استطاعت تركيا أن تجد لنفسها مكانة خاصة وفريدة في عالم الصناعات اليدوية التي مارستها منذ عهد الدولة العثمانية وحتى اليوم، وعلى الرغم من أننا في عصر الآلة، فإن بعض هذه الحرف لا تزال تحتفظ بصيتها وجاذبيتها، معبرة عن مهارة أبناء هذا البلد الذي ينسج ويرسم ويطرز ويلون بأشكال مختلفة، فهي تجمع بين الجودة العالية والفن والأصالة التي تعرض عراقة التاريخ وجمال الذوق العثماني الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي.
تميزت المشغولات اليدوية بجميع أنواعها بالنقوش المتقنة والأحرف العثمانية والدلالات التي تعبر عن حدث خاص بكل مدينة تركية، والدليل على هذا الإبداع بهذا المجال تعيين ولاية كوتاهيا الغربية باسم مدينة الحرف والفنون الشعبية من منظمة اليونيسكو، ومن أهم المشغولات اليدوية التي تشتهر بها تركيا:
نسج السجاد
أسس أول مصنع للسجاد عام 1843 في مدينة هركة التي تقع بين إسطنبول والمناطق الغنية بأدوات صناعات السجاد، لتغطية متطلبات القصور العثمانية والأجنبية خاصة القصور والكنائس الإيطالية، ومن أجل أداء هذه المهمة جمع العثمانيون أمهر العاملين والحرفيين من فرنسا ومدن تركية مثل سيفاس ولاديك ومانيسا للعمل في هذا المصنع، وبعد مرور عدة سنوات وتحت حماية السلطان عبد الحميد الثاني استطاع المصنع تطوير منتجاته ونماذج الرسوم حتى وجدوا أسلوب نسج خاص بهركة.
ونتيجة للاهتمام الكبير بهذه الصناعة، أغلب نساء هذه المدينة يتقن النسج على القواعد المدروسة التي تجعل سجاد هركة التركية مختلف عن باقي أنواع السجاد في العالم.
يذكر أنه في القرن الحادي عشر، أي قبل ظهور الدولة العثمانية، اشتهرت القبائل البدوية التي سكنت آسيا الوسطى بهذه الحرفة ومن ثم انتقلت إلى الأناضول مع انتقال هذه القبائل للعيش هناك، أي أن تاريخها يمتد لـ3 آلاف سنة.
يعتبر أصحاب هذه المهنة أن نسج السجاد فرصة للحفاظ على التراث الذي تناقلوه عن أجدادهم، ولا شك أنه مصدر للرزق والربح التجاري
على الرغم من أن صناعة سجادة واحدة قد يستغرق عامًا كاملًا أو أكثر، لكن يعتبر أصحاب هذه المهنة أن نسج السجاد فرصة للحفاظ على التراث الذي تناقلوه عن أجدادهم، ولا شك أنه مصدر للرزق والربح التجاري.
وأبرز ما يميز السجاد التركي طغيان اللون الأحمر القاني أو الأزرق الداكن بشكل كامل على السجادة أو بأجزاء كبيرة أو رسومات النباتية مثل الأزهار أو نقش الأحرف العثمانية أو رسم الأشكال الهندسية، كما أنه كان يصنع قديمًا من الصوف الخاص أو القطن، ومن جديد بدأت تدخل في صناعته مواد جديدة كالحرير.
وهناك أربعة أنماط من النقش المرسوم على السجاد التركي وهي: هالي وكيليم وجيجم وصوماك، ولكل نوع استخدام محدد، فمنها ما يستخدم للجدران أو الأرضيات، وبالنسبة إلى أسعار السجاد فتختلف باختلاف أنواع خيوط الحرير والأصباغ الطبيعية المستخدمة والوقت الذي استغرقه صناعة السجادة، إضافة إلى مدى رقة القطعة، فكلما كانت أرق زاد سعرها.
تعتبر تركيا قاعدة تجارية مهمة في قطاع المفروشات فهي أكبر مصدر للسجاد في العالم، وتنتج نحو 40% من السجاد في العالم، وبشكل محدد تنتج ولاية غازي عنتاب ما يقارب 70% من مجموع الصادرات، وتحتل دول منطقة الشرق الأوسط المرتبة الأولى في قائمة الزبائن ومنها السعودية والعراق ومصر والإمارات، وهذا ضمن 171 دولة في العالم تستورد هذا المنتج من تركيا، بحسب وكالة الأناضول.
صناعة الخزف الملون
اشتهرت مدينة إزنيق بهذه الحرفة حتى سميت بعاصمة الخزف التركي، فكانت مركزًا رئيسيًا للصناعات الخزفية العثمانية ومقرًا للمصانع في ذاك الحين، تعتبر هذه المدينة أول من شهد على تحولات وتطورات فن النقش على البلاط والجدران والقطع والأوعية الزجاجية، وهذا بعد أن تأثر العثمانيون بهذا الفن من السلاجقة، مع العلم، أن هناك مدنًا أخرى اشتهرت بهذه الحرفة مثل كوتاهيا وأفانوس.
وكمحاولة للحفاظ على هذا التراث الثقافي، تنتشر المراكز والمدارس التي تعلم أساسيات النقش والتلوين، وأشهرها مدرسة سليمان باشا التي يعرض فيها الأعمال الخزفية مختلفة الأشكال والألوان.
اعتمد صناع هذه الحرفة على اللون الأزرق والأبيض بشكل أساسي، ويرمزان إلى الحرية الأبدية والنقاء، وأصبحوا يستخدمون جميع الألوان وخاصة الأخضر والأحمر الوردي الذي يرمز إلى النشاط والأرجواني كدليل على النبل والكرامة.
يمكن ملاحظة كثرة رسوم الأزهار على الخزف مثل زهور التوليب التي ترمز إلى الله وهي عادة ما تستخدم لتزيين جدران المنازل وقصور السلاطين والمساجد، أما أزهار القرنفل فهي ترمز إلى الدراويش
يقال إن هذه الحرفة نقلت من الصين إلى تركيا في الفترة العثمانية وجلبها التجار من خلال طريق الحرير التاريخي ومن ثم أدرج الأتراك عناصر ثقافتهم الخاصة في هذه الصناعة، ومن السهل ملاحظة الكتابات العثمانية على معظم منتجاتها الخزفية التي تعكس الطابع الإسلامي.
ويمكن ملاحظة كثرة رسوم الأزهار على الخزف مثل زهور التوليب التي ترمز إلى الله وهي عادة تستخدم لتزيين جدران المنازل وقصور السلاطين والمساجد، أما أزهار القرنفل فهي ترمز إلى الدراويش، هذا واعتمدوا على استخدام الأصباغ النباتية لأنها تقاوم عوامل المناخ وتحافظ على شكلها لسنوات طويلة، دون أن تفقد جمالها كما يحدث عند استخدام الأصباغ البلاستيكية.
بعد أن كانت مدينة إزنيق مركزًا لهذه الحرفة لآلاف السنين، بحلول القرن السابع عشر أصبحت كوتاهيا أحد مراكز الخزفيات الرئيسية التي تضم نحو 90 مشغلاً التي تحدث عنها الرحالة العثماني إيفليا شلبي ووصفها بأنها “ليست خاصة بأي أرض” أي أنها فريدة في جمالها.
ولسوء الحظ، بدأت هذه المهنة بالتراجع بسبب عدم وجود دعم حكومي كافٍ، إضافة إلى قلة اهتمام الأجيال الحاليّة بها، ومع ذلك تبقى ربات البيوت والنساء إجمالًا أكثر الأشخاص اهتمامًا بهذه الصناعة.
النقش على النحاس
تعتبر هذه الحرفة من أقدم الصناعات في التاريخ، وتعود إلى العصر النحاسي، أي قبل قرابة 5500 عام قبل الميلاد، وكانت مقتصرة على الرجال فقط، لكن في السنوات الأخيرة أقيمت دورات تدريبية للنساء ليتعلمن هذه المهنة، بهدف إعادة إحيائها من جديد وإضافة دخل مادي للعائلات.
عرف الأتراك هذه المهنة منذ زمن الدولة العثمانية ومؤخرًا أصبحت مهددة بالزوال والاندثار في السنوات الأخيرة بسبب قلة الإقبال عليها وارتفاع أسعار المواد الأولية ووفرة المنتجات البديلة وعدم اهتمام الأجيال الناشئة بها، وتعتبر إرث ثقافي يعبر عن تاريخ الدولة وهويتها الإسلامية بسبب النقوش المرسومة داخلها.
تشتهر مدينة غازي عنتاب بهذه الصناعة التي استخدمت النحاسيات في صناعة النقود المعدنية وأواني الطعام وأدوات الزينة، ودمجه في اللوحات والقطع الفنية، وهي ضرورة من ضروريات المنزل التركي
تشتهر مدينة غازي عنتاب بهذه الصناعة التي استخدمت النحاسيات في صناعة النقود المعدنية وأواني الطعام وأدوات الزينة، ودمجه في اللوحات والقطع الفنية، وهي ضرورة من ضروريات المنزل التركي، يذكر أن العثمانيين استمدوها من مدن حوض البحر المتوسط مثل حلب ودمشق والقدس، واعتادوا على النقش على مستلزمات المطبخ حتى تستخدم في الأفراح والعزائم.
توجد سوق باسم “النحاسين” تحتوي على جميع أنواع وأشكال القطع النحاسية التي تجذب أعدادًا كبيرة من السياح الأجانب، هذا بالإضافة إلى السوق الموجودة في مدينة دياربكر التي يبلغ عمرها أكثر من 100 سنة، لكن انقطاع تدفق الناس على هذه المشغولات اليدوية أثر بشكل كبير على حيوية هذه السوق ومستقبل هذه الحرفة التي تنعدم تدريجيًا.