“ولكن من الحق أن نسجل للتاريخ أن هؤلاء القادة والزعماء تقدموا للقاء الخصم أشتاتًا وأحزابًا وشيعًا، لم تجتمع لهم كلمة أو يوحد لهم رأي، وأنهم كانوا في عالم من الوهم والخيال بعيد عن واقع أمتهم وواقع قضيتهم..”، يقول صاحب مذكرات “الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين”، محملًا تحامل زعماء وقادة البلاد على بعضهم بعضًا وزر ضياعها منهم في عام النكبة.
ليست أهمية شهادة رشيد الحاج إبراهيم “أبو العبد” في كون صاحبها مجرد شاهد على سقوط مدينته والبلاد عمومًا، إنما في كون صاحب الشهادة فاعلًا في الحدث الذي تدور عنه شهادته، فهو ابن مدينة حيفا ومن مواليدها سنة 1891 وشبَّ عن طوقه فيها.
وعمل موظفًا في سكك حديدها، ثم سياسيًّا وعضوًا في الحزب العربي في آخر أيام الحكم التركي على المدينة، ومؤسسًا لجريدة اليرموك اليومية بعد وقوع البلاد تحت نير الاستعمار البريطاني سنة 1924، ومديرًا لفرع البنك العربي في حيفا منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، ثم رفيقًا للشيخ عز الدين القسّام في تأسيس جمعية الشبان المسلمين الحيفاوية سنة 1928، ورئيسًا لها حتى سنة 1932 حيث خلفَه القسّام في رئاستها إلى حين استشهاد الأخير سنة 1935.
كما كان رشيد مطّلعًا على أدق تفاصيل الحركة القسّامية الثورية في المدينة، ومنظمًا لجنازة القسّام ورفاقه الشهداء يوم 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1935، حيث لفّ رشيد نعش الشهيد القسّام بالأعلام الثلاث، العراقي والسعودي واليمني، بعد أن خرجت حيفا عن بكرة أبيها لتشييع شيخها من مدينته سيرًا على الأقدام إلى مقبرة قرية بلد الشيخ.
ونُفي من مدينته على أيدي السلطات الاستعمارية البريطانية إلى جزيرة سيشيل النائية سنة 1937، ومعه بعض أعضاء اللجنة العليا وعلى رأسهم رئيس اللجنة المفتي الحاج أمين الحسيني، إثر نشاطهم في تثوير مدن البلاد وقراها على السلطات الاستعمارية (1936-1939)، ثم عاد إلى حيفا من منفاه سنة 1939 ليكون رشيد على موعد مع سنين من مسار دفع حيفا نحو نكبتها.
لم يترك رشيد الحاج إبراهيم مساحة من حياة حيفا السياسية والاجتماعية والتنظيمية والاقتصادية كذلك قبل النكبة، إلا ووقف فيها وعليها فاعلًا ومناضلًا، ما جعل لشهادته قيمة تفوق قيمة أي شهادة أخرى متعلقة بمدينته، لناحية صدق رشيد ومصداقية روايته وشفافيتها عن نكبة حيفا.
دوّن أبو العبد مذكراته بعد النكبة في اللجوء معتمدًا على ذاكرته، بعد أن ترك كل ما بحوزته من كتابات ووثائق وقصاصات ورق عن يوميات مدينته خلفه فيها، وصدرت مذكراته بطبعتها الأولى سنة 2005 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وقدم لها رشيد الخالدي مقدمة طويلة تناول فيها سيرة رشيد وحياته في سياق تطور حيفا وتحولاتها كمدينة ساحلية صناعية منذ مطلع القرن العشرين.
“كلوستروفوبيا” حيفا
شهدت مدينة حيفا تحولات كانت وتيرتها سريعة، للحدّ الذي غدت فيه حيفا أكبر مدينة صناعية-عمالية في فلسطين منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، حيث تثبّت الوجود البريطاني في حيفا وفي خليجها بالذات، ففي سنة 1933 انتهى العمل في بناء أحواض عميقة في المرفأ قادرة على استقبال السفن والناقلات الضخمة، ومدّ خط أنبوب النفط عبر الصحراء لشركة نفط العراق (IPC) الإنجليزية، وبناء محطة مصفاة البترول الريفاينري وبدء الضخّ فيها سنة 1934، وغيرها من المصانع مثل مصنع نيشر للإسمنت، ومصنع السكر ومطاحن القمح.
كان ذلك نقلة صناعية على مستوى المشرق كلّه وليس فلسطين فقط، الأمر الذي جعل من حيفا مدينة يقصدها العمال من مدن البلاد وقراها الداخلية، لتترتب عن ذلك قفزة ديموغرافية عرفتها المدينة على مستوى تعداد سكانها العرب من جانب، وتدفق الهجرة اليهودية إليها من جانب آخر.
إن أكبر نمو لـ”الوطن اليهودي القومي” في البلاد تمثل في مدينة حيفا تحديدًا، فبينما كانت نسبة اليهود سنة 1918 إلى مجمل عدد سكان حيفا تساوي الثُمن، تضاعفت خلال فترة وجيزة إلى الربع سنة 1922، وارتفعت إلى الثلث سنة 1931.
وامتدت الأحياء اليهودية الجديدة على سفوح جبل الكرمل لتشرف على الأحياء العربية الأقرب إلى الشاطئ، وأحاطت أسوار من المستعمرات والأراضي ذات الملكية اليهودية بالسكان العرب، بحيث وصف أحد كبار الموظفين البريطانيين، في تقرير له إلى رئيسه سنة 1924، شعور عرب حيفا بـ”الكلوستروفوبيا” أي “الخوف من الاختناق”، وانعكست هذه التحولات على أكثر من صعيد، ليس أقلها شأنًا صعيد المجلس البلدي.
تغيّرت حيفا كليًّا منذ عشرينيات القرن الماضي، وحتى الطريق التاريخي المؤدي إليها جرى تغييره في هذه المرحلة، بعد أن استعاض البريطانيون عن طريق حيفا الساحلي-الرملي القديم، بطريق برّي آخر حديث تحسّر عليه رشيد الحاج إبراهيم في مذكراته.
إن أخذ هذه التحولات بعين الاعتبار هام، ليس لناحية التعرُّف إلى وجه المدينة والتغييرات التي طاولته فحسب، بل لناحية فهم مسار نكبة حيفا الذي كانت تسير فيه منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
العامل الذاتي للنكبة
يسلّم رشيد الحاج إبراهيم في روايته بأن الانتداب البريطاني كان بذاته مقدمة لنكبة الفلسطينيين، وإقامة الدولة العبرية على أنقاض بيوتهم وأراضيهم، وذلك عبر سياسة التمكين التي مكّنت فيها بريطانيا الصهاينة من مقدرات البلاد على مدار سنين انتدابها، وتحديدًا في الجانب الاقتصادي، حيث قدمت حكومة الانتداب مساعدات لليهود، منها الأراضي والأموال وامتيازات المشاريع الرأسمالية.
وشملت مشروع كهرباء روتنبرغ وحق التصرف بمساقط المياه واحتكارها، ومشروع استغلال معادن البحر الميت، وحماية المصنوعات اليهودية بفرض ضرائب عالية على المصنوعات المستوردة من الخارج، عربية كانت أم أجنبية، على حساب المستهلك العربي، فضلًا عن المساعدات السياسية والعسكرية والاجتماعية إلى أن أصبح بوسع الصهاينة بتعبير الحاج إبراهيم الثبات والوقوف على أقدامهم.
ومع أهمية ذلك، إلا أن رشيد الحاج إبراهيم يؤكد على أن العوامل الذاتية الفلسطينية-العربية المتصلة بالسلبية المطلقة وسياسة الارتجال والأنانية، وعدم السعي لتوحيد القوى، والتراخي وعدم التهيؤ والاستعداد، والاستهتار بقوة العدو وإمكاناته، ومعها الخلافات ذات المسوح الشخصية بين الزعماء والقادة الفلسطينيين قبل الملوك والرؤساء العرب في تلك المرحلة، كان لها أثر كبير على سير الأحداث لصالح الصهيونية على حساب الشعب الفلسطيني ومصيره.
إذ يقول صاحب المذكرات: “ومع أني واثق كل الثقة أنه لم يكن بإمكان هؤلاء القادة وحدهم دفع خطر التهويد أو إبعاد شبح إسرائيل المخيف عن الأعين، إلا أن هؤلاء القادة كان بإمكانهم أن يجنّبوا عرب فلسطين الكرام الأباة قسطًا كبيرًا من النكبة”.
ليس قول رشيد الحاج إبراهيم هذا مجرد خطاب، أو قراءة بحثية للأحداث، إنما هي تجربة، وتجربته هو وفي حيفا تحديدًا، فواقع المدينة ووقائع أحداث يومياتها منذ مطلع عام 1948 قبل سقوطها، تثبت دور العامل الذاتي في نكبتها.
مؤتمر حيفا
يروي رشيد الحاج إبراهيم عن اجتماع شخصيات بارزة، زعماء ووزراء من سوريا والعراق وفلسطين كان رشيد من بينهم، عُقد في دمشق، وذلك إثر إصدار هيئة الأمم المتحدة في ليل 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 قرار تقسيم فلسطين، وإقامة وطن قومي لليهود فيها، وكذلك قرار بريطانيا بتخليها عن انتدابها ورفع قضية فلسطين لهيئة الأمم المتحدة، واتفق المجتمعون على إعلان الثورة، بلغة رشيد، على قرار التقسيم بوصفه اعتداء على عروبة فلسطين، ورغم رفض بعض الأصوات المجتمعة لخيار إعلان الثورة فإنه تم الاتفاق عليه في الأخير.
بعد ذلك عاد رشيد إلى حيفا وبادر ومعه مجموعة من ممثلين عن الجمعية الإسلامية والجبهة العربية والجمعية المسيحية في المدينة، بالتنسيق مع الهيئة العربية العليا التي كان يرأسها الحاج أمين الحسيني من منفاه في لبنان، ودعوا إلى مؤتمر عُقد بعد أيام من اجتماع دمشق مطلع ديسمبر/ كانون الأول 1947 في مدينة حيفا، وأقر المؤتمر في حينه جملة مقررات منها ما تعلق بمدينة حيفا خاصة، وأخرى تعلقت بفلسطين عامة.
وممّا أُقرّ بشأن حيفا بحسب رشيد كان: تقسيم المدينة إلى 10 مناطق دفاعية وانتداب لجنة خاصة بكل منطقة، تباشر اللجان إعداد قوائم بأسماء الشبان المناضلين، وجمع المال لتأمين السلاح والعتاد لمناضلي كل منطقة من المناطق، ثم تشكيل لجنة عُرفت باللجنة القومية، كان مهمتها الإشراف على عمل اللجان الفرعية الخاصة بالأحياء وتسهيل مهامها، وتقوية الروح المعنوية بين أهالي حيفا العرب ومقاومة الشائعات، وخلق جو وطني حماسي يلهب المشاعر ويدفع الشباب لعمل يحفظ بلدهم ويضمن سلامتهم.
هذا فضلًا عن جملة مقررات متعلقة بفلسطين عامة، كان أهمها أن تعلن الهيئة العربية العليا نفسها برئاسة الحاج أمين الحسيني حكومة شرعية لفلسطين العربية فور نهاية الانتداب، وغيرها من المقررات التي لا يتسع ذكرها هنا.
رُفعت قرارات المؤتمر بشكل رسمي إلى الهيئة العربية العليا للموافقة عليها، واُستدعى الحاج أمين رشيد شخصيًّا إلى لبنان بشأنها، واللافت بحسب رشيد أن الهيئة أعلنت في اليوم التالي لوصول مقررات مؤتمر حيفا لها، عبر الصحف العربية في بيروت، استنكارها لما أقرّه المؤتمر، ولفكرة إعلان نفسها حكومة عربية لفلسطين بعد انتهاء الانتداب.
إذ كانت الهيئة العليا تريد وضع كل ما يتعلق بقضية فلسطين وحماية أهلها بأيدي الدول العربية وجامعتها، الأمر الذي اعتبره رشيد بمثابة بداية وضع مدينة حيفا وفلسطين عمومًا على طريق نكبتها، كما يبيّن الخلل السياسي والتنظيمي الذي كان يعتري الزعامة الفلسطينية بالهيئة العليا في علاقتها مع القيادات المحلية في المدن الفلسطينية من جانب، ومع رؤساء وملوك الدول العربية من جانب آخر، فالارتجال والتناحر والركون فيما يتعلق بقضية فلسطين إلى الدول العربية هو ما دفع نحو المصير الذي آلت إليه البلاد، بحسب صاحب المذكرات.
مكة أدرى بشعابها
لم يلغِ رشيد الحاج إبراهيم يومًا البُعد العربي لقضية فلسطين، بوصفها قضية العرب لا الفلسطينيين وحدهم، غير أنه كان يرى بضرورة النظر إلى مجريات الأحداث على الأرض، ومواجهة خطر الصهيونية بعيون فلسطين وأهلها على طريقة “أهل مكة أدرى بشعابها”، فنظرته إلى ما تطلبته مدينته حيفا من إجراءات سياسية وعسكرية وتنظيمية لمواجهة مخططات الصهيونية وتواطؤ سلطات الانتداب معها، استمدها رشيد من واقع تجربته السياسية والتنظيمية في حيفا على مدار عقود.
على سبيل المثال، يُشير رشيد في معرض حديثه عن تنظيم المدينة سياسيًّا وعسكريًّا لمواجهة قرار التقسيم ونوايا الصهاينة إلى قضية “المسرّحين العرب”، أي الجنود العرب المسرّحون من الخدمة في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، إذ اعترضت الهيئة العربية العليا على ضمّ هؤلاء إلى حامية حيفا للدفاع عن مدينتهم، لاعتبارهم “خونة البلاد” من جانب بعض أعضاء الهيئة.
غير أن رشيد لم يرهم كذلك أبدًا، بل وجد باستيعابهم ضرورة عسكرية تحتاجها حامية المدينة لحمايتها، وذلك بحكم تجربتهم العسكرية وخبرتهم في القتال، خصوصًا أن كثرًا من بين أبناء المدينة والقرى المجاورة المتطوعين للدفاع عن حيفا كانت تنقصهم المعرفة والخبرة في الدفاع والقتال.
في الأخير، جرى استيعاب الجنود العرب المسرّحين في حامية المدينة، رغم اعتراض الهيئة العربية العليا عليهم، وكانوا أول من هبَّ للدفاع عن حيفا، ويقول رشيد متذكرًا إياهم: “دافع هؤلاء الأبطال عند حملة اليهود الكبرى عن حيفا بيتًا بيتًا، وسقط منهم نحو مئة شهيد لقوا ربهم وهم في سبيل الشرف وفي ساحة الأمانة القومية تولّاهم الله برحمته”.
تأسست اللجنة القومية في حيفا في مطلع ديسمبر/ كانون الأول 1947، بإيعاز من الهيئة العربية العليا التي أمرت رجالات البلاد بإقامة لجنة قومية في كل مدينة من المدن الفلسطينية، وهي بمثابة الجهاز التنظيمي المسؤول عن تنظيم شؤون الدفاع عن المدينة، والرابط الناظم للعلاقة ما بين المدينة والهيئة العربية العليا ورئيسها في الخارج.
بيّن رشيد جملة من التناقضات في علاقة الهيئة العليا باللجنة القومية الحيفاوية، من ناحية القرارات الارتجالية والاعتباطية التي حاولت الهيئة من الخارج أن تمليها على اللجنة في الداخل، مثل فرض الهيئة أسماء وأشخاصًا من خارج حيفا في عضوية اللجنة ومناصبها الحسّاسة، خصوصًا تلك المتصلة بالجانب العسكري-الأمني، دون أن يمتلك هؤلاء الحد الأدنى من معرفة ظروف حيفا ومتطلبات العمل فيها، ما تسبّب في كثير من الخلافات والنزاعات التنظيمية التي جاءت على حساب عمل اللجنة في أصعب أيام حيفا العصيبة.
نساء ورجال فاعلون
رغم ذلك، يكشف لنا رشيد الحاج إبراهيم في مذكراته مساحات مختلفة من العمل التنظيمي الميداني الذي قام به أبناء وبنات مدينة حيفا في مجالات مختلفة، من أجل حماية مدينتهم والدفاع عنها، منذ مطلع يناير/ كانون الثاني وحتى سقوط المدينة في أواخر أبريل/ نيسان 1948.
وما يبيّنه رشيد هو ذلك الدور الذي ضلعت به نساء حيفا في التنظُّم من أجل الدفاع عن مدينتهن، وقلّما أشارت المصادر والمراجع العربية والفلسطينية إلى دور المرأة الفلسطينية في نكبة بلادها، غير أن مدينة حيفا شهدت حراكًا نسائيًّا استثنائيًّا منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
عقدت نساء حيفا مؤتمر الاتحاد النسائي العربي يوم الجمعة 5 ديسمبر/ كانون الأول 1947 في المدينة، وترأّست المؤتمر السيدة مريم توفيق الخليل، وكانت عريفته السيدة ساذج نصار أرملة شيخ الصحافة الفلسطينية الراحل نجيب نصار.
وشارك أعضاء عن لجنة قومية حيفا في مؤتمر اتحاد النساء، الذي كان من أبرز مقرراته تشكيل فرق للمجنّدات العربيات يقمن بأعمال الإسعاف، وتعيين أماكن لتدريبهن تحت إشراف أطباء المدينة العرب، وافتتاح مستشفى ميداني لمعالجة الجرحى من رجال حامية حيفا وغيرهم، فضلًا عن موقفهن السياسي الواعي لفكرة رفض قرار التقسيم وإقامة وطن قومي لليهودي الذي أكدت عليه نساء المؤتمر.
واصل الاتحاد النسائي الحيفاوي عمله من خلال تأسيس المستشفى الذي عُرف باسم مستشفى الأمين برئاسة السيدة مريم الخليل، كما كان هناك مستشفى طوارئ لأحداث النكبة في حيفا هو مستشفى الهلال برئاسة السيدة قمر بهائي.
هذا فضلًا عن هيئات الإسعاف النسائية التي عملت ميدانيًّا بالتعاون مع مستشفيات الطوارئ، حيث لم تتوانَ لا المستشفيات ولا هيئات الإسعاف للحظة عن معالجة الجرحى والمصابين من أبناء وبنات المدينة، خلال المواجهات والمعارك التي خاضوها من مطلع عام نكبة المدينة إلى يوم تهجيرهم منها.
كما أشار رشيد إلى دور الحركة العمالية ودور العمال النضالي في حيفا، خصوصًا تلك المعركة التي خاضها عمال شركة تكرير البترول في المدينة ظهر يوم 28 ديسمبر/ كانون الأول 1947، وهي من أكثر المعارك العمالية دموية التي عُرفت في فلسطين قبل النكبة، حيث دافع العمال عن حقهم بوجه كل السياسات الممارَسة والمتراكمة عليهم، في مواجهة أسفرت عن عشرات القتلى من المهندسين والفنيين اليهود في الشركة، بينما استشهد فيها 4 عمال عرب بعد أن ألقى أحد الصهاينة قنبلة من باص على عمال من العرب كانوا على الطريق العام خارج معامل الشركة.
وممّا ظلَّ يأسف له صاحب المذكرات، هو قرار مغادرة العمال من أبناء القرى المحيطة بحيفا المدينة والعودة إلى قراهم في الأسابيع الأخيرة قبل سقوطها، إذ يرى رشيد أنهم لو بقوا فيها، فإنه سيكون في صالح ميزان قوى الحامية العربية أثناء مواجهات أبريل/ نيسان الأخيرة، لأن خروج العمال من حيفا بالنسبة إلى رشيد هو خروج لروحها منها.
في الأخير
تعجّ مذكرات رشيد الحاج إبراهيم بالموضوعات وتفاصيلها عن حيفا وحراكها الثوري في شهورها الأخيرة، إذ لم يترك بابًا إلا وحاول فتحه أو طرقه على الأقل، كي يضع القارئ في صورة مجريات تلك الأيام العصيبة من يوميات المدينة وصاحب المذكرات معًا، فقد تلقى رشيد خبر وفاة ولده سميح في بيروت يوم 16 أبريل/ نيسان 1948، أي قبل أسبوع واحد من سقوط حيفا.
لجنة حيفا وحاميتها، الهيئة العربية العليا وجيش الإنقاذ وضباطه في حيفا، سوريا ومصر وسؤال أزمة السلاح ما بين شحّه أو فساده أو سوء توزيعه، معارك البلدات والقرى المحيطة، شفاعمرو والطيرة وحوّاسة، البريطانيون ومؤامرة الجلاء، حكاية خروج أطفال حيفا، بلدية حيفا وخطاب “المدينة المفتوحة”، صهاينة حيفا ما بين فوقية الأحياء وتفوُّق التنظيم والإمكانات، كل من هذه التفاصيل قد يتطلب موضوعًا خاصًّا به للكتابة والحديث عنه من وحي مذكرات رشيد.
“سقطت حيفا يوم 22 من أبريل/ نيسان سنة 1948، وأعطيت الأوامر من حامية المدينة بالانسحاب في صباح يوم 23 أبريل/ نيسان. وبذلك انتهت المقاومة العربية في مدينة حيفا، وكان عدد رجال الحامية لا يزيد عن 580 شابًّا، استشهد منهم في المعركة الأخيرة الفاصلة نحو 60 شهيدًا و10 من رجال الإسعاف ومن المدنيين أكثر من مئة شهيد وزاد عدد الجرحى عن المئات”، يختم صاحب مذكرات الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين.
إن أهمّ ما أرادت مذكرات رشيد الحاج إبراهيم عن حيفا في طريق نكبتها أمران: الأول متعلق بالعامل الذاتي، الذي لم يكن مجرد تحميل من رشيد للقيادة الفلسطينية والعربية المسؤولية عمّا حلَّ بمدينته وفلسطين على طريقة المفسّر أو المبرر، إنما من وحي ما ذاقه على جلده، ووحي ما مارسه من عمل وتنظيم على مدار سنين في مدينته، ومع كامل وعيه بالظروف الموضوعية التي أحاطت بحيفا وصمّمت طريق نكبتها المحتومة، إلا أن أبو العبد ظلَّ يذكّر في مذكراته بالذي كان يمكن تلافيه كي لا تكون الكارثة بالشكل الذي كانت عليه.
أما الثاني، فهو ذلك المتصل بصلة أبناء وبنات حيفا بمدينتهم، لم يكونوا مجرد ضحايا، إنما كانوا فاعلين حاولوا منع نكبتهم ونكبة مدينتهم بدمهم ولحمهم حتى يومهم الأخير فيها.