في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، خرجت زيمبابوي إلى الحياة من جديد، بعد فترة حكمٍ طويلة للرئيس السابق روبرت موغابي دامت أكثر من 37 عامًا، وبذلك طُويت صفحة من صفحات الفساد والمحسوبية وحكم الفرد الواحد.
بعدها بأيامٍ قليلة تسلّم مقاليد الحكم في البلاد رفيق دربه إيمرسون منانغاغوا الذي دعا الزيمبابويين إلى الوحدة والتماسك والوقوف سدًا منيعًا في وجه تحديات الفساد والفقر والعوز، كما تعهّد بإنعاش اقتصاد بلاده وخلق فرص عمل جديدة للشباب.
من خليفة موغابي؟
ولد منانغاغوا الملقّب بـ”التمساح” في المنطقة الوسطى بزفيشافانغ في زيمبابوي عام 1942، درس الحقوق في جامعة زامبيا ثم في جامعة لندن، كما حضّر في مدرسة للإعداد الفكري ببكين وكانت تدار من الحزب الشيوعى الصيني وقضى السنوات الأولى من حياته السياسية قائدًا مقاتلًا في حرب التحرير إلى جانب روبرت موغابي في الثمانينيات وشغل في عهده عدة مناصب من بينها وزارات سيادية مثل الأمن والدفاع إلى جانب وزارتي المالية والعدل.
دخل إيمرسون منانغاغوا معترك السياسة عام 1962 من خلال انضمامه إلى اتحاد “الشعب الإفريقي” في زيمبابوي، شارك في الكفاح ضد نظام إيان سميث من أجل التحرير قبل أن يتم القبض عليه ويتعرض للتعذيب لدرجة أنه فقد السمع في أحد أذنيه، وبعد حرب الاستقلال شغل المناصب الوزارية التي أشرنا إليها، إلا أن الدور الأكثر تأثيرًا لعبه عندما تسلم أعباء مدير المخابرات المركزية في الثمانينيات.
ويُتهم منانغاغوا بأنه أدى دورًا في “التطهير” الدموي ضد المعارضة السياسية لموغابي، إذ قُتل في تلك المرحلة نحو 20 ألف شخص، معظمهم ينتمون إلى أقلية “إنديبيلي” الإثنية، وينتمي كل من موغابي و”التمساح” إلى إثنية “شونا” الأكثر انتشارًا في البلاد، وينفيان كليًا أنهما قاما بعملية تطهير عرقي.
ذكرت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية أن إيميرسون منانغانغوا وحلفاءه في الجيش بذلوا جهودًا كبيرة لاستمالة الصين كمستثمر وشريك عسكري
كما اتُهم منانغاغوا من جمعيات أهلية في بلاده بتنسيق حملة “تخويف” ضد المعارضة أدت إلى قتل 200 شخص من ضمنهم المنافس الرئيس لموغابي.
إبعاد ثم عودة
تفاقمت الصراعات داخل الحزب الحاكم بين مجموعتين من القياديّين، تقود إحداها غريس موغابي زوجة الرئيس السابق روبرت، بينما تضم المجموعة الثانية أنصار منانغاغوا، أدت تلك الخلافات إلى محاولة اغتيال الأخير في الصيف الماضي، وتم إثر ذلك إعلان إقالته من منصب نائب الرئيس ومن الحزب الحاكم بسبب “عدم الولاء” للرئيس.
اضطر منانغاغوا لمغادرة البلاد، حيث توجه إلى جمهورية جنوب إفريقيا، قبل أن يتحرك العسكريون من مؤيديه لتغيير الوضع السياسي في البلاد، فقد نجح منانغاغوا في بناء علاقات قوية مع المؤسسات الأمنية في البلاد يدعمه جنرالات خلف الأضواء، التقوا جميعًا في هدف واحد هو إيقاف غريس عند حدها فتمكنوا من إبعاد جميع من يمكن أن يعادي منانغاغوا من الحزب الحاكم والحياة السياسية، ليتمكن الأخير من أن يأتي رئيسًا للحزب متمتعًا بالثبات والقوة.
وذكرت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية أن إيميرسون منانغاغوا وحلفاءه في الجيش بذلوا جهودًا كبيرة لاستمالة الصين كمستثمر وشريك عسكري، وأضافت أن الجيش في زيمبابوي ربما حصل على الضوء الأخضر من الصين قبل أيام من استيلائه على سلطة الرئيس روبرت موغابي، وأشارت الصحيفة أن الزيارة التي قام بها قائد الجيش كونستانتينو تشيوينغا إلى بكين قبل الانقلاب بأسبوع تثير المخاوف من تنامي النفوذ الصيني في إفريقيا.
كيف أطيح بموغابي؟
أحاديث موغابي ووعوده بالمساواة والعدالة خالفت الوقائع على الأرض، فسُرعان ما تعمّق الشقاق بين المجموعتين العرقيتين الأكبر في البلاد، الشونا وإنديبيلي، ما أدى إلى ظهور خطابات عدائية بين قادة الحزبين ومصادمات على الأرض، يليها طرد موغابي لزعيم الإنديبيلي من الحكومة الائتلافية.
من أسباب الإطاحة بموغابي، التدهور الذي وصلت إليه عملة البلاد “الدولار الزيمبابوي”
أخذ موغابي خططًا تصعيدية أخرى، فقد أسس اللواء الخامس بدعمٍ من نظام كوريا الشمالية، وجعل الانضمام إليه حصرًا على أبناء الشونا، كما جعل تبعيته إليه بشكل مباشر، هذا إلى جانب المذابح العرقية التي ارتكبها نظامه وأدت إلى مصرع 20 ألف قتيل، في أحداث شكّلت البقعة الأكثر قتامة في تاريخ البلاد الحديث.
رفض موغابي الاتهامات في البداية، واتهم مروجيها بخيانة البلاد، لكنه عاد واعترف لاحقًا بالأحداث فقال: “كان ذلك ضربًا من الجنون، قتلنا بعضنا البعض ودمّرنا ممتلكات بعضنا البعض، كان الأمر خطأ وكلا الطرفين يتحمل مسؤولية ذلك”.
كما قام موغابي بتعديل الدستور عام 1987، ليصبح الرئيس التنفيذي، وهو منصبٌ يجمع بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة والقيادة العُليا للجيش، باختصار كل شيء تقريبًا، ترشّح موغابي وفاز ست مرات آخرها عام 2013، تخللتها محاولات فاشلة للمعارضة من أجل الإطاحة بموغابي عبر الانتخابات.
وفي عام 2008 اقترب منافسه اللدود مورغان تسفانغيراي من تحقيق الحلم والإطاحة بالديكتاتور المُعمّر، بعدما تفوق عليه في الجولة الأولى بفارق ضئيل من الأصوات، قبل أن يُضطر تسفانغيراي إلى الانسحاب من السباق بسبب حملة القمع والانتقام التي أطلقها موغابي ضد أنصار الأول، ليظل الأخير متربعًا على عرش السلطة، ويصير أطول الرؤساء حُكمًا في القارة السمراء، وربما العالم أجمع.
ومن أسباب الإطاحة بموغابي، التدهور الذي وصلته عملة البلاد “الدولار الزيمبابوي”، ففي 2009، قررت السلطات تعليق التعامل بالدولار المحلي واستبداله بالدولار الأمريكي أو الراند الجنوب إفريقي، بعدما وصل سعر الدولار الأمريكي إلى 500 مليار دولار زيمبابوي! نعم لا يوجد خطأ.. الأقام صحيحة 100%.
كذلك، لعبت زوجته غريس سببًا رئيسًا في نهاية مسيرته السياسية، وتدمير إرثه الطويل من الحكم باعتباره قائدًا مطلق السيطرة في البلاد، فقد كانت تسافر كثيرًا للتسوق في الخارج، تنفق ببذخ مستفز غير عابئة باقتصاد بلادها المنهار وتمتلك العديد من الشركات والمؤسسات، فتسبب طموحها اللامحدود وسعيها في سبيل ذلك للإطاحة بنائب الرئيس منانغاغوا، في إثارة قادة الجيش، مما جعل الدبابات تسيطر على العاصمة في غضون دقائق ويعلن القائد أنهم يستهدفون “مجرمين” محيطين بالرئيس، في إشارة واضحة إلى غريس والمقربين منها.
أصدر إيمرسون تعليمات للبنوك المحلية بتجميد الحسابات المصرفية لأموال اثنين من الوزراء الموالين للسيدة الأولى السابقة
خطوات إيجابية للرئيس الجديد
بعض الأحاديث تدور همسًا، عن مدى نجاح الرئيس الجديد الذي أحيط برجال تدور حولهم الأقاويل، لكن رغم ذلك يأمل شعب زيمبابوي في حكومةٍ نزيهةٍ تخرج بالبلاد من نفق الظلام الطويل إلى نور العدالة والمساواة وحرية الرأي والرأي الآخر، كما تختلف آراء المتابعين للشأن الإفريقي في مدى قدرة الحكومة الجديدة على مواجهة التحديات في هذه المرحلة.
في أول خطوة من الألف ميل، منح منانغاغوا مهلةً لبعض الشخصيات والشركات التي تدور حولها الشبهات مدتها ثلاثة أشهر لإعادة الأموال المختلسة والمنهوبة، وبهذه الخطوة يكون الرئيس الجديد قد وضع بيدق الملك أمام خصومه، وبدأ اللعب مبكرًا في رقعة الشطرنج، لكن جهوده لن تثمر إلا إذا اقترنت بعمل جماعي دؤوب.
هي تركة ثقيلة خلّفها نظام موغابي الذي اشتهر بقول المأثور من الحديث، عن “الرجال البيض والنساء الإفريقيات صاحبات الشعر القصير”، ففي يونيو الماضي وقبل خمسة شهور من عشاء السلطة الأخير، أمر الرئيس العجوز شرطة مكافحة الشغب في زيمبابوي باقتحام مزرعة كبيرة لمواطن زيمبابوي من أصحاب البشرة البيضاء، وتم طرده من مزرعته في “مقاطعة مانيكالاند”، وجاء هذا الإجراء الظالم بعد خطبةٍ عصماء للرئيس العجوز أمام شباب حزب “زانو”، دعا فيها البيض إلى التخلي عن المَزارع للشباب.
لكن منانغاغوا فور توليه السلطة، أصدر أمرًا بإعادة المزرعة إلى صاحبها، في محاولة لرتق ما تمزق من نسيج اجتماعي، ولتضميد الجراح النازفة ومنح الضمانات لجميع المواطنين للتفرغ للإنتاج والعمل وبذل الجهد والعرق للنهوض باقتصاد البلاد، للحاق بدول إفريقية كثيرة تتصدر السباق.
أسئلة كثيرة تتقافز هنا وهناك عن قدرة الرئيس الجديد في إنجاز المهام الجسام المتكومة من العهد البائد في بلدٍ يعتمد سكانه على حرفتي الزراعة والرعي
أما الخطوة الثالثة في الرحلة الطويلة، فقد أصدر إيمرسون، تعليمات للبنوك المحلية بتجميد الحسابات المصرفية لأموال اثنين من الوزراء الموالين للسيدة الأولى السابقة، وفي خبرٍ أوردته صحيفة “ذي هيرالد” الحكومية، قبل عدة أيام، أن أوبيرت مبوفو وزير الشؤون الداخلية أكّد الإجراءات التي اتخذت بشأن تجميد أموال سافيور كاساكوير وزير الحكم المحلي السابق وجوناثان مويو وزير التعليم العالي السابق.
هل سينجح منانغاغوا؟
الوعود تبقى وعودًا كوعود موغابي التي ذهبت أدراج الرياح، فهناك الآلاف من الشباب ينتظرون فرص عمل جديدة التزم منانغاغوا بتوفيرها لهم عندما أدى اليمين الدستورية لتولي مهامه كثاني رئيس لزيمبابوي منذ استقلالها، وفي اللقاء الحاشد في ملعب بإحدى ضواحي العاصمة هراري، تعهّد الرئيس الجديد بالدفاع عن الدستور وحماية كل الاستثمارات الأجنبية في زيمبابوي ومكافحة الفقر والقضاء على الفساد ودفع تعويضات للمزارعين البِيض الذين صُودرت ممتلكاتهم في السنوات الماضية.
أسئلة كثيرة تتقافز هنا وهناك عن قدرة الرئيس الجديد في إنجاز المهام الجسام المتكومة من العهد البائد في بلدٍ يعتمد سكانه على حرفتي الزراعة والرعي، خصوصًا أن الرجل سيكون مرشح حزب “زانو” الحاكم للانتخابات بعدما تم إقرار ذلك في اجتماع استثنائي عُقد الخميس الماضي، فهل سيلتزم إيمرسون منانغاغوا بتنفيذ وعوده؟ وهل سينجح في استثمار موارد البلاد وعلى رأسها المخزون الوفير من النحاس والنيكل والذهب والكروم؟