تحل الذكرى الأولى لاستشهاد القائد القسامي الطيار محمد الزواري حاملة معها الكثير من العبر والمعاني المتعلقة بالإرادة الفردية التي تُقارع وتهزم الإرادة الجماعية إذا كانت صادقة وفاعلة ومثمرة.
فالزواري يُعيد ضرب الحديث من جديد ويقول كما قال رسولنا الكريم “لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله” بل ويُفصِّل في ذلك وكأنه قد قال لنا أن ما وراء العرش لا يكون إلا عبر القدس أين تتصل السماء بالأرض وأن من يريد بلوغ القدس وأخلص وصدق في طريقه فإنه ولو أُحيطت بجيوش العالم يبلغها.
أما معالم الطريق فهي التي يجب أن يُدركها المرء حتى يقتفي أثر القضية جيدًا، ولعل مركزية المسجد الأقصى في وجدان كل مسلم تفصله الأقطار والحدود عنه، تجعله يرى البلوغ أحيانًا شبه مستحيل إلا بمعجزة أو بتطبيع عاقبته مذلة وعودة على الأعقاب بلا مجد.
يعلمنا الزواري درسًا آخر مفاده أن هذا الكيان الغاصب يخاف من العلم لأنه يدرك قيمته جيدًا
“لا ثقافة بلا جغرافيا ولا تاريخ بلا جغرافيا” هكذا لخص المفكر المصري جمال حمدان قيمة الجغرافيا في اكتساب الثقافة وفهم التاريخ، إلا أن الجغرافيا بمسافتها بين القدس والمغرب العربي “تونس على سبيل المثال” تبدو جائرة للوهلة الأولى من خلال هذا التباعد في فهم تاريخ حافل دوّنه أهل تونس وأهل المغرب في المسجد الأقصى الذين لم تُعقهم الجغرافيا لكي يدوّنوا على باب المغاربة أن القدس لا يفصلهم عنها شيء، كما تبدو الجغرافيا طامسة لثقافة انتساب أهل المغرب للقضية لا ثقافة تعاطف كما يراها البعض.
وهذا ما جسّده الشهيد محمد الزواري، فقط حينما آمن أنه مُنتسب وفاعل في قضية القدس والمسجد الأقصى التي وعدها الله لعباده المؤمنين، فتجاوز الزواري الجغرافيا في يقينه وتيسّرت له المسالك لبلوغ السودان فدمشق فمصر فأنفاق غزة، لتحلق طائراته فيما بعد على مشارف القدس مرعبة الكيان الغاصب ومسببة الذعر في صفوف جنوده.
هذا الطريق الذي سلكه الشهيد من أبرز معالمه أنه طريق علم وعمل محفوف بالكتمان والصمت والإخلاص لله فقط، وكأنك حينما ترى جنازة الشهيد التي حضرها نفر قليل تحت زخات السماء الباكية يخطر ببالك حديث النبي عن موت سعد بن معاذ الذي اهتز له العرش وبكت له السماء فقط لأنه كان يتعبد في صمت دون أن يعلم أحد بذلك، فكيف بالجهاد إذا حفّه الصمت والصدق وكان بلا تبجّح أو رياء كما يفعل الكثير من القلة في هذا العصر الذي قلّ فيه المجاهدون وكثر فيه المنتسبون للإسلام دون أن يقدّموا له شيئًا.
يعلمنا الزواري درسًا آخر مفاده أن هذا الكيان الغاصب يخاف من العلم لأنه يدرك قيمته جيدًا لا سيما إذا ارتبط العلم بمسببات القوّة وهو أكثر مجال أغلقت منافذه اليوم في الدول العربية، فدولة كتونس التي ينتسب إليها الشهيد محمد الزواري يُمنع فيها حتى تحليق طائرات التصوير والألعاب “drone” وتُصادر فيها كل مشاريع الطلبة العلمية بعد تخرّجهم ويُمنع استخدام الآليات والأجهزة التي يتم اختراعها وفق قوانين واتفاقيات مبرمة من السلطة بتعلة أن هذه الاختراعات تهدد الأمن القومي ولا أحقية إلا للجيش التونس ووزارة الدفاع بامتلاكها.
نحن اليوم نستقبل ذكرى استشهاده الأولى في ظل أحلك فترة يمكن أن تمر بها القدس والمسجد الأقصى
إلا أنه ورغم كل هذه القيود المفروضة من الاستعمار الدولي ينجح الزواري في الاختراع رغم التضييق وينجح في تأسيس مدرسة بكلية العلوم الهندسية بصفاقس ليُنشئ جيلاً من العلماء والمخترعين الذين نجحوا في صناعة صواريخ علمية وطائرات يُتحكم بها عن بعد، ليس هذا فحسب بل تم الكشف فيما بعد أن الزواري كان يشتغل على مشروع غواصة حربية كان من المفترض أن تعلنها كتائب عز الدين القسام.
لقد أدرك الزواري من خلال نهجه العلمي معنى إعداد القوة ما استطعت، فباتت طائرة الأبابيل الصغيرة تقارع – رغم إمكاناتها المحدودة – ترسانة “إسرائيل” العسكرية، وأكد الزواري مرة أخرى أن قلّة عتاد لدى طائفة صادقة تغلب كثرة عتاد لدى طائفة باطلة ما كان العلم المسخر فيها لله وللقضية وهذا ما تجلى بوضوح في حرب غزة عام 2014.
وها نحن اليوم نستقبل ذكرى استشهاده الأولى في ظل أحلك فترة يمكن أن تمر بها القدس والمسجد الأقصى، آملين أن الطريق يخبئ أكثر من زواري وأكثر من عامل وعالم صامت، ليرفع الله ذكرهم فيما بعد ويُسكنهم مكانًا عليًّا وتُعلّق أسمائهم كما عُلّقت اليافطات باسم الزواري على أبواب الأقصى.