خلافًا لكل التوقعات والتفاؤل الذي أبدته حكومة الرئيس عمر البشير فور صدور القرار الأمريكي برفع العقوبات الاقتصادية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واصل الجنيه السوداني هبوطه أمام الدولار حتى وصل إلى 28 جنيهًا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
الأزمة السياسية في السودان هي مصدر رئيس للأزمة الاقتصادية المستفحلة، فلا يمكن إيقاف التدهور المستمر في العملة الوطنية من دون إعادة هيكلة اقتصاد البلاد ليتحول من ريعي إلى إنتاجي تنموي لمصلحة كل السودانيين، خصوصًا الفقراء، بل لا سبيل لتعافي الاقتصاد الوطني في وجود نظام حكمٍ يعتمد سياسة التمكين الاقتصادي لمنسوبيه مع استمرار الهدر الفادح للموارد العامة بسبب الفساد وسوء الإدارة وتركيز الصرف على الحرب والأمن وعلى الجهاز السياسي والإداري المترهل بلا جدوى.
الجنيه السوداني عبر التاريخ
ربما لن يصدقنا أحد إذا قلنا إن الجنيه السوداني كان يعادل 3 دولارات أمريكية و40 سنتًا حتى مجيء انقلاب المشير جعفر نميري في مايو/أيار من العام 1969! ولم يكن هناك سوق سوداء لبيع وشراء العملات الحرة.
ويروي أحد الذين درسوا بالجامعات المصرية في تلك الفترة أن والده كان يرسل إليه مصروفه الشهري بالجنيه السوداني عن طريق القادمين إلى القاهرة من الخرطوم، وكان الطالب يقوم بتحويل العملة إلى جنيهات مصرية في الصرافات المنتشرة بمنطقة وسط البلد، حيث كان الجنيه السوداني يعادل 1.5 جنيه مصري في فصل الصيف و1.3 في أيام الشتاء.
يحكي الرجل نفسه أن الرسوم الدراسية التي يدفعها حاليًّا لابنته الطالبة بإحدى الجامعات الخاصة في السودان تصل إلى 4 آلاف دولار سنويا وتشترط الجامعة سدادها بالعملة الحرة نقدًا.
بدأ الجنيه السوداني يفقد قيمته في سبعينيات القرن الماضي خلال سنوات حكم الرئيس الأسبق جعفر النميري، فقد أصبح الجنيه في بداية الثمانينيات يعادل نحو دولارين، ثم تدهور أكثر في عهد حكومة الأحزاب ليصبح الدولار الواحد يساوي 2.5 جنيه سوداني.
أما التدهور الحقيقي فقد حدث بعد استيلاء عمر البشير على الحكم بانقلاب عسكري في يونيو/حزيران من العام 1989 ليرتفع الدولار إلى 12 جنيهًا سودانيًا دفعة واحدة، حينها لجأت حكومة “الإنقاذ” إلى حيلة حذف ثلاثة أصفار من العملة الوطنية بدلًا من مواجهة الواقع بشجاعة فالجنيه الحاليّ ليس حقيقيًا بعدما جرى من حذف للأصفار في التسعينيات.
من الأسباب التي جعلت الجنيه السوداني يفقد قيمته بهذه الطريقة الفجوة الكبيرة بين المعروض والمطلوب من الدولار
غير أن السنوات التي أعقبت استخراج البترول السوداني في بداية الألفية الجديدة واتفاقية السلام الشامل، شهدت انتعاشًا ملحوظًا للاقتصاد ولقيمة الجنيه أمام العملات الأخرى، فقد استقرّ عند حاجز 2.5 مقابل الدولار، “2500” جنيه دون حذف الأصفار.
انفصال الجنوب.. بداية الانهيار
عندما يطالع القارئ أي خبر اقتصادي عن السودان في وسائل الإعلام العالمية، لا بد أن يجد العبارة التالية: “ويعاني السودان شُحًا في النقد الأجنبي منذ انفصال جنوب السودان 2011، وفقدانه لثلاثة أرباع موارده النفطية والتي كانت تشكل ما يقارب 80% من موارد النقد الأجنبي وميزانية البلاد مما أدى إلى تدهور قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية”، بالفعل انفصال الجنوب كان كارثيًا على اقتصاد السودان الأم رغم تطمينات المسؤولين آنذاك بأن اقتصاد البلاد لن يتأخر بفقدان عائدات النفط وأن حصائل صادرات الذهب ستغطي فجوة إيرادات البترول.
بعد مرور شهور قليلة على انفصال جنوب السودان هبطت قيمة العملة الوطنية إلى 6 جنيهات مقابل الدولار واستمر التدهور بوتيرة متسارعة رغم المحاولات المستمية لإنقاذه، ليصل إلى 9 جنيهات في العام 2014 و12 في العام الذي يليه، ثم تخطى حاجز الـ17 في العام الماضي، ووصل إلى 28 خلال نوفمبر الماضي وهو سعر قياسي لم يصله من قبل.
أبرز أسباب الانهيار
أول الأسباب التي جعلت الجنيه السوداني يفقد قيمته بهذه الطريقة هي الفجوة الكبيرة بين المعروض والمطلوب من الدولار، إذ إن الإيرادات في موازنة 2017 لم تزد على 3 مليارات دولار بينما تجاوزت الواردات 8 مليار دولار، فبعد انفصال الجنوب وفقدان عائدات النفط لم يعد لدى الحكومة السودانية موارد تذكر لشراء النقد الأجنبي غير القليل من الصادرات الزراعية وكميات محدودة من الذهب وهذا الأخير مملوك في الغالب الأعم لشركات تعمل في التنقيب بالإضافة إلى بعض المعدنين التقليديين.
ثانيًا، التراجع المتواصل لأداء القطاعات الحقيقية الرئيسية “الزراعة والصناعة”، رغم الموارد الهائلة التي تتمتع بها البلاد، بل على النقيض تمامًا وضعت الدولة العراقيل أمام المنتجين والمزارعين، إذ أثقلت كواهلهم بالرسوم والجبايات المتنوعة حتى وصل الحال بالسلطات إلى فرض ضريبة على المياه التي تروي المساحات المزروعة.
لجأت الحكومة إلى الإيرادات السهلة وامتصاص جيوب المواطنين من خلال زيادة أسعار المحروقات والدواء تحت مسمى (رفع الدعم)
ثالثًا، تسببت السياسات التي انتهجتها الحكومة السودانية في دمار البنية التحتية لاقتصاد البلاد، مما أدى إلى انهيار المشروعات الكبرى، كمشروع الجزيرة (أكبر مشروع زراعي في إفريقيا)، بسبب إهمال الإنتاج وتوريط البلاد في قروض دولية من أجل مشروعات وهمية، مثل سد مَرَوي الذي قيل عنه ذات يوم إنه سيكون “نهاية الفقر في السودان”، لم يجنِ المواطن من ورائه شيئًا غير السراب، حتى الكهرباء التي توّقع الناس استقرارها بعد افتتاحه أصبحت تتذبذب وتكثر قطوعاتها، خصوصًا في فصل الصيف.
رابعًا، الفساد المستشري الذي ضاعت بسببه موارد البلاد، فقد اختفت وتبخّرت عائدات البترول المقدرة بنحو 80 مليار دولار، فلا يُعرف بالتحديد أين ذهبت تلك الأموال الضخمة حيث لا توجد شفافية ولا مصارحة بل إن المشروعات التي يتحجج بها منسوبو الحكومة من طرق وكباري تم تشييدها بواسطة قروض وديون تتوارثها الأجيال بفوائدها الضخمة وليست بأموال البترول الضائعة.
خامسًا، لجأت الحكومة إلى الإيرادات السهلة وامتصاص جيوب المواطنين من خلال زيادة أسعار المحروقات والدواء تحت مسمى (رفع الدعم)، كما زادت ضريبة القيمة المضافة لتصل إلى 17% وضريبة الاتصالات لتصبح 35%، فضلاً عن زيادة ضريبة القطاع التجاري وأرباح الأعمال ودولار الجمارك.
وبكل تأكيد، أدت تلك الإجراءات إلى خروج عدد من الشركات والاستثمارات الأجنبية، ورفع نسبة التضخم الذي وصل إلى 46%.
سادسًا، من أسباب تدهور قيمة الجنيه اعتماد السودان على المعونات والودائع من الدول الشقيقة والصديقة، بدلًا من تنويع الاقتصاد ووضع خطة عاجلة لتأهيل مشروع الجزيرة ودفع عجلة الإنتاج عمومًا بجانب تشجيع صغار المنتجين ورواد الأعمال.
سابعًا، الأعداد المهولة من الدستوريين الذين تضمهم المؤسسات الحكومية بدءًا من رئاسة الجمهورية ثم مجلس الوزراء وحكومات الولايات، بغرض الترضيات والمحاباة لأعضاء الحزب الحاكم والأحزاب الموالية له، فليس هناك من داعٍ لهذه الجيوش الجرارة من الولاة والوزراء المركزيين والولائيين وغيرهم.
عندما رفعت أمريكا العقوبات الاقتصادية لم تكن البلاد مستعدة لتلك المرحلة، فلم تُجهز خطة لرفع الإنتاج وتشغيل البنية التصنيعية المتوقفة بنسبة 80%
ثامنًا، بسبب عدم ثقة المواطنين في الحكومة تضيع تحويلات السودانيين العاملين بالخارج المقدرة بنحو 6 مليار دولار سنويًا، فمهما حاولت حكومة السودان استقطابها لتتم عبر الجهاز المصرفي لا تجد آذانًا صاغية لعدم ثقة المغترب في أجهزة الحكومة التي تذيقه الأمرّين في دفع الرسوم والجبايات والضرائب المتنوعة.
رفع العقوبات الأمريكية والتطورات الأخيرة
قرار الإدارة الأمريكية الصادر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي برفع العقوبات عن السودان لم يؤثر في كبح جماح الدولار، بل استمر في صعوده أمام الجنيه، ببساطة لأن الطموحات التي صاحبت عملية رفع العقوبات الأمريكية عن البلاد لم تكن واقعية على الإطلاق، لأن العقوبات الاقتصادية واحدة من حزمة عقوبات مفروضة على الخرطوم منها عقوبات سياسية والإدارية، ثم إن انخفاض سعر الدولار أو ارتفاعه يعتمد على عملية الإنتاج والاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال وليس بالأماني والطموحات كما كان يروج المسؤولون السودانيون.
وعندما رفعت أمريكا العقوبات الاقتصادية لم تكن البلاد مستعدة لتلك المرحلة فلم تُجهز خطة لرفع الإنتاج وتشغيل البنية التصنيعية المتوقفة بنسبة 80%، والتحضير لمرحلة التصدير وتشجيع المنتجين، زيادة على أن البنك المركزي لا يمتلك أي أدوات للسيطرة على الدولار بل يتهم البعض الجهات الحكومية نفسها بأنها أكبر مشترٍ للدولار من السوق السوداء لعدم توفر النقد الأجنبي لديها.
التحركات السياسية لحكومة السودان تدل على التخبط فأحيانًا يراها المراقب تغازل الولايات المتحدة وتسعى لنيل رضائها من أجل تطبيع العلاقات ورفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، ثم فوجئ الكل بالرئيس عمر البشير يدلي بتصريحاته المثيرة للجدل في روسيا والتي عُدّت اقترابًا من المحور الروسي وابتعادًا عن أمريكا.
كيف يتم إيقاف التدهور ورفع قيمة الجنيه؟
فشلت حكومة الخرطوم فشلًا ذريعًا في وقف تدهور قيمة الجنيه السوداني وفي إدارة الاقتصاد الكلي لاتباعها سياسة “رزق اليوم باليوم” فلا يوجد من يضع لها الخطط والسياسات الثابتة، بل قام الحزب الحاكم بإسناد المناصب لأصحاب الولاء وغالبيتهم غير مختصين في إدارة الاقتصاد.
لكن إذا أرادت الحكومة السودانية وقف انهيار الجنيه السوداني فإن الحل سهل لكنه يحتاج إلى إجراءات وقرارات شجاعة تعيد ثقة المواطن ومن بينها: السعي إلى إيقاف الحرب وإحلال السلام في ربوع البلاد وبذلك يتوقف صرف الأموال الطائلة على القتال والخراب لتتحول إلى التنمية ومشروعات البنية التحتية.
تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي بتوفير المناخ الملائم من سياسات وقوانين وبنية تحتية قوية من طرق ومواني وطاقة وغيرها من الأساسيات
إلى جانب اتخاذ قرار جرئ بحل الحكومة الحاليّة وتسريح الأعداد الهائلة من المسؤولين وشاغلي المناصب من المستشارين وولاة الولايات وغيرهم، فيكفي أن يكون بالبلاد ستة أقاليم فقط هي الاقليم الشمالي، الشرقي، دارفور، كردفان، الإقليم الأوسط وتكون للعاصمة وضعها الخاص.
الأهم من ذلك محاربة الفساد الذي استشرى في العهد الحاليّ حتى حاز السودان على مرتبة متقدمة في قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم! فضلاً عن ضرورة إقالة الطاقم الذي يدير اقتصاد الدولة، الذي كان أحد أسباب هذا الفشل والتدهور، بدلاً عنهم، يتم الاستعانة بكفاءات سودانية خالصة “تكنوقراط” لا علاقة لهم بالأحزاب ولا الكيانات السياسية.
فضلًا عن توجيه القطاع المصرفي والمؤسسات المعنية بتمويل الإنتاج والصناعة، وإعداد خطة لتأهيل مشروع الجزيرة واستغلال أكبر حيز من المساحات الصالحة للزراعة التي تبلغ 200 مليون فدان.
بالإضافة إلى تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي بتوفير المناخ الملائم من سياسات وقوانين وبنية تحتية قوية من طرق ومواني وطاقة وغيرها من الأساسيات، بجانب الدخول في شراكات مع دول صديقة للاستثمار في القطاعات الإنتاجية المشار إليها، وتحريك قطاع السياحة المهمل الذي بإمكانه سد الفجوة في النقد الأجنبي.
نشير إلى أن الحلول الأمنية ومحاولة تخويف الناس من التعامل في السوق السوداء وبيع وشراء العملات لن تجدي ولن تخفض السعر، ببساطة لأن الحكومة ليس لديها نقد أجنبي لسد حاجة المواطنين لذلك سيلجأ المتعاملون للسوق السوداء بطرقٍ ملتوية وقد تتم عملية تسليم وتسلُّم النقد الأجنبي خارج حدود الوطن.
وفي هذا الشأن يقول الخبير الاقتصادي التجاني الطيب: “الإصلاح الاقتصادي يجب أن يكون حزمة واحدة من الإجراءات والسياسات المتكاملة، بعيدًا عن الحلول الجزئية التي تعقد الحلول وتفاقم الأوضاع المالية والاقتصادية المتأزمة أصلاً، فمحاولة معالجة سعر الصرف دون معالجة عدم التوازن في الاقتصاد الكلي أشبه بمعالجة السرطان بالأسبرين، مما يؤدي إلى زيادة وتيرة تدهور العملة السودانية مقابل الدولار والعملات الأجنبية الأخرى المتداولة، لذا، بات من اللازم إعادة النظر بصورة جادة في السياسات والأنظمة المالية والنقدية”.