تتواصل الاحتجاجات في مختلف مدن وقرى منطقة القبائل الجزائرية ذات الأغلبية الأمازيغية، نتيجة إسقاط البرلمان مقترحًا لإحدى نائبات حزب العمال ينص على اقتطاع جزء من موازنة وزارة التربية، يخصص لدعم تدريس اللغة الأمازيغية في المدارس.
احتجاجات تعيد للذاكرة الطابع المتمرد الذي ميز منطقة القبائل منذ عقود عدة وعلاقة التوتر السياسي بين أمازيغ المنطقة والسلطات الحاكمة التي وصلت في بعض مراحلها إلى صدام دام خلف عديد من القتلى والجرحى، فما أبرز المحطات التي عرفت توتر العلاقات بين الطرفين على خلفية القضية الأمازيغية؟
بداية الصراع
ظهرت القضية الأمازيغية إلى الوجود في الأربعينيات من القرن الماضي، فيما عرف بـ”الأزمة البربرية”، حيث طالب نشطاء الأمازيغ بتخليص لغتهم مما لحقها – في نظرهم – من تهميش وإقصاء أمام انتشار اللغة العربية منذ مجيء الإسلام، ونادوا بضرورة إدراج البُعد الأمازيغي في تنظيم الدولة المستقلة المقبلة، لكن قوبل طلبهم بالرفض والتجاهل وإبعاد القيادات الأمازيغية.
بعد الاستقلال مباشرة، أي بعد سنة 1962 دأبت السلطات الحاكمة في البلاد على فرض روايتها الرسمية للتاريخ ومعاييرها في تحديد الهوية الوطنية وإقصاء اللغة والثقافة الأمازيغيتين من قاموسها السياسي، إذ رفض أحمد بن بله (أول رؤساء الجزائر بعد الاستقلال) هذه المسألة، مؤكدًا عروبة الجزائر، وقال في خطاب له يوم 5 من يوليو/تموز 1962: “التعريب ضروري لأنه لا اشتراكية بلا تعريب ولا مستقبل لهذا البلد دون التعريب”.
أسهمت الأكاديمية في إثراء النقاش عن اللغة والثقافة الأمازيغية، خاصة مع تبنيها حرف تيفنياغ لكتابة الأمازيغية
ومع بداية أولى مراحل التعريب في الجزائر في عهد هواري بومدين (الرئيس الثاني للجزائر المستقلة) وترسيم اللغة العربية كلغة وطنية بعدما كان الاستعمار الفرنسي قد أعلنها لغة أجنبية في الجزائر عام 1936، بدأت أولى المواجهات بين دعاة الأمازيغية خاصة حزب جبهة القوى الاشتراكية برئاسة حسين آيت أحمد الذي تأسس في سبتمبر/أيلول 1963 والسلطة بشأن المسألة اللغوية.
في تلك الفترة بقيت القضية الأمازيغية ثقافية ونخبوية بالأساس، فلا يكاد المتحدثون عنها يتجاوز بعض الأكاديميين والمثقفين الذين انتظموا في إطارٍ أكاديمي أطلقوا عليه اسم “الأكاديمية الأمازيغية” التي تأسست في سنة 1966 واتخذت من العاصمة الفرنسية باريس مقرًا لها، وأسهمت هذه الأكاديمية في إثراء النقاش عن اللغة والثقافة الأمازيغية، خاصة مع تبنيها حرف تيفنياغ لكتابة الأمازيغية، إلا أن تأثيرها بقي محدودًا على السلطة الجزائرية والحركة الأمازيغية.
الربيع الأمازيغي
سنة 1980 سنة بعد تقلد الشاذلي بن جديد منصب رئاسة الجزائر، أخذ المطلب الأمازيغي بعدًا مميزًا وعلنيًا في شكل حركة احتجاجية واسعة ذات طبيعة ثقافية في القبائل هي الأولى من نوعها التي تشهدها البلاد بعد الاستقلال، واندلعت الاحتجاجات بعد منع السلطات الجزائرية تنظيم محاضرة عن الشعر الأمازيغي قديمًا كان مقررًا أن يُلقيها بجامعة تيزي وزو الكاتب الأمازيغي مولود معمري، في 10 من مارس/آذار 1980.
إحياء ذكرى الربيع الأمازيغي
في اليوم التالي، خرجت مظاهرات منددة بالمنع في تيزي وزو والجزائر العاصمة، كما شل إضراب عام منطقة القبائل، وجابت مسيرة تيزي وزو شوارع المدينة وتوقفت أمام مقر حزب جبهة التحرير الوطني ومبنى الولاية (المحافظة)، ورفع المحتجون شعارات من بينها “الثقافة الأمازيغية.. ثقافة شعبية” و”كفى من القمع الثقافي” و”محاضرة معمري لماذا مُنعت”.
وواجهت السلطات هذه الاحتجاجات أمنيًا واعتقلت العشرات، مما أدى إلى تأججها فأغلقت جميع المدارس التي تُدرس بالعربية في مدينة تيزي وزو، وأتلفت لوحات الإشارات والإعلانات المكتوبة بالعربية، وبلغت حصيلة الاحتجاجات أكثر من 120 قتيلاً وخمسة آلاف جريح.
إضراب المحفظة
سنة 1994، شهدت منطقة القبائل موجة من الاحتجاجات أهمها إضراب أطفال المدارس الذي أطلق عليه “مقاطعة المحفظة”، احتجاجًا على قانون تعميم استخدام اللغة العربية، في تلك السنة امتنع سكان منطقة “القبائل” عن إرسال أطفالهم إلى المدارس، كما لم يلتحق طلبة الثانويات بالدراسة، وكان هذا شكلاً جديدًا من أشكال الاحتجاج للمطالبة بالاعتراف بالهوية الأمازيغية.
خضعت السلطة في العام التالي وقبلت بتدريس اللغة الأمازيغية في المحافظات ذات الغالبية الأمازيغية
وتقع منطقة القبائل شرق الجزائر العاصمة في منطقة أغلب تضاريسها جبلية تنفتح على البحر الأبيض المتوسط، وتضم ست محافظات هي: تيزي وزو وبجاية وبومرداس والبويرة وسطيف وبرج بوعريريج، وكانت معقلاً لعدد من الثورات.
انتهت هذه الاحتجاجات بموجب اتفاق 22 من أبريل/نيسان 1995 بين السلطة وممثلي الجمعيات والهيئات الأمازيغية، وكان “إضراب المحفظة” بداية نجاح الحركة المطلبية الأمازيغية، فبعد أن انقضت السنة الدراسية دون دراسة، خضعت السلطة في العام التالي وقبلت بتدريس اللغة الأمازيغية في المحافظات ذات الغالبية الأمازيغية، خصوصًا في بجاية وتيزي وزو، كما أمر الرئيس اليمين زروال بإنشاء “المحافظة السامية للأمازيغية” التي ترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية في 27 من مايو/أيار 1995.
الربيع الأسود
18 من أبريل/نيسان 2001، كانت منطقة القبائل على موعد مع أحداث “الربيع الأسود”، حيث أشعلت وفاة طالب ثانوي في ذلك اليوم، في مقر الدرك الوطني فتيل الأزمة، وكان الطالب قد اعتقل في بلدة بني دوالة في محافظة تيزي وزو عندما كان يتظاهر إحياءً لذكرى الربيع الأمازيغي.
تلك الحادثة مثلت شرارة احتجاجات استمرت حتى أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة وما زالت تداعياتها إلى الآن، وخلفت هذه الاحتجاجات وقمع الأمن للمتظاهرين 123 قتيلاً ومئات الجرحى، ومن نتائجها أيضًا أن قرر حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية الحزب الثاني في منطقة القبائل ذي القاعدة الشعبية الأمازيغية الانسحاب من الحكومة في مايو/أيار 2001.
حراك متواصل لإقرار مطالبهم “المشروعة”
كما كان من نتائجها تشكيل تنظيم شعبي جديد عرف باسم “تنسيقية العروش” الذي يضم أبرز العائلات في منطقة القبائل وممثلين عن الفعاليات البربرية المختلفة خاصة منظمات المجتمع المدني، إذْ تولت قيادة حركة الاحتجاج ولتبلور لائحة مطالب عرفت بـ”أرضية القصر” التي أعلنتها في يونيو/حزيران 2001 في مدينة القصر بولاية بجاية، وهي عريضة من 15 مطلبًا، أهمها إخلاء الدرك لمنطقة القبائل ومعاقبة الدركيين المتسببين في الأحداث وتلبية المطلب الأمازيغي بكل أبعاده الهوياتية والحضارية واللغوية والثقافية دون استفتاء ودون شروط.
عقب تلك الأحداث قرر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في مارس/آذار 2002 ترسيم الأمازيغية لغة وطنية وليست رسمية كما تطالب القبائل، ورغم أن هذا القرار مثل نقلة نوعية في تعامل السلطة مع المطلب الأمازيغي، ويدخل في سياق تطور سياسي شامل، فإن ما يبدو مماطلة في تنفيذ وتنزيل الإجراءات والسياسات لفائدة الأمازيغ جعل مسألة الحقوق الدستورية والميدانية مطروحة بشكل مستمر.