور حول دعم الكيان الصهيوني في مرحلته الجديدة بعد الاعتراف بالقدس عاصمة له، وهو ما جاء على لسان أحد مسؤولي الإدارة الأمريكية للصحفيين في مؤتمر عبر الهاتف حين قال “لا يمكننا أن نتصور سيناريو لا يكون بموجبه الحائط الغربي جزءًا من (إسرائيل)”.
الإدارة الأمريكية وإن كانت متخوفة بعض الشيء من رد الفعل العربي والإسلامي حيال قرار ترامب، إلا أنه وبعد مرور ما يقرب من عشرة أيام دون اتخاذ موقف حازم بدأت في الانتقال للتفكير لما أسمته “الفصل الثاني” من هذا المخطط، حيث أشار مسؤول آخر معلقًا على هذه الجولة إلى أن “الأسابيع الأخيرة في المنطقة كانت ردة فعل على قرار القدس، هذه الجولة جزء من إنهاء هذا الفصل وبداية ما أقول إنه الفصل التالي”.
تتزامن زيارة نائب ترامب مع زيارة مرتقبة خلال الأسبوع المقبل لمبعوث الرئيس الأمريكي للسلام في الشرق الأوسط، جايسون غرينبلات، لدولة الاحتلال بهدف “بحث دفع عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين”، بحسب صحيفة “هآرتس” العبرية.
الصحيفة نقلت عن مسؤول – لم تسمه – في البيت الأبيض أن إدارة الرئيس الأمريكي توقعت رد الفعل الذي أعقب قرار نقل السفارة، سواء على المستوى العربي أو الدولي، “لكنها ستواصل العمل لتحقيق السلام في المنطقة”.
مغازلة الصهيونية
“وفيت بوعدي، وآخرون لم يفعلوا”، بهذه التغريدة التي كتبها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” في الـ8 من ديسمبر/كانون الأول، أماط اللثام قليلاً عن الدوافع الحقيقية وراء هذا القرار الذي قوبل بمعارضة من بعض الأمريكان أنفسهم.
ترامب الذي يواجه ضغوطًا داخلية غير مسبوقة كفيلة بأن تطيح به من البيت الأبيض في أي وقت، لم يجد في حزمة أوراق الضغط التي بين يديه سوى مغازلة تكتل اليهود الأمريكان والتودد إلى اللوبي الصهيوني، من خلال هذا القرار الذي ظل حلمًا يراودهم طيلة عقود مضت، ولم يجرؤ أي رئيس سابق على تحقيقه.
الإدارة الأمريكية وإن كانت متخوفة بعض الشيء من رد الفعل العربي والإسلامي حيال قرار ترامب، إلا أنه وبعد مرور ما يقرب من عشرة أيام دون اتخاذ موقف حازم بدأت في الانتقال للتفكير لما أسمته “الفصل الثاني” من هذا المخطط
النفوذ الذي يتمتع به هذا اللوبي في ظل إحكام سيطرته على معظم أركان القرار السيادي في أمريكا أغرى الرئيس الأمريكي بالعزف على وتر إرضائه مهما كان الثمن، فالرجل الذي يفكر بعقلية التاجر، لم يجد غضاضة على الإطلاق في الخروج من مأزقه الداخلي الذي يضمن له البقاء على العرش الأمريكي حتى لو كان ذلك على حساب إشعال الشرق الأوسط وخسارة حلفائه في المنطقة.
ورغم التحذيرات الداخلية والخارجية من رد الفعل العربي والإسلامي حيال هذا القرار وهو ما قد يعجل بالإطاحة بترامب بدلاً من الإبقاء على كرسيه، غير أن الأيام التالية لقراره جاءت لتصب في صالحه، وذلك بعد أن كسب الرهان على دعم حلفائه له بامتصاص هذا الغضب والاكتفاء بما اعتادوا عليه من خلال بيانات الإدانة والشجب والاستنكار.
I fulfilled my campaign promise – others didn’t! pic.twitter.com/bYdaOHmPVJ
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) December 8, 2017
حلفاء ترامب يوفون بالوعد
البيانات الصادرة عن العواصم العربية في أعقاب إعلان ترامب عن قراره جاءت لتؤكد حالة الفصام الواضحة بين الأنظمة العربية وشعوبها، فالرفض للقرار كان على مستوى الشارع والشعوب التي خرجت لتعبر عن رأيها بصورة سلمية في صورة تظاهرات بعضها قوبل بالقمع والاعتقال والتنكيل.
بينما جاءت مواقف الحكومات هزيلة لا ترتقي لمستوى خطورة الحدث وتداعياته، فقد عزف الحكام العرب – كالعادة – على أوتار الإدانة والشجب ومناشدة الرئيس الأمريكي التراجع عن قراره، فيما جاء رد بعض العواصم مستفزًا لدى البعض، وهو ما جسدته – على سبيل المثال – تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، خلال حوار له مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، حين أكد أنه رغم قرار ترامب، لا يزال يرى في واشنطن مفاوضًا نزيهًا في القضية الفلسطينية.
هذا بخلاف مساعي بعض الدول لإفشال الجهود الإقليمية التي يقوم بها آخرون لدعم قضية القدس من خلال تدشين تحالفات عربية وإسلامية للتصدي لهذا القرار، كما حدث مع القمة الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي التي عقدت في إسطنبول قبل ثلاثة أيام في ظل تغيب معظم قيادات الصف الأول لحكام العرب والمسلمين عن الحضور في الوقت الذي هرولوا فيه للقاء ترامب في الرياض خلال زيارته مايو الماضي.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف النقاب عن مواقف بعض الحكام العرب حيال هذا القرار ودورهم في التنسيق له مع الجانب الأمريكي، ففي مقابلة أجرتها القناة العاشرة الإسرائيلية مع وزير الاستخبارات والمواصلات لدى دولة الاحتلال يسرائيل كاتس، كشف أن الإدارة الأمريكية قامت مسبقًا بالتنسيق مع قادة من الدول العربية بشأن قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، وبدء إجراءات نقل السفارة الأمريكية إليها.
لقاء نائب ترامب مع الرئيس المصري لا شك أنه سيتطرق إلى كيفية التعاطي مع المرحلة القادمة بعد الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وهو ما قد لا تعترض عليه القاهرة بشكل مباشر
المعلق السياسي للقناة الإسرائيلية باراك رفيد، نقل عن مسؤول وصف بـ”الكبير جدًا” داخل الإدارة الأمريكية ارتياح واشنطن لما أسماه “التنديد المنضبط” الصادر عن الدول العربية “المعتدلة” بشأن قرار ترامب، ورهان القيادات الأمريكية على قدرة موقف الحكومات العربية على امتصاص رد الفعل.
وفي المقابل أكد محرر الشؤون العربية بالقناة العاشرة الإسرائيلية تسفي يحزيقالي أن: “قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” ما كان ليصدر لولا حدوث تفاهمات على المستوى الإقليمي بين ترامب والسعودية ومصر”.
وهو ما يتماشى مع شهادة دبلوماسي أمريكي في القاهرة بشأن اتصالات الساعات الأخيرة التي سبقت إعلان قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس، حين كشف عن إجراء عدد من الاتصالات بين الرئيس الأمريكي وبعض القادة العرب، لافتًا إلى أن بعض السفارات الأمريكية في البلدان العربية رفعت تقارير تحذر من رد فعل الشارع في بعض العواصم العربية، إلا أنه يبدو أن لدى الإدارة الأمريكية تقاريرًا أخرى توضح مدى ملاءمة هذه المرحلة لذلك القرار.
ومن ثم فإن نجاح حلفاء أمريكا في المنطقة في الحفاظ على مصالحها دون المساس بها، وانحسار الغضب العربي في التظاهرات الشعبية – العاجزة – بعيدًا عن الأنظمة والحكومات، وعدم الإقدام على اتخاذ أي من القرارات الصعبة التي كان يعول عليها الكثيرون كاستدعاء السفراء الأمريكان لدى الدول العربية أو التلويح بقطع العلاقات وغير ذلك من وسائل الضغط الدبلوماسي الذي كان من الممكن اللجوء إليها، كل هذا شجع الرئيس الأمريكي في إيفاد نائبه لاستطلاع الأجواء على أرض الواقع، والإعداد للمرحلة القادمة من الخطة.
تصاعد مستوى التفاهمات المصرية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة
الشعوب تقول لا
للأسبوع الثاني على التوالي تنتفض الشعوب العربية في العديد من العواصم رفضًا لقرار الرئيس الأمريكي، حيث يواصل الفلسطينيون تظاهراتهم واحتجاجاتهم المنددة بتهويد القدس في عدد من المدن الفلسطينية، وهو الحال في بعض المدن العربية والإسلامية الأخرى كعمان والقاهرة والرباط وتونس وأنقرة وغيرها.
بعض المصادر أشارت إلى رفض شعبي لزيارة بنس للشرق الأوسط، حيث كشف البعض أن إعلان النواب العرب في الكنيست مقاطعتهم للخطاب المزمع أن يلقيه نائب الرئيس الأمريكي من داخل البرلمان الإسرائيلي، هذا بخلاف رفض مسؤولين من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ببيت لحم مقابلته أيضًا اعتراضًا على هذه الخطوة، في الوقت الذي يسعى فيه مبعوث الرئيس الأمريكي إلى إلقاء الضوء على محنة الأقليات المسيحية في المنطقة، وهو نفس الموقف المعلن للرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وفي القاهرة أيضًا أعلن كل من شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وبابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية تواضروس، رفضهما لمقابلته خلال زيارته للقاهرة الأربعاء القادم، في رسالة مفادها أن هناك رفضًا شعبيًا لهذه الخطوة حتى إن كان للأنظمة رأي آخر.
البيانات الصادرة عن العواصم العربية في أعقاب إعلان ترامب عن قراره جاءت لتؤكد حالة الفصام الواضحة بين الأنظمة العربية وشعوبها
لقاء نائب ترامب مع الرئيس المصري لا شك أنه سيتطرق إلى كيفية التعاطي مع المرحلة القادمة بعد الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وهو ما قد لا تعترض عليه القاهرة بشكل مباشر، خاصة أن الكثير من المصادر أشارت إلى تنسيق مسبق مع الجانب المصري قبيل اتخاذ هذه الخطوة، في إطار دورها الواضح لتمرير “صفقة القرن”.
احتمالية دفع السيسي للضغط على الجانب الفلسطيني للقبول بالوضع الجديد قد يكون أمرًا مستبعدًا بحسب البعض، غير أنه سيأتي بلا شك في إطار سياسة “تكسير موجة” الغضب العربي التي بدأت تتلاشى يومًا بعد يوم، وهو ما يجعل من لقاء بنس فرصة للحكومة المصرية لمناقشة قرار اتخذته الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة لتعليق بعض المساعدات العسكرية للقاهرة بسبب مخاوف واشنطن بشأن الحريات المدنية.
ومن ثم فإن جولة نائب الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط، في حقيقتها استطلاع للأجواء بعد الهدوء النسبي للغضب العربي حيال قرار ترامب، والتمهيد للمرحلة التالية التي ستتطلب جهدًا أكبر لقبول الحكومات العربية بهذه الخطوة، ورغم تقليل البعض من تأثير انتفاضة الشارع في مقابل انبطاح واضح للأنظمة، فإن التاريخ ربما يحفظ للشعوب مواقفها في الوقت الذي تذهب في مواقف الحكام إلى مزابل النسيان.