ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد صعودي إلى الحافلة في طريق عودتي إلى البيت يوم الأربعاء، لمحت شابة تجلس وحيدة منكبة على هاتفها، وتصرخ بصوت عال بلكنة إنجليزية، قبل أن يتبين لي بأنها لكنة أسكتلندية. فتقدمت منها وسألتها ما الخطب، حينها انتبه كل من في الحافلة وبدؤوا يتضرعون لي بأن أهدئ من روع الفتاة وأن أخبرها بأن عليها البقاء في الحافلة حتى بلوغ المحطة التي تقصدها، ومن الواضح أني قد فقدت الكثير من الدراما في تلك اللحظة.
في الحقيقة، كنت أعلم سبب الحزن الذي تملكها، لقد كانت شابة وحيدة تشعر بالضعف وبالحاجة إلى بعض الراحة، إلا أنها جوبهت بحلول عمليّة لمشكلة عمليّةٍ أيضا، ما زاد من شعورها بالإحباط. وبعد مشاهدتي لحلقة من المسلسل الأمريكي “الحدائق والمتنزهات”، حيث تتذمر “آن” من حملها وقلة الراحة لتحث “كريس” على مد يد العون لها، أصبحت أفهم أن تلك الفتاة كانت تحتاج مني شيئا من العطف.
خلال تلك اللحظة، بمجرد أن قلت لها بأن تتوقف عن البكاء، مع جلوسي قبالتها تماما، وأخذ كل منا نفسا عميقا لمدة سبع ثوان، وتشابكت أيدينا بشكل رباعي ثم أطلق كل منا الهواء من صدره لمدة سبع ثواني، بدا المشهد كأنه مقتطف من مسلسل “الحدائق والمتنزهات”. حينها أخبرتني الفتاة بأن عمرها 22 سنة وجاءت إلى لندن من أجل الالتحاق بعملها الجديد في حفلة الكريسماس، وأنها منهكة من بؤس البعد عن العائلة.
الوحدة مجرد شعور، والعمل على تغيير مشاعر الناس على نطاق واسع من أصعب الأمور
لاحقا، تبين لي أن هذه الفتاة قادمة في الأصل من مدينة كورنوال، وكانت تدرس بجامعة إدنبرة وأعجبتها المدينة، وتشعر بالحنين إليها كل يوم. وبالحديث عن مناقب مدينة إدنبرة وعن كأس الشاي والبسكويت وأوبر تحسنت حالتها كثيرا، حتى أنها اعتقدت بأني “ملاك الرحمة” الذي نزل إليها من السماء.
في اليوم الموالي، تباهيت أمام صديقتي ماري لكوني جسدت دور “ملاك الرحمة”، فملاك الرحمة التي تعرفها ماري كانت شابة تدربت على العمل في العلاج الطبيعي وتحصلت على وظيفة في عنبر للمسنين في مستشفى يقع في مدينة غير مألوفة، وشاركت شقتها مع شيوخ أكبر منها سنا لا تشترك معهم في أي شيء. ولأنها لا تمتلك الإمكانيات اللازمة لإنهاء عقدها والعودة إلى البيت، أصابها المرض من شدة الوحدة. وعادة إلى البيت لتتلقى الرعاية من قبل والديها.
باختصار، إن المغزى من كل هذه القصص هو التدبر في الكيفية التي تجد بها الوحدة سبيلا لتجتاح حياتنا المعاصرة. دون أدنى شك، هناك الكثير من الأشخاص العمليين الذين يسافرون إلى مسافات بعيدة بحثا عن فرصة أفضل للعمل، وليختاروا السكن الذي ينسجم وإمكانياتهم المالية في إطار قاعدة الإقتار في النفقات، مع تعلم أن المسار الصعب للإنسانية لا يكون إلا من خلال القيام بأشياء ملموسة. وفي هذا السياق، تفاقمت الوحدة كلما بازدهار المجتمعات الحديثة، حتى أصبحت الوحدة مرض الحداثة.
في هذا السياق، يعتبر ما صرحت به لجنة جو كوكس حول الوحدة مؤشرا ينذر بتعاظم الخطر الذي يمثله هذا المرض ومدى انتشاره. فكل النقاط التي أشير إليها بعد نهاية سنة كاملة من الدراسة تبدوا وكأنها تصب في مصب واحد، ويبقى العمل على تجاوز هذه المشكلة من أصعب المهام. لهذا، ترى اللجنة أنه من الضروري اتخاذ جملة من التدابير التي يجب أن تترجم إلى واقع عملي، ويشرف عليها وزير حكومي يأخذ بزمام المبادرة بصورة أشمل. ولكن الوحدة مجرد شعور، والعمل على تغيير مشاعر الناس على نطاق واسع من أصعب الأمور.
أصبحت المدارس بيئة ضغط أكثر من كونها أماكن لتربية الناشئة واستمالتهم خلال فترة الطفولة
في الواقع، يدرك بعض الأفراد أن الوحدة ليست بالضرورة شعورا يلازم من هم دائما بمفردهم، أو بمعزل عن أولئك الذين يعيشون بين أقرانهم. ومن أبرز علاجات الوحدة أن تشعر بأنك جزء من شيء ما أكبر من نفسك، كالانتماء إلى العائلة أو مجموعة من الأصدقاء، أو طائفة أو جمعية خيرية، أو أي تجمع بشري من هذا القبيل. وإن كانت مجموعة صغيرة قليلة الموارد، فالانتماء إليها يشعر بأن الجميع متحدون مع بعض لتحقيق غاية ما.
من جانب آخر، تعد النزعة الفردية على نقيض هذا، فهي تتطلب من الفرد أن يمثل نفسه فقط، في إطار فلسفة التجزئة، وإيديولوجية صناعة الوحدة، وهو المسار الخاطئ لتطور الإنسانية الذي جعل من البشر مخلوقات نرجسية لا يهتمون إلا بأنفسهم، حتى أصابتهم العزلة. فكل ما يحتاجه الشخص هو الشعور بأن احتياجاته كإنسان هي نفس الاحتياجات التي لدى الآخرين. ولكن بالنسبة للكثير من البشر، يعتبر هذا الهدف النفسي لعنة، فعدم المساواة تجعل الإنسان وحيدا ولو بلغ القمة.
في سياق متصل، أشار تقرير لجنة جو كوكس إلى أن المؤسسات المجتمعية تعيش ركودا في علاقتها بالأفراد، على غرار الكنائس والحانات وأماكن العمل والنوادي الاجتماعية. كما أصبحت المدارس بيئة ضغط أكثر من كونها أماكن لتربية الناشئة واستمالتهم خلال فترة الطفولة، حتى أن المحلات التجارية التي تقع على ناصية الطريق قد تغيرت كثيرا.
على سبيل المثال، كان متجر “مايك أند رينا” الذي يقع في الحي الذي أعيش فيه، والذي نشأنا معه منذ الطفولة حتى البلوغ، شاهدا على أبنائي وهم يكبرون، إلا أن العلامة التجارية التعاونية كانت حاضرة بين أعضاء لجنة جو كوكس، وستفتح هذا الأسبوع متجرا جديدا بالقرب من متجر “مايك أند رينا”، وستسحقهم حتما. ولكني سأواصل اقتناء حاجاتي من هناك. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه من السهل أن نعرف موضع الخطئ ولكن من الصعب مقاومة التمتع بالمزيد من الراحة.
إلى جانب ذلك، أشار تقرير اللجنة إلى تنامي مشاعر التسلط في هذا العصر، تلك المشاعر المرفقة بالرغبة في السيطرة وإشباع الحاجات الذاتية وعدم مخالفة ما هو سائد. فأن تكون إنسانا لم يعد يميزك بشيء، فكيف يتوقع أن يكون الشخص سعيدا من الداخل بينما يتلقى رسائل خارجية محورها “حاول بجد، افعل الأفضل، تسلق الهرم لبلوغ مراتب أعلى، لا تفشل؟”، خاصة وأن الفشل اليوم يحاكم بقسوة، حتى أصبح اللغز الحقيقي لحياة اليوم: كيف لشخص ما أن يشعر بالأمان بين صحبته؟
المصدر: الغارديان