في يوم مشمس وأجواء حالمة على الشواطئ الجنوبية الفرنسية، بالقرب من نيس وموناكو على الساحل اللازوردي، شاهد المصطافون سفنًا قديمة بدأت بالظهور واحدة تلو الأخرى حتى غطت خط الأفق الأزرق، وتحول الحلم إلى كابوس عندما هبط منها مليون مهاجر هندي ذوو أشكال مرعبة ونظرات تثير القشعريرة، وتبعهم المهاجرون الأفارقة والآسيويون الذين فروا من بلدانهم بعد تعرضها للتدمير بفعل الحروب الأهلية والأوبئة، وسرعان ما سيطروا على منازل الفرنسيين ومدارسهم ومستشفياتهم، وتحوَّلت تجمعاتهم إلى معسكر سري يهدف إلى إسقاط النظام العلماني في أوروبا بتمويل القديسين.
هذه مجرد قصة خيالية ألَّفها الروائي الفرنسي جان راسبيل عام 1973 بعنوان “معسكر القديسين”، ورغم أنها تحمل سيناريو مروّع وعنصري، وتروج لنظرية تُعرف باسم “الاستبدال الكبير” أو “الاستبدال العظيم”، وقد حيكت على الأوروبيين البيض الذين يُزعم أن المهاجرين من الجنوب العالمي سيحلون محلهم، وما تزال -هذه النظرية- تجذب الأوروبيين، وتلهب حماس المؤمنين بتفوق العرق الأبيض، وتلقى بتأثيرها حتى اليوم بين أوساط اليمين المتطرف الغربي.
الإرهاصات الأولى
تعود جذور هذه النظرية إلى القرن التاسع عشر، حين كان المستعمرون الغربيون يجوبون العالم بحثًا عن إخضاع الشعوب الأخرى، حينها ظهرت فكرة تراتبية الأعراق التي تضم الرجل الأبيض على رأس الهرم الإنساني، وبالتالي عُد الاختلاط بالأجناس الأخرى خطرًا على سلامة العرق الأبيض وتهديدًا لسيادته ونقائه.
يرى كامو أن فرنسا تتعرض لاستبدال هويتها وثقافتها من المهاجرين، وأن الهوية المسيحية الأوروبية في تنافس حاد مع الأصولية والغزو الإسلامي
وتنص النظرية الأصلية على أنه بالتواطؤ أو بالتعاون مع النخب البديلة، يتم استبدال البيض ديمغرافيًا وثقافيًا بشعوب غير بيضاء، خاصة من إفريقيا والشرق الأوسط معظمهم من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وذلك من خلال الهجرة الجماعية والنمو الديمغرافي وانخفاض معدل المواليد الأوروبيين البيض.
وفي عام 1894، نشر إميل دريانت كتابًا يحمل عنوان “الاجتياح الأسود وأفول الإسلام في باريس”، تحدث فيه عن جيش يتكون من الأفارقة السود، ويقوده المسلمون بهدف اجتياح أوروبا وإنهاء حضارتها، وحقق هذا الكتاب نجاحًا واسعًا، وبيعت منه ملايين النسخ.
، وهو عقيد فرنسي،وفي فرنسا، ظهرت جذور النظرية عام 1900، عندما زعم موريس باريه الذي يُطلق عليه “أبو القومية الفرنسية” أن شعبًا جديدًا من غير الفرنسيين سيستولى على السلطة وينتصر ويدمر الوطن، ويفرض طريقة تفكيره على السكان الأصليين، ثم انتقلت هذه الفكرة إلى العالم، وتحديدًا إلى أمريكا الشمالية.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، أعاد اليمين المتطرف هيكلة خطابه، فابتعد عن العنصرية البيولوجية لصالح العنصرية الثقافية، ما أسهم في انتشار النظرية أكثر حتى صاغها الناشط السياسي الفرنسي المثير للجدل رونو كامو، صياغة أكاديمية في كتابه “الاستبدال الكبير” عام 2011، ليصدر بعدها عدة نسخ لتطوير المفهوم الذي طرحه لأول مرة في مؤتمر بمدينة ليونيل عام 2010.
ويرى كامو أن فرنسا تتعرض لاستبدال هويتها وثقافتها من المهاجرين، وأن الهوية المسيحية الأوروبية في تنافس حاد مع “الأصولية والغزو الإسلامي”، وأن هؤلاء القادمين الجدد يفرضون ثقافتهم وعاداتهم، ويدفعون الفرنسيين الأصليين للخضوع الكامل لمن يسميهم “المحتلين المسلمين”.
ويروِّج كامو في كتابه لفكرة غزو ثقافي وديني واجتماعي للمهاجرين الوافدين من دول شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، ويدعى أن العدد الكبير للمهاجرين سيطغى على التفوق الديمغرافي للرجل الأبيض على أرضه، إذ سيتمكن هؤلاء المهاجرون بسبب الهجرة المكثفة ثم نسبة الولادات المرتفعة من السيطرة على الغرب.
ويستشهد كامو بشخصيتين مؤثرتين في خاتمة كتابه، وهما رؤية السياسي البريطاني إينوك باول للعلاقات العرقية في المستقبل، التي أعرب عنها في خطابه “أنهار الدم” سيئ السمعة الذي ألقاه عام 1968، وكان الادعاء الرئيسي لعضو البرلمان المحافظ هو أن الهجرة من دول الكومنولث تجعل البريطانيين الحاليين “غرباء في بلدهم” “في غضون 15 أو 20 عامًا، وسيكون للرجل الأسود اليد العليا على الرجل الأبيض.
هذا بالإضافة إلى تصور جان راسبيل لانهيار الغرب واختفاء العرق الأوروبي عبر موجة المد والجزر الهائلة لهجرة مواطني العالم الثالث وتكاثرهم السريع، ونشر تصوره في روايته “معسكر القديسين” التي تعد من الكتب المفضلة لدى أقصى اليمين، وتحوَّل لاحقًا إلى وجهة المتطرفين والعنصريين في الغرب.
وعلى الرغم من أن كامو صاغ مفردات ومفاهيم جديدة لنظرية “الاستبدال الكبير”، وتحدث عن فكرة النقاء العرقي، كانت النظرية أقدم من ذلك بكثير، ويمكن إرجاعها إلى نظريات المؤامرة المعادية للسامية، التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وتبنتها الحركة النازية التي افترضت وجود مؤامرة يهودية لتدمير أوروبا من خلال اختلاط الأجيال، وروَّجت لقرب اندثار الشعوب البيضاء وخطر اليهود والصقالبة على العرق الآري لتبيح به الهولوكوست.
ويرجح المؤرخ المتخصص في اليمين المتطرف، وعضو مرصد السياسات الراديكالية ومؤلف كتاب “سياسة اليمين المتطرف في أوروبا”، الذي نشر في عام 2017، نيكولا ليبورج، أن مساهمة كامو كانت استبدال العناصر المعادية للسامية بصراع حضارات بين المسلمين والأوروبيين، أي أن كامو استبدل اليهود بالمسلمين والأفارقة، معتبرًا أن فرنسا تخضع للإفراغ الثقافي منذ أكثر من 15 قرنًا.
ويصنف كاتب هذه النظرية المستبدَلين إلى خنوعين لا يجدون أي تهديد في الإفراغ الهوياتي لبلدهم، وآخرين مقاومين يرفضون هذا الاحتلال المقنَّع، فيما المستبدِلون هم سياسيو العالم بقوانيهم وتشريعاتهم اليسارية التي تعطي امتيازات للمهاجرين على حساب الأصليين، وتدفع نحو أسلمة أوروبا، والبدلاء هم أسياد المستقبل، شعوب من المهاجرين القادمين من البلدان الإسلامية والإفريقية، حاملين معهم شعائرهم وثقافتهم التي تتعارض مع المبادئ الفرنسية.
وصدرت مؤلفات ودراسات عديدة لاحقًا لتغذي هذه النظرية التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، وتجيز ضمنيًا إبادة الاختلاف، كرواية “خضوع” للكاتب الفرنسي ميشيل هولوبك، التي تصور فرنسا العلمانية تحت حكم حزب إسلامي كابوس يخشى اليمين الأوروبي حدوثه.
شرعنة الإرهاب الأبيض
أثارت الأفكار التي طرحها كامو الكثير من الجدل داخل الإعلام الغربي، حيث أُدين في عام 2014 من القضاء الفرنسي بسبب كتاباته وتصريحاته العدائية وتحريضه على الكراهية أو العنف ضد المهاجرين إلى أوروبا من إفريقيا والشرق الأوسط، وخصوصًا المسلمين منهم.
ومع ذلك، تصدَّرت أطروحته عن “الاستبدال الكبير” وسائل الإعلام الدولية، وقادته في النهاية إلى شهرته الحالية، ووجدت أفكاره دعمًا واسعًا في أوروبا، حتى أصبحت صرخة لحشد اليمين المتطرف عبر العالم، وكان لمثل هذه الأفكار تأثير في صعود التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا.
ولاقت النظرية رواجًا بين الأوساط اليمينية والحركات القومية البيضاء المناهضة للمهاجرين، التي يدَّعي العديد من أتباعها أن المهاجرين يتدفقون إلى الدول ذات الأغلبية البيضاء لجعل السكان البيض أقلية داخل أراضيهم أو حتى التسبب بانقراض السكان الأصليين.
تلقَّف عدد من السياسيين في الغرب ومرشحو أحزاب اليمين المتطرف هذه الفكرة، وأدرجوها ضمن برامجهم الانتخابية، وعلى رأسهم إيريك زمور المرشح اليميني المتطرف للانتخابات الفرنسية السابقة
وساهمت أزمة الهجرة التي بدأت في الأعوام القليلة الماضية في تهيئة الرأي العام لتقبل نظرية المؤامرة لكامو، نظرًا لأن الأخير يصور استبدالًا للسكان الأصليين بشعوب من أصول أجنبية وغير أوروبية، لا سيما من الأفارقة والمسلمين، ويُقال إنه يحدث في فترة زمنية قصيرة لجيل أو جيلين.
ونجح كامو في استمالة بعض المفكرين البارزين في فرنسا، أمثال الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكروت، وشقَّت النظرية طريقها في الأوساط السياسية، فتبناها أسماء مثل أمين عام حزب الجبهة الوطنية الفرنسي اليميني المتطرف نيكولا باي، ورئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف “ذات الطباع النارية”، مارين لوبان، التي استحضرت النظرية، قائلة: “من أجل محاربة الإرهاب الإسلامي بكفاءة، نحن بحاجة إلى تعزيز حدودنا ووضع حد لحرية تنقل الأشخاص. فرنسا لها الحق في معرفة من يعيش على أراضيها”، وادَّعت أيضًا أن أعداء فرنسا كانوا يشنون حربًا أخلاقية واقتصادية على البلاد، وأن فرنسا ستتحول إلى أرض للإسلام، وسيختفي منها الفرنسيون بشكل كامل.
وحاول اليمين الجديد وبعض المثقفين الفرنسيين إيجاد طريق للخروج من التهميش، ومع مرور الوقت انتشرت أفكار نظرية الاستبدال داخل معسكرهم الذي صار له حضور في فرنسا، ويجادل هؤلاء بأن المسلمين يستبدلون البيض باستخدام معدلات المواليد المرتفعة كسلاح ديموغرافي، وأنهم يأملون في الهجرة إلى فرنسا، والاستفادة من برامج الرعاية الاجتماعية الغربية.
كما تلقَّف عدد من السياسيين في الغرب ومرشحو أحزاب اليمين المتطرف هذه الفكرة، وأدرجوها ضمن برامجهم الانتخابية، وعلى رأسهم إيريك زمور المرشح اليميني المتطرف للانتخابات الفرنسية السابقة، الذي يفضل النازية على الإسلام، وبنى عليها حزبه الجديد، فأطلق عليه “حزب الاسترداد”، والغاية استرداد فرنسا من قبضة المهاجرين.
ولتأكيد هذه النظرية، استخدم زمور خطابًا تحشيديًا تعبويًا يعتمد على التلاعب بالعواطف أكثر من الأرقام والإحصائيات، وأخذ على عاتقه الادعاء بأن 90% من سكان كوسوفو قبل قرن من الزمان كانوا من الصرب و10% من الألبان، وقال إنه يخشى تكرار سيناريو كوسوفو في فرنسا، متناسيًا أن الإسلام كان جزءًا من البلقان لعدة قرون.
هذه الادعاءات تفندها الأرقام، إذ تشير آخر الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية إلى أن المهاجرين يمثلون 7 ملايين أو نسبة 10% من التعداد السكاني، ينحدر نصفهم تقريبًا من القارة الإفريقية، والنصف الثاني من قارات أمريكا وآسيا وأوروبا.
في الواقع، يتوزع المهاجرون على نحو غير متساوٍ في المناطق الفرنسية، فنسبة الأطفال المهاجرين في بعض البلديات أعلى من غيرها، لكن السياسيين يتخذون أكثر المناطق التي يتركز فيها المهاجرون مثالًا على الدوام.
وتُظهر الأرقام أن واحدة من كل 6 ولادات في فرنسا هي لامرأة مهاجرة، وأن نساء الجيل الثاني من المهاجرين ينجبن عدد الأطفال نفسه مقارنة بالفرنسيات، وبذلك فإن نظرية “الاستبدال الكبير” غير متوافقة مع الإحصائيات الرسمية.
وقبل سنوات، نشر معهد “ماكس بلانك” الألماني للبحوث الديموغرافية دراسة أشارت إلى تراجع عدد السكان بشكل كبير وارتفاع أعداد الشيخوخة، وتوصلت إلى أن كل جيل سيقل عن سلفه بنسبة 25%، وبحسب هذه الأرقام، فإن عدد سكان أوروبا سيقل بمعدل 50 ألف نسمة بحلول عام 2050.
هذا التراجع الكبير في أعداد الأوروبيين له أسباب كثيرة، أهمها انخفاض معدلات المواليد وارتفاع متوسط العمر المتوقع، كما أن زيادة التطلعات لدى الشباب في أوروبا تؤدي في نهاية الأمر إلى عزوفهم عن الزواج، فبعد مرحلة دراسية طويلة يتطلعون لبناء مهارات جديدة والحصول على فرص عمل كبيرة.
وفي الولايات المتحدة، يشكل الأمريكيون الأصليون أقل من 3% من السكان، والأمريكيون من أصل إفريقي 12.4% من السكان، بينما ارتفع عدد السكان الآسيويين إلى 6% من السكان، ومع ذلك، وبفضل نظرية “الاستبدال الكبير”، يمكن للشعوب التي استعمرت بالقوة ذات يوم قسمًا كبيرًا من بقية العالم، أن تصور نفسها كضحايا مضطهدين.
ورغم تأكيد الأرقام أن كل ما يُنشر في هذا الصدد لا يعدو كونه خرافات تفندها الأرقام والإحصائيات، فإن هذه الأرقام ألهمت أصحاب نظرية المؤامرة، التي بدأت قبل سنوات، وتقول إن هناك من يرغب باستبدالهم وإقصائهم، ولم تمنع كل هذه المعطيات الفكرة من الانتشار بل والتسبب في مقتل الأبرياء، وبسببها تُرتكب اليوم عشرات الأعمال الإرهابية.
انتشار التنظير للعنصرية
مع تركيز الخطاب على السلطة الثقافية أكثر، راجت النظرية في جميع أنحاء العالم، وحظيت بشعبية كبيرة في الدول الغربية، ففي الولايات المتحدة، لم تكن هذه النظرية من النظريات السياسية المتعارف عليها، لكن يبدو أن صعود ترامب عاد 2016 منحها قبلة الحياة، ودفعها إلى قلب النقاش السياسي الأمريكي بل والعالمي.
وبحسب مؤسسة “ساثرن بافرتي لو سنتر” (المركز القانوني للفقر في الجنوب) التي تعمل على رصد التطرف وتتعقب المجموعات التي تشجع على الكراهية، ترتكز أدبيات الميليشيات والمجموعات المتطرفة في الولايات المتحدة على القتال ضد ما تعتبره خروج البلاد من أيدي المهاجرين البيض الأوائل وتقاليدهم.
وبرز أخيرًا ما يُوصف بـ”الإرهاب المحلي” الذي ظل متواريًا لعقود، ممثلًا بعشرات المجموعات المسلحة المتطرفة التي تحمل توجهات أيديولوجية مختلفة، لكنها تعمل على العموم ضد الحكومة، مثل تلك التي شاركت في أحداث الشغب لاقتحام مبنى الكابيتول، وجماعة “ذا براود بويز” التي أنشئت عام 2016، وتركز على معاداة المهاجرين والذكور عمومًا.
وغذَّى وجود ترامب في البيت الأبيض نشوة اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وخارجها، حتى باتت الميليشيات المسلحة نموذجًا شائعًا تحت حكم الرؤساء الجمهوريين، غير أن وجودها في البلاد مكرس في التقاليد الأمريكية ومشرَّع أمريكيًا، فأمريكا تشكَّلت من اتحاد مستعمرات مستقلة وسط تجاذبات حادة بين الشمال والجنوب بشأن شكل الدول ونُظُمها، لذلك منح الدستور الأمريكي المواطنين الحق في حمل السلاح وتشكيل ميليشيات لحماية ولايتهم، وذلك بموجب التعديل الذي أقره الكونغرس نهاية عام 1791، وما زال معمولًا به حتى اليوم.
وفي عهد ترامب، لم يقتصر تأثير هذه النظرية على المواطنين العاديين فقط، بل امتد تأثيرها العنصري إلى الساسة أيضًا، وأبرزهم كبير المستشارين للشؤون الإستراتيجية ستيف بانون، الذي أثار مجموعة من الإجراءات المناهضة للمهاجرين، وكان القوة الدافعة وراء قرار الحظر المثير للجدل الذي فرضته الإدارة الأمريكية على المسافرين من 7 دول ذات أغلبية مسلمة.
ولدى بانون استعارة مفضلة يستخدمها لوصف أكبر أزمة لاجئين في تاريخ البشرية، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2015، قال: “لقد كان الأمر أشبه بغزو من نوع القديسين على وسط أوروبا ثم غربها وشمالها”، وقال في يناير/كانون الثاني 2016: “الأمر برمته في أوروبا يتعلق بالهجرة، إنها قضية عالمية اليوم، هذا النوع من معسكر القديسين العالمي”.
“معسكر القديسين”
رواية عنصرية فرنسية رديئة يستلهمها مستشار #ترامب، ستيف بانون
https://t.co/giViGUZVw9
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) March 5, 2017
وفي وقت لاحق من شهر يناير/كانون الثاني من ذلك العام، استشهد بانون بالرواية الفرنسية بشكل واضح، باعتبارها مفتاحًا لفهم أزمة اللاجئين في عام 2015، وبشكل أكثر عمومًا، التهديد المفترض للحضارة الغربية الذي تفرضه الهجرة، قائلاً: “إنها ليست هجرة، إنه حقًا غزو، أنا أسميه معسكر القديسين”، وقال في أبريل/نيسان 2016: “عندما بدأنا الحديث عن هذا الأمر لأول مرة قبل عام، أطلقنا عليه اسم معسكر القديسين، بالتأكيد هذا هو معسكر القديسين، أليس كذلك؟”.
كما تُلاقي النظرية انتشارًا كبيرًا في بريطانيا، حيث تسعى الأحزاب اليمينية إلى تخويف السكان من الفكرة ذاتها، وتروِّج لسردية تغيير المهاجرين من الهند وباكستان وإفريقيا للنسيج الاجتماعي للبلد، مع العلم أن العدد الأكبر من المهاجرين الذين يصلون بريطانيا يأتون من بولندا ودول أوروبية أخرى، لكن الخطابات اليمينية تتجاهلهم لأنهم ببساطة أصحاب بشرة بيضاء.
كذلك تنتشر النظرية بقوة في بلجيكا، فقبل أعوام تشكلت منظمة شبابية فلمنكية متطرفة تؤيد نظرية المؤامرة، وتدعو إلى استخدام كل الوسائل المتاحة لمنع الهجرة.
أمَّا في الدنمارك، فقد أصبح استخدام هذه النظرية شائعًا في الخطاب السياسي الدنماركي اليميني، وأبرز المؤيدين لتلك لنظرية زعيم حزب الخط المتشدد “سترام كوكس” اليميني المتطرف راسموس بالودان، الذي يمثل وجهات نظر متطرفة ومتشددة عن الإسلام، وسبق أن أحرق المصحف بالقرب من السفارة التركية في ستوكهولم.
ويعارض بالودان بشدة الهجرة غير الغربية ووجود الإسلام في الدنمارك، ويقترح حظر هجرة المسلمين وترحيل جميع المقيمين المسلمين من البلاد، وادعى أنه “بحلول عام 2040 سيقترب الشعب الدنماركي العرقي من أن يصبح أقلية في الدنمارك بعد أن يفوقه عدد المسلمين ونسلهم”.
أمَّا في هنجاريا، فقد آمن رئيس الوزراء فيكتور أوربان وحزبه السياسي بنظرية المؤامرة، ويعتبر أن الهوية المسيحية لأوروبا بحاجة إلى الإنقاذ، ووصف اللاجئين المسافرين إلى أوروبا بأنهم “غزاة مسلمون”.
أدَّى شيوع هذه النظرية وتبنيها من الأحزاب السياسية ورؤساء الدول في الغرب إلى اعتمادها كمبرر لاتكاب مجازر ضد المهاجرين.
وفي ألمانيا أيضًا، ليس الحال بالأفضل من بقية دول أوروبا، حيث يدعى السياسي والاقتصادي الألماني المعروف بمواقفه القريبة من أقصى اليمين بشأن الهجرة والمسلمين رغم انتمائه للحزب الاشتراكي تيلو زاراتسين، أنه بسبب المهاجرين الأجانب، وخصوصًا العرب والأتراك منهم، الأقل كفاءة عقلية من الألمان الأصليين، سوف تنخفض القدرات العقلية للألمان، وأن ألمانيا تدمر بهذه الطريقة نفسها، لكن الاحصائيات والدراسات تنفي هذه المعتقدات السببية.
وفي كتابه “ألمانيا تلغي نفسها” الذي يتضمن أنصاف حقائق تستند إلى مجرد أرقام، يقترح زاراتسين الذي يعتبر أكثر السياسيين المروجين لنظرية المؤامرة تأثيرًا، أن عددًا كبيرًا من المهاجرين في ألمانيا سيؤدي إلى انخفاض عدد الألمان إلى 25 مليونًا، وبعد مائتي عام سينخفض إلى 8 ملايين، وبعد 300 عام سينخفض إلى 3 ملايين فقط، ويستخدم مسميات من قبيل “الأتراك” أو “العرب” علـى أنها مرادفات للمسلمين، وبالتالي يسهم في وصم وتنميط المسلمين في ألمانيا.
نسخ إجرامية مكررة
أدَّى شيوع هذه النظرية وتبنيها من الأحزاب السياسية ورؤساء الدول في الغرب إلى اعتمادها كمبرر لاتكاب فظائع ضد المهاجرين، وأسهمت في تنفيذ هجمات إرهابية راح ضحيتها آلاف المسلمين والمهاجرين وغيرهم، وتبناها اليمين المتطرف لارتكاب مذابح دموية والتحريض على المهاجرين.
ففي مايو/أيار 2022، استيقظ العالم على مجزرة جديدة ارتكبها يميني عنصري، حين فتح شاب أمريكي، يدعى بايتون جيندرون، ويبلغ من العمر 18 عامًا، النار في متجر في “بافالو” شمالي ولاية نيويورك، متسببًا في مقتل 10 أشخاص غالبيتهم من أصول إفريقية قبل أن يُلقى القبض عليه، وقال رئيس بلدية بافالو إن المتهم أراد حصد أكبر عدد من الأرواح السوداء.
اللافت في هذه القضية أن الشرطة الأمريكية كانت تحقق في بيان من 180 صفحة يُعتقد أنه من تأليف بايتون، أوجز فيه مؤامرة “الاستبدال الكبير”، وقدِّم فيه خطة الهجوم، والتخطيط لتنفيذ عمليات عسكرية أخرى.
ووفقًا لما جاء في البيان الذي وجدته الشرطة، فإن الهجوم كان يهدف إلى ترهيب جميع الأشخاص غير البيض وغير المسيحيين وحملهم على مغادرة البلاد، وكان البيان مليئًا بالمشاعر العنصرية والقومية البيضاء والمعادية للمهاجرين، واحتج على انخفاض معدلات المواليد البيض، و”الإبادة الجماعية للبيض” وسياسات الهجرة التي يُفترض أنها ضارة بالأشخاص المنحدرين من أصل أوروبي.
جاءت هذه العملية نسخة مكررة من مجزرة “كرايستشيرش” بنيوزلندا التي راح ضحيتها 51 مسلمًا في أثناء تأديتهم الصلاة، إذ تشارك المجرمان في طريقة تنفيذ الهجمات الإرهابية مع بثها مباشرة على الإنترنت عبر تقنية البث المباشر، كما ينطلق المنفذان من النظرية الفكرية ذاتها.
وقبل ارتكابه المجزرة بساعات قليلة، نشر منفذ الهجوم الأسترالي المتطرف برينتون تارانت بيانًا مطولًا على الإنترنت من 80 صفحة استعمل فيه عبارة “الاستبدال الكبير” بأحرف كبيرة، وأشار فيه إلى أسباب ارتكابه لجريمته، لكن تم حذفه لتضمنه خطاب كراهية وتحريض على العنف.
أثارت الشكوك بشأن علاقة هذا الحادث بنظرية كامو التي ألهمت سفاح نيوزيلندا، وهو ما أدى إلى تحميله المسؤولية أيضًا، لكنه رفض الاتهامات الموجهة إليه مؤكدًا أن نظريته تتعلق بالدفاع عن الحضارة وليس العرق، وقال: “مرتكب جريمة المسجدين لم يقرأ كتابي، ولو أنه قرأ كتابي لما تصرف بالطريقة التي تصرف بها، لأن المفهوم المركزي الفكري السياسي مبني على البراءة واللاضرر”.
وسجَّل القوميون البيض الذين يقفون وراء هذه المؤامرة التي يروج لها اليمين الغربي، مذابح أخرى في تاريخهم نفذها اتباعهم، منها قتل 9 أشخاص في كنيسة تاريخية للأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية في ولاية ساوث كالورينا عام 2015.
كما تم أيضًا استحضار أفكار “الاستبدال” من جانب مطلقي النار الجماعي في أوتويا بالنرويج في عام 2011، وفي حادث إطلاق النار في كنيس “شجرة الحياة” اليهودي في بيستبرغ بولاية بنسيلفانيا في عام 2018، وفي إل باسو بولاية تكساس في عام 2019، ومع ذلك، فإن كل واحد من مطلقي النار – وجميعهم من الرجال البيض – استهدف مجموعة مختلفة من الناس.
فمطلق النار في بوفالو قتل الأمريكيين السود فقط، وروَّع منفذ هجوم كرايستشيرش المسلمين في أثناء صلاة الجمعة، وفي إل باسو كان اللاتينيون هم المستهدفون، وفي أوتويا، كان هناك شباب، معظمهم من النرويجيين البيض، في المخيم الصيفي لرابطة الشبيبة العمالية، وفي بيتسبرغ، هاجم مطلق النار اليهود: “يجب أن يموت جميع اليهود”، وألقى باللوم على مؤسسة تدعم اليهود الفارين في أوروبا الشرقية، بالسماح “للغزاة الذين يقتلون الشعب الأمريكي”، ويبدو من ذلك أن نظرية “الاستبدال الكبير” تستوعب مجموعة متنوعة من الأفكار المتضاربة.
في النهاية، ليس هناك ما يمنع أن يكون الشخص إفريقيًا فرنسيًا أو أمريكيًا مسلمًا، ويرى الكثيرون التعددية الثقافية والدينية ظاهرة إيجابية تساهم في تقدم الدول، وفي نفس الوقت، سيظل البعض يبحثون عن الاختلافات بين الشعوب بدلًا من البحث عما يجمعهم، وسيبقى هناك فئة من السياسيين التي تلقي بفشلها وعجزها على عاتق الشريحة الأضعف التي تعجز عن الدفاع عن نفسها، إنهم المهاجرين واللاجئين.