انتظر الكثير طيلة الأيام الفائتة لفتوى جديدة يقوم بإصدارها المرجع الديني الشيعي “علي السيستاني”، تقضي بحل مليشيا الحشد الشعبي، ذلك لأن الغرض من إنشائه قد انتهى بعد أن أعلن العبادي نهاية المعارك على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وقد راجت تسريبات عديدة تفيد بأن السيستاني على وشك إصدار مثل هذه الفتوى.
لكن الذي جاء بخطبته الأخيرة على لسان الناطق باسمه “عبد المهدي الكربلائي” فاجأ الجميع بعدم اعتزامه حل هذه المليشيا ما دام هناك أناس قد غرَّهم التطرف وضُلّلوا فاعتنقوا فكر التطرف، وما دام “الخطر ما زال قائمًا”، وهو بهذا يغلق الباب أمام اللغط الذي كان يدور بشأن مصير الحشد الشعبي في العراق، ويعلن انحيازه التام لبقاء واستمرار عمل الحشد.
مرة أخرى يثبت السيستاني أنه لا يمثل مرجعية دينية شيعية لشيعة العراق فحسب، إنما يمثل مرجعية سياسية لأحزاب السلطة في بغداد أيضًا
وعلى ما يبدو أن السيستاني كان طيلة الفترة السابقة واقعًا تحت تأثير الضغوط التي تُطالب بحل مليشيا الحشد من جانب (في غالبيتها مطالبات دولية وبعض المطالب العراقية) ومن جانب آخر ضغوط تُطالب بالإبقاء عليه فاعلًا في العملية السياسية والأمنية في العراق.
فخرج بحلٍ يعتقد أنه حل وسط، يحاول به ترضية الطرفين – كما يظن -، فجعل الطريق مفتوحًا لتلك المليشيات التي يتألف منها الحشد، لتنقسم على نفسها إلى جناحين أحدهما سياسي وحزبي يتهيأ للدخول في العملية السياسية من خلال المشاركة بالانتخابات النيابية القادمة، وجناح آخر مسلح تكون طاعته لقيادته العسكرية المتمثلة بأبو مهدي المهندس ذي الولاء الإيراني البحت.
لاقى هذا الحل قبولاً واسعًا من جانب المليشيات والأحزاب السياسية الشيعية التي تُمسك بالسلطة، وبنفس الوقت لاقى مباركة الجانب الإيراني الذي كان يتخوَّف من احتمالية صدور فتوى بحل الحشد، ليتوافق هذا الحل الذي جاء به السيستاني تمامًا مع الرؤية الإيرانية التي تعتبر مليشيا الحشد ذراعها العسكري ذا الولاء العقائدي لولاية الفقيه في إيران والأكثر وثوقًا به داخل العراق.
ومرة أخرى يثبت السيستاني بأنه لا يمثل مرجعية دينية شيعية لشيعة العراق فحسب، إنما يمثل مرجعية سياسية لأحزاب السلطة في بغداد أيضًا، يتدخل في حسم القضايا المستعصية على الحل، ففي تدخله الأخير هذا، حسم قضية مصيرية تخص النظام السياسي القائم في العراق.
وقطع السيستاني الطريق على أي أمل بمستقبل للعراق يكون التعايش السلمي بين مكوناته هو الأساس في حكم البلد، فقد حسم أمره واختار أن يكون النظام الحاكم بالعراق نسخة لا تختلف بشيء عن النظام القائم في إيران، فالحشد الشعبي سيمثل حالة طبق الأصل لتنظيم الحرس الثوري الإيراني في إيران، والقيادة السياسة في بغداد ستكون بيد المكون الشيعي، أما المكونات الأخرى فمجرد تفاصيل تكميلية للصورة التي يريدونها للديمقراطية المزعومة في العراق.
وهذا نفس الحال الموجود في إيران التي تدعي أيضًا أنها بلد ديمقراطي، مع اختلاف بسيط أن الحالة السياسية في إيران ممسوكة تمامًا من المكون الفارسي الشيعي وإقصاء كل المكونات الإيرانية الأخرى عن المشاركة في العملية السياسية الإيرانية، ومن المتوقع أن الحالة الأخيرة في إيران سيصلها العراق خلال بضع سنين قادمة ليتم إقصاء كل المكونات الأخرى سوى المكون الشيعي.
إلا أن السيستاني لم ينس دغدغة مشاعر من يُوصفون بأن لهم مشاعر عروبية من الشيعة، وذلك من خلال إرجاع الفضل بالانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” إلى القوات العراقية حصرًا دون مشاركة من أحد، في إشارة لإيران التي لا تخفي مشاركتها في المعارك ضد داعش بالعراق، حينما قال “ولا فضل لأحد إلا للعراقيين في تحقيق الانتصار على الإرهاب”، وربما يكون هذا أيضًا ردًا على همام حمادي الذي صرح من طهران: “لا قيمة للعراق من دون إيران والنصر على داعش لم يكن ليتحقق لولا الدعم الإيراني”.
إيران تحتاج للحشد بشدة
وتفسير حالة الاحتياج الشديد من إيران لبقاء مليشيا الحشد في العراق، أن الحشد يعتبر الدعامة الحقيقية لنفوذها بالعراق، وعلى الرغم من أن السلطة السياسية في بغداد التي هي بالمجمل تعتبر موالية لإيران، فإنها تبقى خاضعة لعملية انتخابية يمكن أن يعتريها التغير إذا ما صادف وأرادت القوى الغربية أن تكون الانتخابات نزيهة، أو إذا تغيرت خريطة التحالفات في الانتخابات القادمة، لا سيما أن التحالف الشيعي – الكردي الآن في أسوأ حالاته.
وربما يفضل الأكراد التحالف مع الأطراف السياسية السنيَّة في الانتخابات القادمة، وفي هذه الحالة لن تكون هناك غالبية انتخابية للمكون الشيعي في العراق، لذلك يبقى الحشد الشعبي ضمانة إيرانية لكل تغير طارئ لا يخدم مصالحها في العراق وجاهز للتدخل في وقت الأزمات.
السيستاني بموقفه هذا يدحض كل النظريات التي تفيد أنه على خلاف مع نظام ولاية الفقيه الإيراني، وهو ما راهنت عليه بعض الدول العربية والخليجية جهلًا منها بحقيقة الترابط العضوي بين كلا المنظومتين الشيعيتين في قم والنجف
لكن السؤال هنا: لماذا ارتضى السيستاني أن يكون ضمن الخطة الإيرانية وضامنًا لها، فبموقفه هذا يدحض كل النظريات التي تفيد أنه على خلاف مع نظام ولاية الفقيه الإيراني، وهو ما راهنت عليه بعض الدول العربية والخليجية جهلًا منها بحقيقة الترابط العضوي بين كلا المنظومتين الشيعيتين في قم والنجف.
لقد وافق السيستاني بموقفه الأخير، أن يبقى النفوذ الإيراني بالعراق على أشده بل ودعم بقائه من خلال موافقته ومباركته على إبقاء الحشد موجودًا بشكل قانوني ضمن الدولة العراقية كقوة مستقلة لها ولاءاتها المستقلة.
ولو كان صادقًا في قوله إن القوات المسلحة ما زالت بحاجة لرجال الحشد الشعبي للحفاظ على أمن العراق، لماذا لم يوص بدمجه تمامًا مع القوات المسلحة العراقية التابعة للحكومة؟ إن ما يريده السيستاني هو الإبقاء على الحشد كقوة عسكرية عقائدية مستقلة تدين بالولاء للمرجعية في قم والنجف دون الولاء للوطن وبمعزل عن القوى الأمنية الحكومية، وهو بذلك يعتبر ضمانة عسكرية ضد أي تغير مباغت يمكن أن يحدث مستقبلًا ضد سيطرتهم المطلقة على البلد، حيث يُلخص اتباع المرجعية كل ذلك بالقول إن الحشد الشعبي ابن المرجعية وسلاحٌ لن تفرّط فيه المرجعية أبدًا.
إيجاد الذرائع لبقاء الحشد الشعبي
ومن أجل إيجاد الذرائع القوية لبقاء الحشد الشعبي، ادعى بأن المعركة مع داعش لم تنته، كما تقوم الحكومة العراقية ومن خلفاها النظام الإيراني بخلق منظمات إرهابية جديدة بتمويل إيراني أو عراقي لخوض معارك جديدة تكون مبررًا لوجود قوة عسكرية مقابلها مثل قوة الحشد الشعبي، وفي هذه المرة جاءوا بفرية جديدة اسمها “الرايات البيض” وهو تنظيم جديد يعمل في مناطق كردية، يقولون عنه إنه شُكّل من بقايا تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وأفراد من البيشمركة وآخرين من تنظيم رجال الطريقة النقشبندية، وهم بذلك يجمعون كل أعدائهم في تنظيم جديد واحد، لكي يضربونهم مرة واحدة، من عرب سنَّة وكرد وبعثيون، وفي منطقة يريدون السيطرة عليها بشكل كامل، من خلال إعلان وجود هذا التنظيم في مناطق كردية مثل كركوك وطوزخورماتو وما حولهما.
وما نرجحه في الأيام أو الأشهر المقبلة أن التسليط الإعلامي على هذا التنظيم الجديد سيكون على أعلى مستوى وسيصنعون له هالة إعلامية كبيرة، ويتم ربطه بالحزب الديمقراطي الكردستاني، ليكون مبررًا للدخول الى كردستان عسكريًا وفرض إرادة سلطة بغداد عليها وضرب حزب البارزاني والتجربة الكردية بشكل عام.
فبعد أن تم الانتهاء من السيطرة على المناطق السنيَّة وتطويع أهلها لأجندة السلطة تمامًا، وصل الدور لتصفية الحسابات مع الكرد، وستعمل إيران على إدامة تلك الفوضى إلى الحد الذي تطمئن به أن لا وجود لمنافس جدي لها في العراق
حاول “السيستاني” التلاعب بالألفاظ حينما قال إن السلاح يجب أن يكون بيد الدولة، وقد فهمها البعض بأنها تعني تجريد الحشد الشعبي من سلاحه، لكن حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن هذا
ويوضح في ذلك “الكربلائي” نقلًا عن وليه “السيستاني” بأن المعركة مع الإرهاب ما زالت مستمرة لا سيما في سياقها الاستخباراتي والثقافي الذي يعني إطلاق يد المليشيات والقوات الحكومية بالقيام باعتقالات واسعة في صفوف ما تبقى من شباب السنَّة وربما يطال الأمر أيضًا لشباب الكرد بتهمة الانتماء لمنظمات إرهابية.
لكن الأخطر من كل ذلك هو ما يسميه بالجهد الثقافي الذي يقصدون به تغير العقائد والقناعات والانتماءات لأهل السنَّة واستبدالها بعقائد التشيع والولاء والانتماء للنظام الإيراني.
وهذا ما نراه جليًا الآن في المناطق السنيَّة التي تسيطر عليها المليشيات وارتفاع وتيرة التشيع فيها، التي تلقى استجابة من الناس هناك بعضها خوفًا وبعضها طمعًا، ومن غير المستبعد أن تتم إيران عملها هذا خلال بضع سنوات ليكون العراق من شماله إلى جنوبه شعبًا معبأ عقائديًا لصالحها ولا يوجد فيه من السنَّة إلا أقلية غير مؤثرة على سلطتها المطلقة في العراق.
لقد حاول السيستاني التلاعب بالألفاظ حينما قال إن السلاح يجب أن يكون بيد الدولة، وقد فهمها البعض ممن لا باع له في السياسية الإيرانية أو ليست له معرفة بالأساليب الإيرانية، بأنها تعني تجريد الحشد الشعبي من سلاحه، لكن حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن هذا، فالحشد الشعبي ووفق قرار مجلس النواب في 26 من نوفمبر/تشرين الثاني 2016 يعتبر هيئة تابعة للحكومة العراقية وبالتالي فإن السلاح الذي بيده تابع للحكومة.
ومن هذا فإن السيستاني لم يأت بجديد ولم يؤثر على عمل تلك المليشيات بشيء، وهو ما أكده الناطق باسم الحشد الشعبي النائب أحمد الأسدي حينما قال تعليقًا على خطبة السيستاني الأخيرة: “المرجعية تؤكد الاحتفاظ بقوات الحشد الوطنية، فهي جزء من المنظومة الأمنية حاليًّا”.
التحضير للانتخابات النيابية القادمة؟
ومن هذا يبدو لنا أن النظام الإيراني يراهن على الواجهات السياسية المنبثقة من الحشد في الانتخابات النيابية القادمة ويعتبرها خياره الأول، والأكثر حظًا بالفوز برئاسة الوزراء هو هادي العامري زعيم مليشيا بدر ذو الولاء المطلق لإيران.
ما يحدث الآن والذي بدأ منذ الأسبوع الماضي أن كُبرى المليشيات التي يتشكل منها الحشد الشعبي مثل مليشيا بدر ومليشيا العصائب، تقوم بفك الارتباط ما بين جناحها السياسي والعسكري، تمهيدًا للدخول إلى العملية السياسية في الانتخابات القادمة، وهذا ما تعتزم فعله أيضًا كل المليشيات الأخرى المحسوبة رسميًا على إيران، وتشكيل تحالف انتخابي جديد يكون بزعامة هادي العامري.
لكن هل يستطيع الكرد والعرب السنَّة قلب الطاولة على الجهود الإيرانية في الانتخابات القادمة؟ وفق اللعبة السياسية الجارية في العراق، فإن الأحزاب الشيعية أو أي طرف شيعي يريد تشكيل حكومة مستقبلية في العراق لا بد له من دعم من الأطراف السياسية الكردية أو السنيَّة لكي يكتمل النصاب بتشكيل الحكومة القادمة كما جرى ذلك في كل حكومات ما بعد الاحتلال.
وعلى هذا الأساس ونظرًا للخلافات المستحكمة بين الأحزاب الشيعية وكل من الأحزاب الكردية والسنيَّة فإن تحقيق مثل هذه التوافقات ربما يكون صعبًا، كما أن للكرد والعرب السنَّة فرصة لقلب الطاولة على الأطراف الشيعية وفرض رؤيتهم في العملية السياسية، من خلال جعل موقفهم موحد برفض تشكيل حكومة بقيادة الشيعة إلا إذا حققت شروط الطرفين الكردي والعربي السنَّي.
السيستاني والأطراف الشيعية في العراق، حسمت أمرها في الاستئثار بحكم العراق وحدها، دون أن تدع مجالًا لأي مكون آخر ليشاركها بالحكم، وهم يعتقدون أن هذا استحقاقهم الذي حصلوا عليه بالدم والتضحيات الجسام من خلال سلسلة الحروب الداخلية التي خاضوها مع باقي المكونات العراقية
لكن الأطراف السياسية الشيعية المدعومة من إيران لن يكون صعبًا عليها تجاوز هذه المشكلة، حيث يدور الحديث الآن عن تغير في موضوع تشكيل الحكومة القادمة من حكومة توافقية يفترض أن تشكل من جميع المكونات السياسية، إلى حكومة أغلبية يمكن لأي تكتل سياسي يجمع الأغلبية من الأصوات داخل مجلس النواب من تشكيل الحكومة القادمة.
وبما أن جميع الأصوات الشيعية لا يمكنها تحقيق الأغلبية المطلقة فإنها تبقى بحاجة لبعض أصوات الكرد وأصوات السنَّة، وبالتأكيد إيران ستلعب دورًا كبيرًا في توفير مثل هذه الأصوات.
ففي الجانب الكردي لإيران نفوذ قوي على حزب الطالباني وبعض الأحزاب الكردية الصغيرة، فمن السهل على إيران أن تقسم الصف الكردي وأخذ ما يقارب نصف أصواتهم لصالح الكتل الشيعية.
أما فيما يخص الأحزاب العربية السنيَّة فإن اللعبة القديمة جاهزة للعمل بها مرة أخرى، فكما كانت إيران تعمل كل مرة بكسب الأصوات السنيَّة من خلال استمالة من يدعون بسنَّة المالكي أو السنَّة التابعين للأجندة الإيرانية، فسوف يحصدون أصوات ليست بالقليلة من العرب السنَّة لصالح الموافقة على حكومة الأغلبية الشيعية، وبهذا يمكن للتحالف الشيعي تحقيقي الأغلبية النيابية لتشكيل حكومة أغلبية تستأثر بالحكم مرة أخرى.
هل من ضوء في نهاية النفق؟
يتبين مما أوردناه أعلاه، أن السيستاني والأطراف الشيعية في العراق، حسمت أمرها في الاستئثار بحكم العراق وحدها، دون أن تدع مجالًا لأي مكون آخر مشاركها بالحكم، وهم يعتقدون آن هذا استحقاقهم الذي حصلوا عليه بالدم والتضحيات الجسام من خلال سلسلة الحروب الداخلية التي خاضوها مع باقي المكونات العراقية.
وإذا بقيت هذه العقلية التي تفكر بها النخبة السياسية الشيعية على ما هي الآن، فإن الوضع مرشح للانفجار مرة أخرى، وستكون أعنف وأشد فتكًا هذه المرة من سابقاتها، فالمكون الكردي سيصل عاجلًا أو آجلًا لمرحلة التصادم العسكري مع الحكومة العراقية المسيطر عليها من الشيعة، ونفس الأمر سيكون عند العرب السنَّة.
وبذلك يكون السيستاني قد ضيع الفرصة الأخيرة لإحلال السلام في العراق، وتجنُب اللعنة التاريخية التي ستلاحقه وتلاحق المكون الذي ينتمي له بسبب موافقته على إبقاء التوتر قائمًا بين مكونات الشعب العراقي.