دشّنت دوائر صنع القرار في إيران نقاشات موسعة بعد رد تل أبيب على استهداف إيران للعمق الإسرائيلي بصواريخ باليستية وطائرات مسيرة الشهر الماضي، خصوصًا وأن الهجوم الإسرائيلي استهدف قاعدة أصفهان وسط البلاد، والتي تحتضن العديد من المفاعلات النووية الإيرانية.
وأصبح السؤال الأهم داخل الحرس الثوري؛ ماذا لو وصل الاستهداف والاستهداف المقابل بين إيران و”إسرائيل” إلى حافة الحرب النووية؟ كيف سيكون وضع إيران في تلك الحالة؟ خصوصًا مع القدرات النووية التي تمتلكها “إسرائيل”.
تحدثت العديد من المواقع الإخبارية الإيرانية، أنه في الأيام الماضية رفع قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي تقريرًا للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، يطالبه فيه بالتراجع عن فتواه الخاصة بتحريم امتلاك السلاح النووي، وكان هذا التقرير هو حصيلة نقاشات موسعة بين جنرالات الحرس الثوري، توصلت هذه النقاشات إلى أن امتلاك السلاح النووي هو الضمانة الحقيقية لبقاء النظام، وأن المراهنة على وسائل أخرى لحماية النظام، مجرد افتراضات غير واقعية.
وأكد التقرير الذي رُفع إلى خامنئي، أن إيران تمتلك حاليًا من اليورانيوم المخصب ما يجعلها قادرة على امتلاك قنبلة نووية في ظرف 24 ساعة، فضلًا عن قدرتها على امتلاك ما يقرب من 25 قنبلة نووية خلال شهر تقريبًا، علمًا أن هذه المطالبات بدأت تجد صداها داخل الأوساط السياسية الإيرانية، وتحديدًا التيار المتشدد، الذي أيد هذا المطلب بشدة.
وفي خضم هذه النقاشات، اجتمع خامنئي مع جنرالات الحرس الثوري الأربعاء الماضي، حسبما أشارت لذلك العديد من المواقع الإخبارية الإيرانية، وأكد خامنئي خلال هذا الاجتماع أن مسؤولية حماية النظام تقع على عاتق المرشد الأعلى في البلاد، وهو وحده من يقرر الوسيلة المناسبة لحماية النظام، مؤكدًا أنه لا تراجع عن الفتوى الخاصة بتحريم امتلاك السلاح النووي، وأن مجرد إدراك العدو بقدرة إيران على امتلاك السلاح، يمثل الرادع الحقيقي الذي سيجعل العدو يفكر كثيرًا قبل أن يهدد النظام في طهران، معتبرًا أن إيران نجحت في ترسيخ هذا التصور لدى الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
تحديات إستراتجية
يدرك خامنئي مخاطر تكرار نموذج كوريا الشمالية، خصوصًا وأن الوضع في إيران لا يختلف كثيرًا عنها بالوقت الحاضر، بسبب التحديات التي لا زالت تفرظها العقوبات الدولية عليها، بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، فكوريا الشمالية نجحت بامتلاك السلاح النووي، لكنها أنتجت مجتمع يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية حادة، وفي الحالة الإيرانية تبدو الأمور أكثر خطورة، خصوصًا في ظل الترابط الوجودي بين النظام الإيراني والمشروع الإقليمي، الذي يعتمد في وجوده على بقاء النظام مستقرًا في طهران، وفي هذا السياق فإن خامنئي يدرك مخاطر التصعيد النووي مع المجتمع الدولي.
مما لا شك فيه أن الوضع الداخلي في إيران لا زال يغلي على صفيح ساخن، فمن جهة؛ فشل النظام حتى الآن في تجاوز الأزمة الإقتصادية، ومن جهة ثانية أخذت المشاكل الاجتماعية تفرض نفسها بقوة على الساحة السياسية، ومن جهة ثالثة فإن خامنئي يدرك أهمية توفير حالة من الاستقرار السياسي في البلاد، من أجل تهيئة ظروف ملائمة للمرشد القادم، فكل هذه الحسابات يدرك خامنئي خطورتها في حال المضي قدمًا نحو امتلاك السلاح النووي، وهي تحديات ستكون حاضرة بصورة مستمرة في قناعاته وتصوراته للمرحلة المقبلة.
وعلى الرغم من رفض خامنئي المطلق لامتلاك السلاح النووي، إلاّ أن تأكيده على مسألة التوقف عند العتبة النووية، يؤكد وجود نوايا حقيقية له بامتلاك هذا السلاح، لكن في ظروف أخرى، إذ يدخل متغير القدرات النووية التكتيكية، كتوجه إيراني حقيقي في تعزيز سياسة الردع لديها.
إذ إنه على الرغم من أن العديد من المسؤولين الإيرانيين يشعرون بأن نمط سلوك إدارة جو بايدن في التعامل مع إيران داعم أو غامض نوعًا ما، فإن الاتجاهات الحالية في سياسة بايدن الإقليمية تعكس حقيقة أن الولايات المتحدة ستواصل سياستها لاحتواء إيران في بيئة إقليمية ودولية متعددة الأطراف، والسبب الرئيسي لضغوط بايدن الإستراتيجية والتكتيكية في التعامل مع إيران، هو تقليص القوة الرادعة والتكتيكية لإيران في البيئة الإقليمية.
ويمكن اعتبار قدرة الردع الإيرانية أحد المؤشرات الرئيسية لقوة إيران التكتيكية ضد التهديدات الخارجية، كما أن البرنامج الصاروخي الإيراني يُعد مكونًا أساسيًا لرادعها الإستراتيجي، نظرًا لافتقارها إلى قوة جوية حديثة، فقد تبنت إيران الصواريخ الباليستية كقدرة بعيدة المدى لثني خصومها في المنطقة.
تدرك إيران بأن الهدف الرئيسي لإدارة بايدن اليوم، هو عدم السماح لإيران بتجاوز العتبة النووية تحت أي ظرف، خصوصًا إذا ما نجحت إيران بتزويد حلفاؤها، وتحديدًا حزب الله اللبناني، بمواد نووية يمكن استخدامها في صناعة الصواريخ الباليستية، خصوصًا إذا ما انتقلت الحرب من غزة إلى بيروت، عندها ستكون الولايات المتحدة مجبرة على حماية التوازن الإقليمي من أي انهيار.
وبالتالي فإن التلويح الإيراني المستمر بزيادة نسب تخصيب اليورانيوم، قد يمثل دبلوماسية ضغط إيرانية لإجبار إدارة بايدن على اقتصار الحديث على البرنامج النووي، دون الملفات الأخرى، وفي هذا المجال؛ قد تمثل عملية إخضاع حلفاء إيران والابقاء على العقوبات، نهجًا فاعلًا لإدارة بايدن فيما لو قررت احتواء إيران على المستوى القريب.
التداعيات على السياسة الأمريكية
أنتجت السياسات الإيرانية تداعيات أمنية وسياسية خطيرة على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وتحديدًا بعد نجاح إيران في استغلال الاضطرابات الإقليمية المستمرة، لبنان 1982، العراق 2003، سوريا 2011، اليمن 2014، غزة 2023، ونجحت في إنتاج هلال عقائدي يمتلك مقومات سياسية واقتصادية وعسكرية.
ورغم سعي إدارتي (أوباما – ترامب) لترويض الدور الإقليمي الإيراني، إلا إنه من الواضح أن المقاربات الاستراتيجية التي اعتمدتها الإدارتين السابقتين مع إيران لم تنجح، وهو ما يفرض بدوره مزيدًا من الضغوط على إدارة بايدن أيضًا، في كيفية إنتاج مقاربة إستراتيجية جديدة للتعامل مع إيران في مرحلة ما بعد الحرب على غزة.
يرى المسؤولون الإيرانيون أن الدبلوماسية النووية الأمريكية لا تتماشى حتى اللحظة مع المصلحة الإيرانية، ومع وجود شخصيات مهمة في إدارة بايدن مثل أنتوني بلينكن وويليام بيرنز وجيك سوليفان، تتزايد الخشية الإيرانية في إمكانية زيادة الصعوبات أمامها، خصوصًا وأن هذه الأسماء تدرك جيدًا طبيعة الاتفاق النووي، وتحاول تقييمه اليوم وفق آلية قد تفرض مزيدًا من الضغوط على إيران، لا سيما وأنها أعلنت في مرات سابقة، عزمها على التوصل لاتفاق أطول وأوسع مع إيران، وهي قناعات نقلتها الإدارة الأمريكية إلى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان أثناء تواجده في نيويورك في أبريل /نيسان الماضي، للمشاركة في جلسة مجلس الأمن الخاصة ببحث تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة.
إن الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن ربما لديها فرصة أكبر من أجل الضغط على إيران، لأن الأطراف الأوروبية والتفاهم عبر الأطلسي، سيسمح للأوروبيين بأن تكون مواقفهم أكثر انسجامًا مع الموقف الأمريكي من إيران، لا سيما بعدما أكدت الدول الأوروبية أهمية معالجة سلوك إيران الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية، إلى جانب البرنامج النووي.
ومن المرجح أن تكون روسيا والصين أكثر تجاوبًا في حالة الوصول إلى تفاهُمات مع الولايات المتحدة بشأن الخلافات الثنائية، كما أن الإدارة الأمريكية بصدد اصطحاب القوى الإقليمية في عملية المفاوضات، من أجل ضمان عدم تخريب أيّ سياسة تتبنّاها، فخلال سنوات الضغط والعقوبات، كان النظام الإيراني بالكاد قادرًا على تحريك السياسات الإقليمية، بما يهدِّد الأمن والاستقرار.
لكن في الوقت الراهن، يمكن القول: إنَّ الضغوط لديها قُدرة حقيقية على تحجيم النفوذ وتجميده على أقل تقدير، من خلال حرمان النظام من الموارد اللازمة لمواصلة سياساته الإقليمية، فضلًا عن تعقُب الشبكات المتعاونة، والقادرة على تمرير السياسات غير المشروعة، والهادفة لإعطاء قوة دفع كبيرة للنظام السياسي الإيراني على مواصلة تحدي المجتمع الدولي.