شهد العالم في الآونة الأخيرة موجة من المواقف السياسية الحازمة والهبات الشعبية الغاضبة التي وصلت إلى بلدان أمريكا الجنوبية، وذلك نتيجة لاعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وفي غضون هذه الأحداث المصيرية، خطفت جمعية “هذه هي البحرين” الأضواء الإعلامية بعد زيارة 24 فردًا للقدس المحتلة لأربعة أيام، بدافع “نشر السلام وتعزيز ثقافة التعايش بين الأديان المختلفة”، وهو الأمر الذي وصفته القناة الإسرائيلية الثانية بـ “أول الغيث”، على النقيض من الجانب العربي والفلسطيني الذي قابل هذه الزيارة برفض واضح واستنكار صريح، واعتبر أنه تشجيع للجيش الإسرائيلي على الاستمرار في جرائمه وانتهاكاته.
هذه الزيارة العلنية فتحت معها ملفات سياسية حساسة مثل مسألة التطبيع التي وقع في شباكها غالبية الدول العربية، بحجة أن التطبيع مع دول المنطقة سيمهد الطريق أمان تحقيق السلام مع الفلسطينيين كما يدعي رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامن نتنياهو.
لم تغب المرأة العربية عن ساحة رفض هذا التطبيع المستنكر شعبيًا في هذا الوضع الحرج، فلقد أطلقت مجلة “ميم” التي تهتم بشؤون المرأة حملة باسم “عربيات ضد التطبيع” من أجل تحشيد الشعوب العربية للدفاع عن القدس ومواجهة علاقات التطبيع العربية السرية والعلنية مع “إسرائيل”، وهذه أبرز دوافع ومحاور الحملة:
المرأة العربية وجهًا لوجه مع الصمت العربي
بصفة عامة، تهدف هذه المبادرة إلى جمع القيادات والرموز النسوية من المثقفات والكاتبات وناشطات المجتمع المدني بالتعاون مع مختلف الهيئات، لمواجهة الاحتلال ومحاربة محاولات التضليل وتزييف الوعي السياسي للمرأة العربية، عبر إلهائها بمظاهر انفتاح مضلل يتلخص في الترخيص لها بقيادة السيارة أو حفلات الغناء والرقص، في حين يلجم صوتها في القضايا المصيرية.
وتسعى الحملة إلى تحقيق هذه الرؤية من خلال استغلال منصات التواصل الاجتماعي للتعريف بنفسها والتواصل والوصول إلى الجمهور النسوي في العالم العربي، إضافة إلى خطتها في تنظيم ندوات وورشات عمل ومؤتمرات في العواصن العربية بتأسيس برنامج عمل يمكنه مواجهة التطبيع والهروب من القضية، وهذا بحسب ما كتبته سمية الغنوشي، رئيسة تحرير مجلة “ميم”.
وفي نفس الشأن، أوضحت الغنوشي أن النظام الرسمي العربي يتغافل عن وظيفته الوطنية والقومية والإسلامية تدريجيًا، حتى تكاد القضية الفلسطينية أن تختفي من سلم أولويات وأجندة حكام الدول العربية الذين انشغلوا في إعداد مشاريع اقتصادية وسياسية وثقافية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
“ليس لأحد الحق في الحديث بالنيابة عنا واستغلال ما سلبنا من حقوق لمواراة سوأة الاستبداد والتطبيع.. نحن العربيات مخولات لتحديد قضايانا وأولوياتنا بأنفسنا، دون وسيط يتاجر بنا ولا وصي يقامر بمصير أمتنا”
كما نوهت إلى المبررات الواهية والوهمية التي تتبعها بعض الحكومات العربية لتبيح لنفسها التعامل مع “إسرائيل”، ومنها: مواجهة التهديد الإيراني وخطر التغيير في المنطقة وتنامي هاجس الخوف من انتشار الديمقراطية وارتفاع المطالب الشعبية بتقييد الحكم المطلق بقوة الدساتير والمؤسسات السياسية، وهذا بعد أن كانت تدعي لسنوات طويلها أنها اتخذت هذه الخطوة حتى تعجل في عملية السلام للفلسطينيين.
وأشارت إلى أن أبرز نتائج هذه العلاقات المغطاة بالرعاية الأمريكية أدت إلى بث الفتن الداخلية وزرع الحروب الأهلية في عدة بلدان عربية مثل ليبيا واليمن والعراق، إلى جانب دعم الانقلابات العسكرية وتخريب التجارب الديمقراطية الوليدة في المنطقة.
وأما عن مكانة المرأة ضمن هذه الترتيبات السياسية فقالت الغنوشي “سعى معسكر الاعتدال هذا على مواراة مساره الطبيعي خلف واجهة من الانفتاح والثقافي والفني ومحاولة استغلال وضعية المرأة بعدما تم تغييبها وحجبها عن الحياة العامة بتوجهات دينية متشددة كانت تستميت في فرضها على العالم الإسلامي”، وأضافت فيما بعد “ليس لأحد الحق في الحديث بالنيابة عنا واستغلال ما سلبنا من حقوق لمواراة سوأة الاستبداد والتطبيع.. نحن العربيات مخولات لتحديد قضايانا وأولوياتنا بأنفسنا، دون وسيط يتاجر بنا ولا وصي يقامر بمصير أمتنا”
الشارع العربي ينقذ قضية فلسطين
ولأن بعض حكام الدول العربية لم يفشلوا في تخييب ظن الشعب الفلسطيني، نجحت الشوارع العربية بالمقابل بالتحرك بالاتجاه السليم نحو القضية، حاملين المبادئ والمفاهيم الوطنية الثابتة، وهذا بالمقارنة مع المبادرة العربية التي طرحت موضوع التطبيع على الطاولة من قبل الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2002 في العاصمة بيروت، وهو المشروع الذي تلاعب بالوعي العربي وألقى بالقضية الفلسطينية بعيدًا عن أعين الحكام العرب، والتي أشاحت بوجهها عن الحقيقة التي تقول إن مصدر التهديد الرئيسي هو “إسرائيل”.
كذلك أوضحت الغنوشي أن المطلوب من الدول العربية “ليس تجييش الجيوش أو شن الحروب من أجل فلسطين، رغم الأسلحة المكدسة والأموال المهدرة، بل مجرد التعبير عن موقف سياسي موحد ضد الصلف الأمريكي الإسرائيلي، والالتزام بالحد الأدنى من المصالح العربية، والانتهاء عن اللهث العبثي وراء التحالفات مع إسرائيل ولوبياتها”.
ماذا قالت المرأة العربية في حملة “عربيات ضد التطبيع”؟
وفي نفس المجلة وضمن الحملة ذاتها، شاركت مجموعة من النساء المهتمات بالقضية الفلسطينية وعلاقات التطبيع والتي حاورتهم “ميم”، ومنهم الكاتبة والإعلامية التونسية أمل المكي التي قالت “أباحت النخبة المثقفة التطبيع وكأن الثقافة المعزولة عن السياسية والاقتصاد بل وكأن الكيان لم يقم بالاستيلاء على عناصر عديدة من الثقافة الفلسطينية والعربية عمومًا ونسبها إلى نفسه”، ووصفت هذه الفئة “بالخائنة” التي شوهت أجمل ما في الفن والثقافة من قيم إنسانية.
وفي نفس السياق، تابعت المكي “لا يجب أن ننتظر جامعة عربية ولا حكومة لتعيد للشارع العربي كرامته ولأرض فلسطين حريتها، ففاقد الشئ لا يعيطه. شباب جيلنا هو آخر أمل عربي للوقوف صدا منيعًا أمام محاولات تكريس التطبيع كوجهة نظر”.
هذا وصرحت الإعلامية السورية في إذاعة صوت الشعب، شيرين موسى حبش، أن التطبيع أمر مرفوض تحت أي شكل كان وبأي صفة أتى، وخاصة في ظل ما تشهده فلسطين بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالاعتراف بأن القدس المحتلة عاصمة “إسرائيل”
وأشارت إلى أن “التطبيع بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني قبل الإعلان عن قرار ترامب وصل إلى مراحل متقدمة جدًا، وقد وصلت إلى إمكانية تبادل السفراء، واجتماعات سرية، وغيرها” ونوهت إلى صفقة القرن الأخيرة التي وقعت مع بعض الدول الخليجية والتي قيل عنها أن السعودية تلعب فيها دورًا كبيرًا، الأمر الذي يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها، بحسب وجهة نظرها.
حظيت هذه الحملة بتفاعل مقبول وواسع على هاشتاج #عربيات_ضد_التطبيع في منصات التواصل الاجتماعي، والذي جمع الأصوات النسائية العربية المنددة بموقف الحكام العرب المترهل والتي تجرم وتحرم التطبيع
كما تابعت مجلة “ميم” الحوار مع الكاتبة والناشطة، مها الجويني التي عبرت عن رأيها قائلة أن “القضية الفلسطينية هي قضية أممية إنسانية عادلة آمن بها نيلسون مانديلا وتوماس سانكارا وإرنستو تشي غيفارا، وما يحدث الآن من تقهقر ومن استفزازات للشعب الفلسطيني وللمناصرين، وما يقون به اليمين المتطرف في إسرائيل هو نتاج لتراجع سياسات التضامن مع الشعب الفلسطيني”، وأكملت “للأسف الترويج لإسرائيل فخ وقعت فيه العديد من النخب من خلال ترديدها للخطاب الإسرائيلي الذي يقوم على أكاذيب ومعلومات باطلة”. هذا وقالت إن الدولة التي تقوم على الإبادة الجماعية والتمييز العنصري لا يمكنها أن تتحول إلى نموذج للعيش المشترك.
ولم تنته المشاركة النسوية العربية عند هذا الحد، بل حظيت هذه الحملة بتفاعل مقبول وواسع على هاشتاج #عربيات_ضد_التطبيع في منصات التواصل الاجتماعي، والذي جمع الأصوات النسائية العربية المنددة بموقف الحكام العرب المترهل والتي تجرم وتحرم التطبيع وتعرفه على أنه “خنوع ومذلة وخيانة”، وفي نفس الوقت تنشر فيه صور النساء اللاتي يشاركن بمظاهرات ومسيرات نصرة القدس.
وحتى هذه اللحظة، يمكن التفاؤل بنجاح المرأة العربية التي كسرن جميع القوالب التقليدية التي تحاول إخفاء صورتها من الساحة السياسية والوطنية، كما أنها استطاعت أن تذكر الدول العربية بالخطر الحقيقي الذي يفرق صفوفها والذي يبدأ من إهمال القضية الفلسطينية وتمرير قرارات التطبيع.
المراه تصنع ثورة #عربيات_ضد_التطبيع
— ✨ (@suha_gaza) December 16, 2017
هذا بالإضافة إلى تركيز طاقتها على قوة الشعوب التي رأى فيها نتنياهو “عائقًا” أمام توسيع علاقاته مع الدول العربية، وهذا ما أكد عليه خلال كلمة ألقاها أمام الكنيست الإسرائيلي يقول فيها “العقبة الكبرى أمام توسيع السلام لا تعود إلى قادة الدول حولنا، وإنما إلى الرأي العام السائد في الشارع العربي” أي أن الجدار الذي تصطدم به “إسرائيل” وتخشاه هو الشعوب العربية وليس حكامها، وهذا يفسر الرواية كلها بشأن موقف الحكام العرب وأهمية الهبات الشعبية الشبابية في الشوارع العربية