حضارة تونس
كثيرًا ما يذهب لظن البعض أن حضارة تونس التي كان يطلق عليها اسم “إفريقية”، بدأ مع الحضارة القرطاجية، إلا أن العديد من المؤرخين يرجعون تاريخ هذه البلاد العريقة لعهود سحيقة، حيث تعاقبت عليها العديد من الحضارات التي جلبتها ثروات هذه الأرض وأهمية موقعها الإستراتيجي في قلب حوض البحر الأبيض المتوسط.
الحضارات التي مرت على تونس
الحضارة القبصية
تُعد الحضارة القبصية (نسبة إلى مدينة قفصة) التي امتدت من سنة 6800 قبل الميلاد إلى سنة 4500 قبل الميلاد (تقول كتب أخرى إن تاريخها امتد بين سنتي 10000 و6000 قبل الميلاد)، أول مظاهر المجتمعات الإنسانية المنظمة بتونس.
تميزت الحضارة القبصية، حسب كتب التاريخ، بصناعة أدوات حجرية كبيرة
تقسم الحضارة القبصية تقليديًا إلى قسمين: هما الحضارة القبصية المثالية والحضارة القبصية العليا، أظهرت الدراسات الأولى أن الحضارة الأولى سبقت الثانية، إذ إن الطبقات الجيولوجية لأحافير الحضارة الأولى توضع تحت طبقات أحافير الحضارة الثانية، ومن هنا كانت التسمية، ومنذ سنة 1974، أثبتت الدراسات الحديثة أن الحضارتين لا تتلاحقان وإنما تتزامنان، لذا كانت هاتان التسميتان خاطئتين.
تميزت الحضارة القبصية، حسب كتب التاريخ، بصناعة أدوات حجرية كبيرة، مصنوعة من صفيحات صوانية ذات قفا منحوت بحدة، منها الشفرات والمكاشط وخاصة، ولم يكن الشكل الهندسي لهذه الأدوات مهمًا لديهم، فإن وُجد فهو مثلث، أما صناعة الأدوات العظمية فهي نادرة لديهم وغير متطورة، وهي متمثلة في مثاقب ضيقة مستدقة الطرفين.
الحضارة القرطاجية
يعود تأسيسها إلى سنة 814 قبل الميلاد، وتقول الأسطورة إن تأسيسها تم على يد الأميرة الفينيقية عليسة التي هربت من أخيها مع أصحابها من مدينة صور بلبنان، وسموا المدينة “قَرْتْ حَدَشْتْ” بمعنى “المدينة الجديدة” فأصبح الاسم “قرطاج” عن طريق النطق اللاتيني.
بمرور الوقت ضعفت الإمبراطورية التجارية الفينيقية وورثت الإمبراطورية القرطاجية أمجادها ومستعمراتها وقامت بتوسيع رقعتها لتشمل جزءًا كبيرًا من سواحل البحر الأبيض المتوسط، ونظرًا لموقعها الإستراتيجي والمُطل على حوضي المتوسط، استطاعت بسط نفوذها والسيطرة على حركة التجارة.
قوس النصر
في سنة 264 قبل الميلاد دخلت قرطاج في سلسلة من الحروب اشتهرت باسم الحروب البونيقية، مع الإمبراطورية الرومانية التي تأسست سنة 753 قبل الميلاد، ومن أهم هذه الحروب، الحرب البونيقية الثانية التي قادها القائد حنبعل الذي قام بعبور سلستي البيريني والألب بفيلته (218 قبل الميلاد – 202 قبل الميلاد).
انتهت هذه الحروب بهزيمة القرطاجيين وإضعافهم بشكل كبير خاصة بعد حرب زوما المفصلية ما مهد الطريق لحرب ثالثة وحاسمة انتهت بزوال قرطاج وخراب المدينة وقيام الرومانيين بإنشاء “أفريكا” أول مقاطعة رومانية بشمال إفريقيا وذلك سنة 146 قبل الميلاد.
الفترة الرومانية
امتد الحكم الرماني بتونس من سنة 146 قبل الميلاد إلى سنة 431 ميلادي، في البداية كانت عاصمة الحكم أوتيكا، ثم تحولت إلى مدينة قرطاج بعد أن تم إعادة بنائها في عهد أقتاوينوس ابن يوليوس قيصر بالتبني ومؤسس النظام الإمبراطوري.
مسرح الجم
ازدهرت المنطقة خلال العهد الروماني على جميع الأصعدة، واحتوى المجال التونسي خلال العهد الروماني على أكثر من 200 مدينة، من هذه المدن نذكر إضافة إلى قرطاج، هدرومتوم (سوسة) نيابوليس (نابل) توقا (دقة) مكتريس (مكثر) سيكا فينيريا (الكاف) أوينا (أوذنة) تيسدروس (الجم) وغيرها من المدن التي أنشئت أو أعيد تهيئتها على النمط الروماني لتوطين الجيوش وعائلاتهم والمهاجرين الإيطاليين.
خلال تلك الفترة ازدهرت مدينة قرطاج، باعتبارها عاصمة الولاية وثالث مدينة في العالم الروماني بعد روما والقسطنطينية من حيث الحجم وعدد السكان، واحتوت المدينة جملة من المعالم كالفوروم (الساحة العمومية) والكابيتوليم (معبد الديانة الرسمية للدولة الرومانية) وحمامات ومسارح نصف دائرية ودائرية كمسرح مدينة تيسدروس.
الفترة الوندالية
حكموا البلاد بين سنتي 431 ميلاديًا و533 ميلاديًا، والونداليون (فرع من الجرمانيين) هم ورثة الإمبراطورية الرومانية، تركوا إسبانيا وغزوا إفريقيا الشمالية عبر البحر المتوسط تحت قيادة ملكهم جنسريق، وكان ذلك تحت ضغط القوط الغربيين، وتعود سرعة احتلال الوندال لشمال إفريقيا إلى مساعدة البربر لهم والسبب في ذلك أنهم كانوا ينفرون من سلطة روما ويطمحون إلى الاستقلال.
أقام جنسريق في إفريقيا دولة عظيمة حسب التقاليد الجرمانية التي لم يتردد في إدخال تغييرات عليها كلما اقتضى الأمر ذلك
سيطر الوندال على نوميديا وما يليها غربًا واتخذوا من بونة عاصمة مملكتهم واستغلوا في ذلك ضعف روما وتمزقها وكذلك اشتغال الرومان بحرب القوط، فلم يهمل ملك الوندال “جنسريق” هذه الفرصة وذهب إلى قرطاجنة ففتحها من غير عناء، وقد أقام جنسريق في إفريقيا دولة عظيمة حسب التقاليد الجرمانية التي لم يتردد في إدخال تغييرات عليها كلما اقتضى الأمر ذلك.
الحكم البيزنطي
انهزم الوندال على يد القبائل البربري سنة 530 ميلاديًا مما شجع البيزنطيين على القدوم لتونس واحتلالها والسيطرة على قرطاج سنة 533 ميلاديًا، وحاول البيزنطيون أن يسيروا في حكمهم لإفريقية على نهج الرومان فيها، وظلت البلاد تحت حكم البيزنطيين إلى أن فتحها المسلمون بعد ثلاثة فتوحات متتالية.
الدولة الأغلبية
رغم أن فتحها بالكامل كان سنة 693 ميلاديًا على يد حسان بن نعمان، لم تعرف تونس حكمًا إسلاميًا مستقلاً إلا بقيادة إبراهيم ابن الأغلب مؤسس الدولة الأغلبية بقرار من هارون الرشيد سنة 800 ميلادي الذي كان يريد بذلك وضع سد أمام الدويلات المنتشرة في غرب إفريقية، وقبل تلك الفترة حكم تونس الولاة الممثلون للأمويين ثم للعباسيين.
دام حكم الأغالبة 100 سنة وازدهرت خلاله الحياة الثقافية وأصبحت القيروان مركز إشعاع، كما شهدت نفس الفترة تأسيس أسطول بحري قوي لصد الهجومات الخارجية الذي مكن أسد بن الفرات لاحقًا من فتح جزيرة صقلية، وظلت دولة الأغالبة قائمة يتعاقب عليها أمراء البيت الأغلبي حتى قضى عليها الفاطميون سنة 909 هجري.
الحكم الفاطمي
بعد قرن من حكم الأغالبة تمكن الفاطميون إثر ثورة شيعية من حكم البلاد، على يد عبيد الله الفاطمي، وأسسوا لهم عاصمة أطلقوا عليها اسم “المهدية”، وقد نجح الفاطميون قبل انتقالهم من المهدية إلى القاهرة وعلى امتداد نصف قرن من حكمهم إفريقية في تطوير الإرث الحضاري الأغلبي والمحافظة على مملكة منظمة وقوية وبلد يسوده الغنى والهدوء.
خلال الحكم الفاطمي لتونس، عرفت البلاد إشعاعًا علميًا خلد ذكره التاريخ، ففي تلك الفترة أنجبت تونس العديد من الأدباء والعلماء في اللغة والطب ذائعي الصيت في العالم الإسلامي، فمع حنين ابن إسحاق وابن الجزار قدمت القيروان أحسن العلماء في الطب في تلك الفترة.
الحكم الصنهاجي
مع انتقال الفاطميين إلى مصر ولوا على إفريقية الصنهاجيين الذين استطاعوا القضاء على الفتن والثورات القبائلية المجاورة على حدود البلاد مما مكنهم من تعزيز حكمهم والاحتفاظ بالأراضي الشاسعة التي ورثوها عن الفاطميين.
شهدت تونس في عهد الصنهاجيين نهضة عمرانية وثقافية واقتصادية كبيرة، فازدهرت الزراعة في أنحاء البلاد بفضل انتشار وسائل الري، ووقع تشييد العديد من القصور والمكتبات والأسوار والحصون، فيما أصبحت عاصمتهم القيروان مركزًا مهمًا للعلم والأدب.
الحكم الحفصي
استمر حكم الحفصيين من سنة 1229 ميلاديًا إلى سنة 1535، بداية الحكم كانت عن طريق أبو زكريا الحفصي الذي اتخذ مدينة تونس عاصمة لحكمه، عرف القرن الأول من الحكم الحفصي لتونس سلسلة من الاضطرابات تمثلت في الصراع على السلطة بين أفراد العائلة المالكة وفي قيام مجموعة من القبائل الداخلية التي أرادت الانتقام، إلا أن القرن الثاني من حكمهم عرف الاستقرار والرفاهية وبالخصوص في أثناء فترتي حكم أبو العباس وأبو عثمان.
عرف الحفصيون كيف يوظفون مسألة الزوايا التي لعبت دورًا مهمًا في تأطير المجتمع
تمكن الحفصيون في أثناء حكمهم الطويل من تطوير المجالات الاجتماعية والاقتصادية والفلاحية والتعليمية والسياسية والمعمارية التي طبعت بطابعها جزءًا من تاريخ تونس، ونجح الحفصيون أيضًا في تطوير جيشهم وتقويته حتى أصبح من أحسن الجيوش في المغرب إلى بداية القرن السادس عشر.
جامع القصبة
خلال فترة حكمهم، عرف الحفصيون كيف يوظفون مسألة مهمة منتشرة داخل المجتمع وهي مسألة الزوايا التي لعبت دورًا مهمًا في تأطير المجتمع والمساعدة على تحقيق السلم والاستقرار، الدور الذي عجزت الدولة عن القيام به أحيانًا وهو ما يفسر رعاية الدولة لتلك الظاهرة حسب ما يورده المؤرخون.
الحكم الإسباني
امتدت فترة حكمهم لتونس من سنة 1535 إلى سنة 1574، جاءوا إلى تونس بطلب من السلطان أبو عبد الله محمد الحسن الذي استنجد بشارل الخامس ملك إسبانيا، ضد أخيه الأصغر رشيد، وفي تلك الفترة بقيت تونس محل صراع بين الإسبان والعثمانيين الذين استنجد بهم “رشيد” أخ السلطان.
الحكم العثماني
سنة 1574، تحولت تونس إلى إيالة عثمانية سمي على رأسها باشا يمثل السلطان العثماني، وبعد سنة 1591 أصبح الحكم عند الدايات، شهدت البلاد في أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر ازدهارًا واسعًا بفضل مداخيل الجهاد البحري وحلول الأندلسيين المطرودين من إسبانيا الذين أدخلوا حيوية لقطاع الفلاحة ولصناعات النسيج.
الحكم المرادي
بمرور الوقت ضعف أمر الدايات في الحكم العثماني على يد البايات (مكلف بجمع الضرائب وإخضاع القبائل المتمردة) وأولهم مراد باي عام (1022هـ/1613م) الذي يعد مؤسس أسرة البايات المرادية التي حكمت تونس.
استطاع البايات فرض نفوذهم في كامل البلاد بفضل عائدات الجباية وانفتاحهم على أعيان التجمعات الداخلية وتحالفهم مع القبائل، شهدت البلاد في فترة تولي حمودة باشا منصب الباي التي دامت 35 سنة، نهضة عمرانية بإنشاء عدة أسواق وبنايات كجامع حمودة باشا ودار حمودة باشا ودار الباي.
الحكم الحسيني
بقي حكم المراديين في تونس إلى أن تمكن حسين بن علي تركي من حكم البلاد وتأسيس الأسرة الحسينية التي حكمت تونس حتى عام 1957ميلاديًا وانتهت بقيام الجمهورية التونسية، من أشهر أفراد الأسرة الحسينية أحمد باشا باي الذي قام بإصلاحات داخلية مهمة، فأبطل الرق وشجع التعليم وأحل اللغة العربية بدلًا من التركية واهتم كثيرًا بالجيش فأنشأ مدرسة حربية عصرية كما اهتم بتسليح الجيش بالأسلحة الحديثة، ومحمد باي الثاني الذي أجرى عدة إصلاحات مهمة، وأصبحت تونس في عهده ملكية دستورية، وصدرت جريدة الرائد التونسي.
إمضاء اتفاقية الحماية
في عهد محمد الصادق باي الذي أصدر أول دستور في العالم العربي، لجأت تونس إلى الاقتراض من المصارف الأوروبية وزيادة الضرائب، مما أدى إلى انتفاضة القبائل سنة 1864 التي قُمعت بعنف ونجم عنها أسوأ النتائج، وأعلنت الدولة عجزها المالي وتشكلت اللجنة المالية المختلطة فكان هذا بداية السيطرة الأجنبية، وقد حاول الوزير خير الدين مواجهة الضغوط الأجنبية بإصلاحاته المالية التي لم ترضِ فرنسا وأصحاب المصالح من الأهلين وتمكنوا من عزله عام 1877 ميلاديًا.
وفي 1881 استغل الفرنسيون مناوشات على الحدود مع الجزائر التي يحتلونها منذ 1830 لغزو الإيالة، ورغم مقاومة عدة مناطق للقوات الفرنسية فإن الصادق الباي أجبر على إمضاء معاهدة باردو التي أصبحت على إثرها البلاد محمية فرنسية، واستمر الاحتلال الفرنسي لتونس إلى سنة 1956.