أقرَّ مجلس الشعوب الديمقراطي التابع للإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، قانون التقسيمات الإدارية للمدن والبلدات والقرى التي تسيطر عليها ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية، ضمن الحدود الإدارية لمحافظات الحسكة ودير الزور والرقة وحلب شرق وشمال سوريا.
وجاء قانون التقسيمات الإدارية مترجمًا لما نصَّ عليه العقد الاجتماعي، وحمل تغييرات واضحة في الخريطة السورية، ما زاد مخاوف السوريين من محاولات الإدارة الذاتية المتواصلة لشرعنة وجودها في المنطقة، عبر فرض قوانين وتقسيمات إدارية جديدة تتجاهل التقسيمات الإدارية القائمة للمحافظات السورية، في خطوات يبدو أنها تمهّد للفيدرالية.
قانون التقسيمات الإدارية
أصدرت الرئاسة المشتركة لمجلس الشعوب الديمقراطي قانون التقسيمات الإدارية في الإدارة الذاتية لمناطق شمال وشرق سوريا رقم 6 لعام 2024 في الجلسة الـ 98، بعد مناقشة المواد التي نصَّ عليها القانون مع اللجنة القانونية والرئاسة المشتركة للمفوضية العليا للانتخابات.
واعتبر القانون أن مناطق شمال وشرق سوريا إقليم مقسم إلى 7 مقاطعات رئيسية، وهي الجزيرة، دير الزور، الرقة، الفرات، منبج، عفرين والشهباء، الطبقة؛ بينما تتكون المقاطعة من مدن وبلدات وقرى ومزارع ووحدات سكنية، أما المدينة فتتكون من مركز المدينة والبلدات والقرى والمزارع والوحدات السكنية، والبلدة تتكون من مركز البلدة والقرى والمزارع والوحدات السكنية.
وتسمّى الوحدات الإدارية بناءً على التعداد السكاني، حيث إن المزرعة لا يزيد عدد سكانها عن 100 نسمة، والقرية يتراوح عدد سكانها بين 100 و5 آلاف نسمة، بينما البلدة يتراوح عدد سكانها بين 5 آلاف حتى 35 ألف نسمة، أما المدينة فيتراوح تعداد سكانها بين 35 ألف و200 ألف نسمة، أما المدينة الكبيرة فيزيد عدد سكانها على 200 ألف نسمة.
وتألفت مقاطعة الجزيرة من مدينتَين كبيرتَين هما الحسكة والقامشلي، و15 مدينة و40 بلدة، بينما تألفت مقاطعة دير الزور من 5 مدن و21 بلدة، أما مقاطعة الرقة فقد تألفت من مدينة كبيرة وهي الرقة و3 مدن و14 بلدة، بينما مقاطعة الفرات ضمّت مدينة كبيرة هي كوباني/ عين العرب و5 مدن و10 بلدات.
وتكونت مقاطعة منبج من مدينة كبيرة هي منبج ومدينتَين و5 بلدات، أما مقاطعة عفرين والشهباء فقد تألفت من مدينة كبيرة وهي عفرين و7 مدن و9 بلدات، أما مقاطعة الطبقة فتألفت من مدينتَين و6 بلدات.
فيما أكد القانون على إحداث المزارع والقرى والبلدات والمدن والمدن الكبيرة، وتسميتها وتعيينها وتعديل مراكزها وحدودها الإدارية، باقتراح من المجالس الشعبية للوحدات الإدارية، فضلًا عن ضرورة وجود قرار صادر من مجلس الشعوب في المقاطعة.
وجاء قانون التقسيمات الإدارية استنادًا إلى التغييرات التي طرأت على العقد الاجتماعي الصادر في 12 ديسمبر/ كانون الثاني 2023، والتي بدأت بتغيير الاسم من “الإدارة الذاتية لروج آفا” (غرب كردستان)، الذي يتكون من عدة أقاليم وكل إقليم يضمّ عدة مقاطعات، إلى إقليم واحد تحت مسمّى “الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا”، ويضم 7 مقاطعات رئيسية، وفي كل مقاطعة مدن وبلدات وقرى.
تعديلات على الخريطة السورية
نالت التقسيمات الإدارية بعد ترجمتها في القانون رقم 6 لعام 2024 الصادر عن الإدارة الذاتية حظها من انتقادات أهالي مناطق شمال وشرق سوريا، من المكونَين العربي والكردي، فضلًا عن انتقادات واسعة من المعارضة السورية التي اعتبرت أن التقسيمات الإدارية غير معترف أو معمول بها، ولا تناسب مطلقًا وضع المنطقة، وتؤسّس لإشكالات كبيرة تمنع الاستقرار في المنطقة وتهدم الروابط المجتمعية بين المكونات السورية.
وأكد مظهر شربجي، مهندس استشاري وخبير حوكمة، أن قانون التقسيمات الإدارية يؤثر على تغيير الخريطة السورية، كونه ألغى الحدود الإدارية المعمول بها سابقًا، وخلط بين مدن وبلدات كل منها يتبع لمحافظة، مثل مقاطعة الفرات التي ضمّت عين العرب التي تتبع إداريًّا لمحافظة حلب، بينما عين عيسى وتل أبيض اللتين تتبعان إداريًّا إلى محافظة الرقة باتتا ضمن مقاطعة واحدة.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “المسميات الإدارية كانت تعتمد على أُسُس وموارد توضع تحت إدارة محددة، وتغييرها حاليًّا يحدث إشكالية في ترسيم حدود ووضع توصيف مختلف إداريًّا، يجمع بين بلدات تتبع للرقة وحلب والحسكة، ما يعني نسف كل التقسيمات الإدارية السابقة، وخطوة نحو تأسيس فيدرالية”.
وأضاف: “تغيير التقسيمات الإدارية يخلق مشكلة في العقارات وآليات نقل ملكيتها وحدودها الموصوفة سابقًا ضمن المخططات التنظيمية والمخططات الطبوغرافية لكل وحدة إدارية من البلديات التي كانت تأخذ تعليماتها الإدارية من مركز المحافظة والوزارات المختصة، وذلك يعني سحب السجل العقاري والإداري إلى مركز المقاطعة، عبر إلغاء دور الوحدات الإدارية والبلديات وسحب المؤسسات إلى مركز واحد”.
وتابع أن ذلك ينعكس سلبًا على البلديات الموجودة سابقًا، حيث نلاحظ الرقة مقسّمة إلى مقاطعتَين هما الرقة والطبقة، بينما كانت محافظة الرقة لوحدها تضم 33 وحدة إدارية ما بين مدينة وبلدة وبلدية، لكن القانون رقم 6 طمس وألغى بعض الوحدات الإدارية المحدثة سابقًا والمعمول بها منذ 50 عامًا، كما أدخل مسميات جديدة.
قانون التقسيمات الإدارية ألغى قانون الإدارة المحلية المعمول به سابقًا
ورغم أن نظام الأسد لم يكن منصفًا وعادلًا في التقسيمات الإدارية من حيث الديموغرافيا والجغرافيا، خاصة في التعداد السكاني في الأرياف، فإن الإدارة الذاتية عملت على تجسيد ما عمل عليه دون تحسينه، إذ نصَّ قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 على تقسيم الوحدات الإدارية في سوريا إلى 4 مستويات، هي المحافظة والمدينة والبلدة والبلدية، وتعتمد المسمّيات على العدد السكاني.
واعتبر شربجي أن على الإدارة الذاتية التعامل مع الإدارة المحلية عبر وضع سلطة إدارية وأمنية مناسبة، دون الاقتراب من التقسيمات الإدارية السابقة المعتمدة بالقانون رقم 107، كون سلطتها راهنة، مشيرًا إلى أن “استمرار العمل بالتقسيمات الإدارية لمدة 10 سنوات يجعل الجيل الجديد غير قادر على التعرّف إلى المسميات السابقة، ما يشكّل خطرًا على هوية المنطقة والملكيات وقوانين الاستملاك وحقوق الناس”.
ويبدو أن القانون غير مدروس من خبراء حوكمة وإدارة محلية، لأن المسميات لها أبعاد سياسية وحزبية، ولا بدَّ من وضع القوانين وفق أُسُس ومعايير تعتمد على الجغرافيا والديموغرافيا، والبناء على الإدارة المحلية القديمة وتطويرها دون تغيير يتسبّب في إشكالات ونزاعات، وأي تغيير يحتاج إلى إجراء استفتاء شعبي وإعطاء دور واضح للخبراء والقانونين دون المساس بالهوية السورية.
بينما كانت حيثيات القانون الجديد مغيّبة عن الأهداف والغايات، واقتصرت على إلغاء التقسيمات الأمنية والجغرافية للمناطق والنواحي وتغيير في تقسيمات الوحدات الإدارية، واستبدالها بما يسمّى بـ”المقاطعة” التي ستكون مركزية وتقوم بالدور الخدمي والسياسي والأمني والإداري معًا.
تغيير ديموغرافي وتعزيز للامركزية
رغم أن قانون التقسيمات الإدارية يعتمد بالدرجة الأولى على التعداد السكاني، فإن هناك مشكلة حقيقية ألا وهي استمرار عمليات الهجرة والنزوح وغياب الاستقرار في التكتلات والتجمعات السكانية، وهذا بحدّ ذاته يعني أن هناك محاولات لفرض أمر واقع في مناطق شمال وشرق سوريا.
وعلى مدار سنوات ماضية لم تشهد سوريا استقرارًا سكانيًّا، فقد استقبلت مناطق شمال وشرق سوريا موجات نزوح وهجرة متواصلة من مناطق سيطرة تنظيم “داعش”، وما تلاها من معارك عسكرية، إضافةً إلى حركات النزوح جراء العمليات العسكرية التي شنّها الجيش الوطني المدعوم من تركيا ضد “قسد”، في رأس العين شمال غربي الحسكة، وتل أبيض شمال الرقة، ومنطقة عفرين شمال غربي حلب.
قانون التقسيمات الإدارية يسعى إلى تفتيت كتل سكانية وإقامة أخرى دعمًا لسياسة “قسد”
وقال شربجي: “التسميات للوحدات الإدارية تُبنى على عدد السكان الأصليين ضمن الوحدة الإدارية، ويؤخذ في الحسبان النازحين والمهجّرين كتقديم الخدمات، والسكان غير مستقرين ولاحقًا يعودون إلى مناطقهم”، وأضاف: “الإجراءات الحالية تؤسّس لتغيير ديموغرافي، ويعكس مصالح سياسية دون أخذ الأبعاد الجغرافية والعمرانية والتخطيطية في الاعتبار، ما يعني أنها تجسيد للفيدرالية اللامركزية”.
وكانت “بطاقة الوافد” التي استحدثتها الإدارة الذاتية للأهالي والسكان العرب القاطنين شمال وشرق سوريا، حتى يتمكنوا من الإقامة والتنقل بين مناطق إدارتها، قد شملت عائلات من محافظات سورية مقيمة في الحسكة والقامشلي منذ عشرات السنين، بينما منعت سكان عفرين في مناطق الشهباء بريف حلب من العودة إلى مدينتهم، ما يشير إلى أنها محاولة لترسيخ وجود التكتلات السكانية بما يخدم مشروعها، حسب ما أوضح الباحث في مركز عمران للدراسات سامر الأحمد.
وأكد الأحمد خلال حديثه لـ”نون بوست” أن قانون التقسيمات الإدارية هو فرض أمر واقع، وهندسة ديموغرافية، وإعادة ضبط للتكتلات والتجمعات السكانية، بحيث تكون قادرة على تفتيت بعض الكتل السكانية، كما حصل في تقسيم الرقة إلى مقاطعتَين، والتي قد تشكّل نواة ثورة تنقلب ضدها، إضافة إلى ضمان ولاء أخرى من المكونات الموجودة.
ما وراء التقسيمات الإدارية؟
تسعى الإدارة الذاتية عبر قانون التقسيمات الإدارية إلى إيصال رسالتَين على المستويين الدولي والمحلي، فالدولي تحسين صورتها عبر هيكلة وتنظيم إداري وسياسي لمؤسساتها، بعدما طالتها انتقادات دولية ومحلية عقب انتفاضة عشائر دير الزور في سبتمبر/ أيلول الماضي، بينما ترغب على المستوى المحلي في إيصال رسالة إلى مختلف الأطراف السورية، بأنها قادرة على إدارة مناطقها بجودة أعلى ممّا يحصل ببقية المناطق، لكن ذلك ليس صحيحًا لأنها جزء من سلطات الأمر الواقع.
ويرى الباحث أن خسارة مدن عفرين وتل أبيض ورأس العين أسهمت في تحجيم طموحها التوسعي السابق في إقامة دولة روج آفا، التي تمتد من أقصى الشرق حتى شواطئ البحر المتوسط بالقرب من محافظة اللاذقية، لتشكّل التقسيمات الإدارية الحالية استيعابًا للأمر الواقع.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “التقسيم الإداري يساعد “قسد” في ضبط المنطقة حكوميًّا وأمنيًّا، وقطع الطريق على محاولات منح خصوصية لبعض المناطق كما حصل في دير الزور (محاولات التواصل مع التحالف لمنحها إدارة منفصلة)، وذلك يساعدها في مركزة السلطة وجعلها بيد حزب الاتحاد الديمقراطي والسلطات الأمنية والعسكرية”.
وأضاف: “إنها تحاكي ما حصل في العراق عند إعلان إقليم شمال العراق، لكن الظروف في سوريا مختلفة وسط غياب الدعم الدولي، وعدم وجود بيئة محلية جاهزة، بينما في العراق كانت من مكون واحد، وكان هناك مشكلة مع السلطة المركزية، بينما “قسد” لا يوجد لديها أي مشكلة مع السلطة المركزية (نظام الأسد)”.
وتسيطر “قسد” على أجزاء واسعة من محافظة الرقة، تمتد من شريط القرى الواقعة على الضفة الجنوبية لنهر الفرات وصولًا إلى الحدود السورية-التركية، كما تسيطر على كامل ريف دير الزور الشرقي، ومعظم محافظة الحسكة، إضافة إلى مدينة كوباني/ عين العرب شرق الفرات، ومدينة منبج غرب الفرات، ومدينة تل رفعت وعدد من البلدات والقرى التابعة لمحافظة حلب.
إلا أن القانون شمل مناطق خارجة عن سيطرة “قسد”، ومن بينها رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة، وتل أبيض التابعة لمحافظة الرقة التي خسرتها في عملية “نبع السلام” في أكتوبر/تشرين الأول 2019، إضافة إلى مدينتَي عفرين وجنديرس اللتين أيضًا خسرتهما في عملية “غصن الزيتون” في يناير/ كانون الثاني 2018، وتقع جميعها حاليًّا تحت سيطرة الجيش الوطني والقوات التركية.
ويرى باحثون أن التغيرات الإدارية والأمنية التي تجريها الإدارة الذاتية في مناطق سيطرتها تندرج ضمن خطوات تمهيدية محلية نحو تأسيس إدارة فيدرالية في سوريا، وتثبيتًا لحدود السيطرة الحالية، وبحثًا عن قبول دولي يعترف بوجود سلطتها.