لم يأتوا فجأة بل تسربوا بأعداد تتزايد في كل موسم، كأن يدًا كانت تدفعهم دفعًا نحو تونس، ثم صاروا كتلة بشرية متحركة بلا خطة، وأضافوا إلى تونس مشكلة أخرى لم تكن مستعدة لعلاجها، وهي تغرق فيها ولا تجد عليها نصيرًا.
عن الأفارقة جنوب الصحراء أكتب محتارًا، فالأمر تجاوز الظاهرة العابرة إلى مشكلة عضوية، لا نعلم عددهم لكنه كثير، ولا نعلم أين يذهبون وقد أغلقت دونهم طرق الخروج وحيل بينهم وبين العودة إلى ديارهم، ولا تحتمل تونس توطينهم وتشغليهم ولا حتى إعاشتهم في ملاجئ إنسانية، وأسوأ ما في الوضع أن لا أحد يقدم تصورًا لحلّ فعّال وإنساني لمعضلة لم تكن على جدول أعمال الحكومات التونسية.
مشكلة قديمة تتفاقم
لا خلاف، وإن غابت المعلومات الدقيقة، أن الوضع الاقتصادي والإنساني في بلدان جنوب الصحراء من السنغال إلى السودان يعتبر دافعًا قويًّا للهجرات بحثًا عن مصدر رزق، وذلك منذ سبعينيات القرن الماضي. وقد وفّرت ليبيا لفترة طويلة فرصة ارتزاق لجيرانها العرب والأفارقة، لكن تردي الوضع الليبي حوّل موجات الهجرة إلى تونس والجزائر لكن كبلدَين معبرَين نحو أوروبا، ففرص العمل في تونس تكاد تكون منعدمة إلا في ظروف غير قانونية وغير إنسانية.
لقد تبيّن أن الهجرة السرية عبر الجزائر إلى أوروبا عسيرة أو مستحيلة، فظهرت السواحل الإيطالية من تونس قريبة وممكنة، وعمل وجود تجار الهجرة السرية بعدد كبير فيها على تحويل وجهة هذه الهجرة إليها. أما كيف كانوا يخترقون كل الصحراء الأفريقية حتى تونس سالمين في كل الفصول، فهذا من الملفات الغامضة والجميع يتهم الجميع، حتى المخابرات الروسية أخذت لها قسطًا من الاتهام دون تبيان مصلحتها في ذلك.
غرق تدفع تونس فيه كلفة حراسة حدود الغرب الاستعماري، فالمشكلة -بلا تفلسف كثير- هي نتيجة متأخرة لعملية التفقير الاستعماري الذي تعرضت له أفريقيا منذ قرون.
توجد شواهد مصورة كثيرة على أن كثيرًا من الأفواج كانت تنزل قرب الحدود التونسية الجزائية من باصات نقل عبرت بهم الصحراء، وقد جرّمت السلطات التونسية نقلهم وإيواءهم ومساعدتهم على ترابها، لكنهم كانوا يزدادون عددًا قادمين بالخصوص من الحدود الجزائرية ويدخلون البلد بلا وثائق قانونية. وهم الآن كتل بشرية متحركة في كل مكان، خصوصًا بجهة صفاقس والمهدية، حيث استوطنوا غابات الزيتون في خيام بدائية خالية من كل شروط حياة الإنسان.
مفاوضة أوروبا بموجات الهجرة غير النظامية
استعمل نظام القذافي ونظام بن علي موجات الهجرة الأفريقية كورقة ضغط وابتزاز لأوروبا، ومنذئذ ترسخت تقاليد تفاوض غير إنساني بشأنهم، بالخصوص مع إيطاليا، وقد حصل النظامان على مساعدات عينية مقابل منع الهجرة عبر البحر. وقد استعمل الباجي قائد السبسي الورقة بالطريقة نفسه، خاصة عندما ترأّس حكومة انتقالية سنة 2011، وقد تخلص بها من موجة شبابية تونسية كانت تود الاستفادة من سقوط النظام، فانصرفت إلى الهجرة السهلة.
في السنوات الثلاث الأخيرة وقد صار العدد مربكًا للسلطات التونسية، ظهر حديث المؤامرة على تونس، وذهب الرئيس إلى حد التصريح بأن هناك من يعمل على تغيير التركيبة السكانية للبلاد بتكثيف الهجرة والعمل على التوطين. وتلقف أنصار الرئيس الأمر فوسّعوه إلى الكيد لفرقاء السياسة في تونس، فحسب جريدة “الشروق” التونسية، وهي جريدة تسير في ركاب كل حاكم، فإن حزب النهضة هو المسؤول عن جلبهم والعمل على توطينهم.
لكن الحدث الأبرز في معالجة الأمر كان الاتفاق غير المنشور للعلن بين الدولة التونسية وحكومة إيطاليا بمنع الهجرة غير النظامية مقابل المساعدات، طبعًا دون معرفة دقيقة بالأرقام لهذه المساعدات. لقد أنهى الاتفاق المبرم مرحلة مفاوضة أوروبا بموجات الهجرة، وصارت تونس حارسة حدود إيطاليا خاصة وأوروبا عامة، وعليها أن تتدبر أمرها في معالجة المشكلة على أرضها دون تصديرها.
ما زال منع تشغيلهم ومساعدتهم ساريًا وقد قامت السلطات الأمنية بتقريبهم أفواجًا من الحدود الليبية والجزائرية، لكنهم يعودون دومًا وينتشرون في الأرياف بحثًا عن سدّ الرمق، وقد ظهرت بينهم ممارسات عنف تجاه بعضهم وتجاه السكان المحليين. ويسود الآن خوف كبير منهم على الأرزاق والأرواح، والناس يتوقّونهم بما في أيديهم ويخفون الإحسان إليهم خوفًا من السلطات الأمنية، لكن المشكلة تتفاقم ولا يبدو لها أفق، فموجات الهجرة تزداد.
الدولة التونسية في حالة عجز
لا يمكن لتونس ترحيلهم إلى أوطانهم الأصلية لأسباب أمنية ولوجستية، وهم يرفضون الترحيل ولا يمكنها السماح لهم بعبور البحر بسبب ما اتفقت عليه مع حكومة إيطاليا. بقيَ لديها الحل الأخير وهو معسكرات الإيواء، وهو أمر مكلف جدًّا ماديًّا، وفوق ذلك هو عار إنساني لا يمكن الدفاع عنه. فحيث ما بُنيت هذه المعسكرات كانت بؤرة للاعتداء على حقوق الإنسان الدنيا، والتاريخ القريب يسعفنا بصور معسكرات مماثلة بنتها فرنسا لموجات هجرة أفريقية بعد سنة 2011، تبرّأت منها سريعًا ومسحتها من التداول الإعلامي لما فيها من وصم غير إنساني.
وعلى فرض أن إيطاليا بذلت لتونس مساعدات مالية لتتكفل بهذا الإيواء، فإن قيمة ما بُذل سيُصرف كله على هذه المعسكرات/ المخيمات دون أن يوفر حلًّا جذريًّا، فيصير المؤقت دائمًا ويصير مشكلة عضوية بعد أن كان مشكلة عابرة.
لا أعطي هنا مصداقية لقول سياسي عاجز يظن أن النظام الحالي يرحّب بهذه الهجرة ليتخذها ذريعة ليؤجّل الانتخابات، فهو قول عاجز ويعيش من نظرية المؤامرة، مثله مثل قول صحيفة “الشروق” إن حزب النهضة التونسي يملك القدرة على استقدامهم وتوطينهم ليكيد بهم للنظام.
أرى الحكومة التونسية ورئيسها في مشكلة حقيقية، فالمعالجة الأمنية غير مجدية، فهذه الهجرات تجاوزت الحدود بشكل غير قانوني، وهي مخالفة كفيلة بسجنهم، لكن ذلك يحوّل كلفة إعاشتهم كاملة فعلًا إلى الدولة التي لا تملك سجونًا تكفيهم.
غرق تدفع تونس فيه كلفة حراسة حدود الغرب الاستعماري، فالمشكلة -بلا تفلسف كثير- هي نتيجة متأخرة لعملية التفقير الاستعماري الذي تعرضت له أفريقيا منذ قرون. أفريقيا الغنية لا يمكنها إعاشة ساكنتها نتيجة النهب التاريخي الذي تعرضت له، ونتيجة سوء الإدارة المحلية التي صنعها الاحتلال الفرنسي خاصة (أغلب الهجرات قادمة من مستعمرات فرنسا)، ولا يزال يدعمها لتفسد في أوطانها فيهرب منها مواطنوها للبقاء على قيد الحياة.
تونس تدفع كلفة الاستعمار الفرنسي لأفريقيا وتدفع كلفة الحروب الأهلية التي لا تنقطع فيها، وقد كتب الكثيرون في الحل الجذري لمشاكل أفريقيا ومنذ زمن بعيد، وهو تنميتها بشكل مستدام، والسماح فيها بقيام أنظمة ديمقراطية لا تحكم بقوة الدبابة، لكن هذا الحل يكلف أوروبا الكثير بدءًا باعتذار أخلاقي صادق عن النهب الاستعماري الطويل، لكن من أين لأوروبا بعمالة رخيصة تقيم على ظهورها اقتصادها المنهار، وقد اكتفت منها فأغلقت الحدود بلا رحمة ملقية بالعبء كله على تونس.
لماذا تونس بالذات؟ إنها لعنة الجغرافيا والتاريخ، وفوقها لعنة سياسية جعلت نظامها السياسي هشًّا قابلًا للابتزاز، فيستقوي على شعبه بتقديم خدمة للإيطاليين وللأوروبي عامة، فيحوّل بلده إلى مستودع غير إنساني مقابل حمايته من شعبه.