بلغت الدولة المرابطية في عهد أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين، وخلفه علي أوج قوتها، إذ حكمت المغرب وموريتانيا ووصلت حدود بجاية شرقًا والسنغال ومالي جنوبًا وكل بلاد الأندلس شمالًا باستثناء فالنسيا، فكانت الدولة الأقوى والأكبر أوروبيًا وإفريقيًا في عهدهما.
وكان الأمير تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين سندًا قويًا لهما، إذ فتح في عهد والده عدّة حصون في بلاد الأندلس ومكّن المرابطين من فرض السيطرة على مناطق واسعة، لكن مع توليه الحكم تغيرت بعض المعطيات، إذ بدأت الدولة في التراجع نتيجة بروز جماعة الموحدين في المغرب.
وخلال ولايته التي بلغت سنتين وشهرين ركّز أمير المؤمنين، تاشفين، على حرب الموحدين وإعادة بسط سيطرة المرابطين على المغرب وانصرف عن الأندلس، إلا أن حروبه كانت كلّها هزائم وكان مَوتُه في إحدى المعارك.
تاشفين بن علي
لا تذكر المراجع تاريخ ولادة أبو المعزّ (كنية تاشفين) ولا مكانها، لكن هناك إجماعًا أنه نشأ في عائلة حاكمة ملتزمة بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، فوالده أمير المسلمين علي بن يوسف وجدّه قائد المرابطين الأبرز يوسف بن تاشفين، وفي هذه العائلة تعلم أصول القيادة والحكم وغُرس لديه حب الجهاد.
كعادة قادة المرابطين، تعلق قلب تاشفين منذ صغره بالجهاد ورافق عائلته في الفتوحات إلى أن ولاه والده علي أمر غرناطة سنة 520 هجريًا وأمره بالعبور إلى الأندلس لغزو أراضي قشتالة، حيث غزا أحواز طليطلة، وافتتح 30 حصنًا.
عُقدت البيعة بولاية العهد لتاشفين بعد وفاة أخوته الأكبر منه سنًا سير وأبي بكر وعُمر وينتان، وتم إصدار عملات قيراط فضية باسم الوريث الأمير تاشفين في الأندلس في الفترة ما بين 533-537 هجريًا
بعدها بثماني سنوات دخل تاشفين قرطبة واليًا عليها، وفي نفس السنة خرج بقوات غرناطة وقرطبة وإشبيلية لغزو قشتالة وتمكن من إلحاق هزيمة كبيرة بجيشها، وفي سنة 531 هجريًا، غزا مدينة كركي وافتتحها، ثم افتتح أشكونية في العام الموالي.
وكان تاشفين “بطلًا شجاعًا حسن الرّكبة والهيئة، سالكًا ناموس الشريعة، مائلًا إلى طريقة المستقيمين، وكتب المريدين؛ قيل إنه لم يشرب قطّ مسكرًا ولا استمع إلى قينة، ولا اشتغل بلذّة ممّا يلهو به الملوك، أحبّه الناس، خواصّهم وعوامّهم، وحسنت سياسته فيهم”، وفق ما قال عنه لسان الدين بن الخطيب في كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة“.
سنة 533 هجريًا، عُقدت البيعة بولاية العهد لتاشفين بعد وفاة أخوته الأكبر منه سنًا سير وأبي بكر وعُمر وينتان، وتم إصدار عملات قيراط فضية باسم الوريث الأمير تاشفين في الأندلس في الفترة ما بين 533-537 هجريًا (1139-1143 ميلاديًا).
كانت مهمة الأمير تاشفين حينها مواصلة التمكين للمرابطين في الأندلس وتوطيد حكمهم والوصول إلى أبعد نقطة، حتى يكفّ قادة الصليبيين والإفرنجة عن التحرش بملك المسلمين في تلك الديار، لكن الأحداث المتسارعة في المغرب حتمت عليه تغيير الخطة.
تراجع المرابطين
خلال فترة توليه العهد وقبلها بسنوات قليلة، بدأت دولة المرابطين تعرف تراجعًا ملحوظًا خاصة على المستوى الديني، ما أثر على استقرار الدولة، فأمراء المسلمين المرابطون ركزوا كل وقتهم وجهدهم للجهاد والفتح.
انشغل قادة المرابطين بالجهاد وتركوا تعليم الناس وتثقيفهم أمور دينهم، وهي المهمة التي كانت على عاتق الشيخ عبد الله بن ياسين الذي اهتم في عهده بكل جوانب الحياة وعوامل ومقومات الدولة المتكاملة، التي تعطي كل جانب من مقومّاتها قدرًا مناسبًا من الجهد والوقت والعمل.
تعلّم المرابطون زمن الشيخ بن ياسين ومن بعده أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين، أن يكونوا فرسانًا مجاهدين ورهبانًا عابدين، كما تعلّموا أن يكونوا سياسيين بارعين، ومتعاونين على منهج صحيح من الإسلام الحنيف وأصوله، لكن بعد وفاتهما تغيّر الحال، ما أثر على العامة وأسلوب حياتهم، وتزامن ذلك مع توسع الدولة.
حتى إدارة الحكم والسياسة داخل البلاد، انشغل عنها المرابطون وتركوها لقضاة أخذوا يؤلّفون المؤلفات ويعقدون المناظرات، فاختلّ التوازن وعادت بعض مظاهر الفساد للظهور مجددًا وابتعد العامة عن دينهم وفتنوا بالحياة الدنيا.
عاد الاختلاط بين الرجال والنساء للبروز، ورجع الناس لشرب الخمر بعد أن تم القضاء على هاتين الممارستين في السابق، كما انتشرت مجالس اللهو والطرب بعد أن ظن الناس أن الله مكنهم في الأرض وتنامت مظاهر الفساد.
في تلك الأثناء برز رجل ورع تقي شغوف بالعلم والمعرفة يسمى محمد بن عبد الله بن وجليد بن يامصال واشتهر فيما بعد باسم “المهدي بن تومرت”، أعلن انتسابه لآل البيت وأنه سليل الحسين بن علي حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه المهدي المنتظر الذي تتحدث عن ظهوره بعض الأحاديث النبوية، وتزعم حركة دينية قامت على مبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
استغل بن تومرت انتشار الفساد والضلالة داخل دولة المرابطين ليبدأ دعوته وتأسيس مشروعه السياسي، فسيطر على عدد من المدن والحصون وتزعزع حكم المرابطين وانكبوا على حرب الوافد الجديد الذي يهدد سلطانهم وكرسي عرشهم.
الانصراف عن الأندلس
تزامن ظهور بن تومرت مع حدوث أزمة اقتصادية حادة في ربوع الدولة المرابطية؛ ففي سنة 532 هجريًا وقع فيضان كبير بطنجة، حمل الديار وسقط فيه عدد كبير من الناس والدواب، كما فتك الجراد بحقول الأندلس بين 526 و531 هجريًا، فاشتدت المجاعة وانتشر الوباء وكثر الموتى وارتفعت الأسعار.
كما شهد سوق الكتانين بقرطبة حريقًا كبيرًا سنة 525 هجريًا، وبعدها بعشر سنوات حدث حريق ضخم آخر في سوق مدينة فاس، فاحترقت سوق الثياب والقراقين وغير ذلك من الأسواق وافتقر بسببها خلق كثير، فهاجر عدد كبير من الأهالي إلى أرض الأندلس سنة 535 هجريًا.
كان أول صدام بين تاشفين والموحدين في أراضي حاحة غرب وسط المغرب، وكانت الهزيمة للمرابطين، ثم تجدّد اللقاء بين الجيشين بعد سنة وانهزم المرابطون فيها مرة أخرى
بعدها بسنتين تولى تاشفين بن علي الحكم، فرأى أن يركز اهتمامه على مجابهة الخطر الداهم من الجنوب، فشوكة “الموحدين” قد قويت وقادتهم أخذوا يحرضون الأهالي والقبائل على التمرد مستفيدين بانشغال المرابطين بالجهاد في الأندلس.
رأى أمير المؤمنين تاشفين بن علي أن يعيد جدول أولوياته السياسية، فضغط الموحدين في المغرب أشد خطرًا من ضغط الممالك المسيحية في الأندلس، فقرر الانصراف عن بلاد الإيبار وتركها لقدرها، الأمر الذي استغله الصليبيون والإفرنجة فعادت محاولات الاستيلاء على المدن الإسلامية في تلك الربوع.
ونتيجة ذلك، بدأ المرابطون في فقدان العديد من الحصون والقلاع والمدن في الأندلس لفائدة الصليبيين والإفرنجة، كما استغل بعض الأهالي انصراف المرابطين عن الأندلس للثورة على حكام القلاع والإمارات ونشر الفتن والفوضى هناك.
حرب الموحدين
انصرف أمير المؤمنين تاشفين بن علي عن الأندلس التي فتحها والده وجده، بعد أن أوكلت إليه مهمة حرب الموحدين بداية سنة 533 هجريًا، فانخرط فيها طوال عهد أبيه، وكل عهده بعد وفاة أبيه سنة 537 هجريًا وحتى مقتله في وهران سنة 539.
وكان أول صدام بين تاشفين والموحدين في أراضي حاحة غرب وسط المغرب، وكانت الهزيمة للمرابطين، ثم تجدّد اللقاء بين الجيشين بعد سنة وانهزم المرابطون فيها مرة أخرى، ثم هزم عبد المؤمن جيشًا مرابطيًا ثالثًا هذه المرة يقوده الربرتير بالقرب من تارودانت.
استولى الموحدون على سائر بلاد درعة والسوس وأخضعوا قبائلها، وفي أواخر سنة 535 هجريًا، بادر الموحدون بالهجوم واستولوا على سجلماسة ووادي ورغة، وقويت شوكتهم وزاد عددهم، فخشي المرابطون على مركز حكمهم مراكش.
وما زاد من متاعب أمير المسلمين تاشفين، تصدّع الأحلاف القبلية التي كانت تساند المرابطين، حيث خرج عدد من زعماء مسّوفة على المرابطين واختلفوا مع قبيلة لمتونة التي تمثل عصب الحكم ومركزه، فانشغل المرابطون لفترة بقتال القبائل التي خرجت عنهم.
لم يهدأ بال زعيم المرابطين تاشفين، ذلك أن حكمه في خطر، فقرر سنة 539 هجريًا جمع الجيوش من المغرب والأندلس لمحاربة الموحدين ووضع حد لهم، ودارت معارك كبرى بين جيوشه وجيش الموحدين بقيادة عبد المؤمن بن علي لمدة شهرين.
اضطر أمير المسلمين للانسحاب نحو وهران بعد أن خسر عددًا كبيرًا من الجنود وفقد السيطرة على تلمسان، ولحق به جيش الموحدين، وفي شهر رمضان من نفس السنة هاجم الموحدون قلعة المرابطين في وهران، فهرب تاشفين إلى الجبل بعد أن أضمر الموحدون النار في الحصن، لكن فرسه تردّى به ليلًا من فوق مرتفعات الجبل، فمات لفوره هو وفرسه واستولى الموحدون على وهران.
مات أمير المسلمين، تاشفين بن علي، على يد الموحدين بعد سنوات كرّسها لحربهم وقتالهم بهدف وقف زحفهم والتصدي لهم، فكان ذلك إيذانًا ببداية انهيار دولة المرابطين التي حكمت مناطق واسعة في الصحراء وكامل المغرب وموريتانيا وأغلب بلاد الأندلس.