ظلّت الصين لسنوات تُراقِب بحسدٍ هيمنة الغرب على قطاع البرمجيات والرقائق التي يتم الاعتماد عليها في تشغيل كل شيء حاليًا، لكن يبدو أن ميزان القوى في مجال التكنولوجيا أخذ في التحول، وهذه المرة لمصلحة العملاق النائم (لقب أطلقه القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت على الصين)، حيث تسعى حكومة بكين لأن تُشارِك بقوة في سباق الـ AI، ذلك لأن من يتخلف عن الركب قد يخسر كل شيء في العصر الرقمي الحاليّ، الذي أصبح في الذكاء الاصطناعي أحد أعمدته.
في هذا المقال سنستعرض المعركة الجارية للتسلُّحِ بالذكاء الاصطناعي، بين أمريكا والصين، وإلى من يؤول الفوز في النهاية؟
أمريكا والذكاء الاصطناعي
تنتهج الولايات المتحدة الأمريكية نهجان للهيمنة على الذكاء الاصطناعي: الأول هو الاستثمار في القدرات الأمريكية لدفع البلاد إلى الأمام، والآخر هو محاولة إبطاء الصين. وتقوم أمريكا بالأمرين معًا، فتعمل بنشاط على تقييد قدرة الصين على الحصول على أحدث الرقائق ومعدات تصنيعها، إلى جانب اتخاذ بعض الإجراءات لمحاولة منع الصين من الوصول إلى أفضل خوارزميات وأنظمة الذكاء الاصطناعي. لماذا؟ لأن الهيمنة على الذكاء الاصطناعي يعني التفوق في القوة العسكرية.
ترى كلتا الدولتين أن القتال في الجيل أو الجيلين القادمين سيتغير تمامًا بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهكذا فإن القدرة على دمج أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تطورًا في الجيش ستكون ميزة كبيرة، لذا فإن كلا البلدين يريدان ذلك وكلاهما مرعوبان من امتلاك الدولة الأخرى لتلك التقنية قبل أن تفعل هي ذلك.
علاوة على ذلك، تعتمد القوة العسكرية إلى حد كبير على القوة الاقتصادية، ومن المتوقع أن يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا هائلًا في النمو الاقتصادي على مدى الأجيال القليلة القادمة، وبالتالي أي دولة ستتفوق على منافساتها في سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي، يعني أنها قد تبسط هيمنتها على العالم، ولهذا فإن هناك صراعًا قويًا بين أمريكا والصين على غرار الصراع القديم بين أمريكا وروسيا حول الوصول إلى الفضاء في الماضي.
الصين والذكاء الاصطناعي
الصين، الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، هي موطن لـ1.4 مليار شخص، 700 مليون منهم على شبكة الإنترنت يتواصلون بنفس اللغة، ونتيجة لذلك تمتلك الصين عاملي إنتاج أساسيين هما الأكثر أهمية في دفع تنمية الذكاء الاصطناعي: البيانات والموهبة، لذا فمن المفهوم إنتاج الصين نحو 20% من البيانات العالمية، وهي مواد خام لتغذية تطوير الذكاء الاصطناعي.
أما بالنسبة للمواهب، فإن الصين – استنادًا إلى قاعدتها السكانية الكبيرة والتدريب الرياضي الصارم في برنامج التعليم الوطني – تُنتج باحثين في مجال التعلُّم الآلي والتعلم العميق لسد الفجوة في كل من الصين وخارجها، ويُمكن رؤية ذلك بوضوح، حيث يرأس مجموعة التعلم الآلي السحابي لدى جوجل، اثنان من العلماء الأمريكيين ذوي الأصول الصينية هما: جيا لي وفاي فاي لي. علاوة على ذلك، لاحظنا موجة من كبار العلماء والمديرين الأمريكيين الموهوبين في مجال الذكاء الاصطناعي من ذوي الخلفية الصينية يعودون إلى الصين.
يعود سعي الصين للدخول بقوة في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى عام 2017، عندما هزم برنامج الذكاء الاصطناعي AlphaGo، الذي أنشأته شركة ديب مايند التابعة لألفابت، Ke Jie أفضل لاعب في العالم في لعبة الغو، حين فاز الـAI فوزًا ساحقًا بنتيجة 3-0. وهكذا أصبحت لعبة الغو الصينية، رمزًا لجهود الصين الملحة للدخول بقوة في مجال الذكاء الاصطناعي.
ورغم أن الصين حققت تقدُمًا ملحوظًا، وهو ما تجسد في إطلاق روبوت المُحادثة القائم على الذكاء الاصطناعي التابع لشركة بايدو، وبرنامج إرني بوت القائم على الاشتراك بالإضافة إلى أكثر من 100 نموذج لغوي كبير، فإن هذا لا يعني أن الصين تتفوق على أمريكا والغرب في سباق التسلُّح بتقنيات AI، حيث تواجه الشركات الصينية تحديات كثيرة ومعقدة مثل الوصول المحدود إلى الرقائق المتقدمة، واللوائح الصارمة، والرقابة، وارتفاع تكاليف التطوير، وسوق التكنولوجيا المجزأة.
ويتجلى التزام الصين بتعزيز دورها في هذا القطاع الحيوي من خلال السياسات المختلفة ومبادرات التمويل والخطط الاستراتيجية التي تضع بكين على الطريق لتصبح رائدة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، بما في ذلك استراتيجيات شاملة لتمويل البحوث وتوظيف المواهب وتطوير البنية التحتية المخصصة.
لا يُعزى صعود الصين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى الدعم الحكومي فحسب، بل يرجع أيضًا، إلى مساهمة المؤسسات والشركات الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي مثل “بايدو” و”تينسنت” و”علي بابا” و”سينس تايم”، فقد أصبحت هذه الشركات بمثابة نقاط جذب للمواهب العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، ما ساهم بدفع الصين في مجال AI وتطوير نماذج متقدمة في مجالات مثل معالجة اللغة الطبيعية والتعرف على الصور وأنظمة التوصية.
علاوة على ذلك، يشمل تطبيق الذكاء الاصطناعي في الصين قطاعات مختلفة، ما يؤثر بشكل كبير على الرعاية الصحية والنقل والتعليم، ففي مجال الرعاية الصحية، يُمكن الكشف المبكر عن الأمراض، وفي مجال النقل تم تحسين طرق مشاركة الرحلات، وهناك مشروع أبولو لشركة بايدو لتطوير مركبات ذاتية القيادة، وفي قطاع التعليم، تعمل منصات التعلم الشخصية وأنظمة التدريس المعتمدة على الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل المشهد التعليمي، وتقديم تجارب تعليمية مخصصة وتعزيز الكفاءة الإدارية.
سباق الذكاء الاصطناعي
تتنافس القوتان العظمتان مع بعضهما البعض على كل شيء، بدءًا من المعرفة الفكرية لتصميم أجهزة وبرامج الذكاء الاصطناعي، وإلى المواد الخام التي تعمل على تشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي. وتستخدم كلتاهما أيضًا الدعم الحكومي لتحفيز التطورات الجديدة.
المكان الذي تتولى فيه أمريكا الريادة في الوقت الحاليّ هو تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل نماذج اللغات الكبيرة (LLMs)، أيضًا، هناك ميزة أخرى للولايات المتحدة وهي أنها تستطيع فرض قيود على التصدير لأشباه الموصلات عالية الأداء التي صممتها شركات مثل إنفيديا والتي يزداد الطلب عليها في جميع أنحاء عالم الذكاء الاصطناعي.
على الجانب الآخر، لن تظل الصين صامتة، بل ترد بطريقتها الخاصة، حيث تُقيِّد تصدير معادن صناعة الرقائق مثل الغاليوم والجرمانيوم إلى الولايات المتحدة، كما جمعت صندوقًا جديدًا للرقائق بقيمة 27 مليار دولار لبناء مصانع عملاقة يمكنها منافسة مصانع الرقائق الأمريكية.
العقوبات الأمريكية والعقبات الصينية
تواجه الصين عقبة كبيرة وهي العقوبات الأمريكية الناجمة عن الحرب الاقتصادية التي تشنها واشنطن وتؤثر سلبًا على طموحات بكين اللامحدودة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تواجه الشركات الصينية قيودًا أمريكية تمنعها من شراء ما تحتاجه من عتاد وتكنولوجيا متطورة، بالإضافة إلى أن الشركات الأمريكية يُحظر عليها بيع منتجاتها لأي شركة صينية، وبالتالي لا تستطيع الشركات الصينية الحصول على وحدات معالجة رسوميات متقدمة مثل Nvidia H100 (بحجة مخاوف تتعلق بالأمن القومي الأمريكي) التي تعتبر من الأشياء الحيوية لتطوير نماذج اللغات الكبيرة المتقدمة (LLMs).
في الناحية المُقابلة، استطاعت شركات التكنولوجيا الكبرى، بما في ذلك “مايكروسوفت” و”ميتا” و”جوجل” و”أمازون” و”أوراكل”، الحصول على كل ما يلزمها من معدات وأدوات للدخول بقوة في مجال AI وضخ مليارات الدولارات في تلك التقنيات الناشئة، لهذا يرى البروفيسور وانغ شويي من جامعة تيانجين نورمال إن القضية الحاسمة المتمثلة في القدرة الحاسوبية المحدودة والجودة النسبية للبيانات الواردة من مصادر الإنترنت بلغة الماندرين مقارنة باللغة الإنجليزية، تُعيق تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين. وهكذا بدأت الفجوة في الاتساع بين التكنولوجية الصينية والغربية التي تتسارع بقوة بفضل ChatGPT من OpenAi، وجيميناي من Google وغيرهما.
ختامًا، إن سعي الصين لقيادة سباق الذكاء الاصطناعي هو مسعى متعدد الأوجه يتسم بالتحديات والفرص على حد سواء، ومع اشتداد المنافسة، خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن النتيجة لن تشكل مستقبل الذكاء الاصطناعي فحسب، بل ستؤثر أيضًا على توازن القوى العالمي في المشهد التكنولوجي وخارجه.