تعنت إسرائيلي تجاه اجتياح رفح والمجهول مصير النازحين

استفاقت السيدة الفلسطينية آلاء فؤاد صبيحة 6 مايو/ أيار 2024 على صرخات أبنائها، وهم يقولون إن هناك منشورات جديدة ألقتها طائرات الاحتلال الإسرائيلي، تدعو إلى إخلاء المناطق الشرقية لمدينة رفح.

أعادت هذه المنشورات إلى أذهان السيدة الفلسطينية ما حصل معها حين كانت نازحة في مدينة خان يونس قبيل العملية العسكرية على المدينة مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2023، عندما بدأ الاحتلال بتنفيذ عمليات إخلاء للمناطق الشرقية.

اضطرت السيدة الفلسطينية للنزوح 5 مرات خلال الحرب الإسرائيلية على غزة المستمرة للشهر الثامن على التوالي، لتضطر أخيرًا إلى النزوح من جديد من رفح نحو المصير المجهول، في ظل تضرر مختلف مناطق القطاع.

نزوح إلى المجهول

تعد السيدة الفلسطينية واحدة من بين قرابة 200 ألف نسمة أصدر الاحتلال أوامر لهم بالإخلاء من مناطق سكنهم المتواجدة شرقي مدينة رفح جنوبي القطاع، فيما يعد جزء كبير منهم من النازحين من مختلف مناطق القطاع.

وبحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”، فإنه ومع استمرار تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، سيسبّب الحصار العسكري والتوغُّل البري في رفح مخاطر كارثية على 600 ألف طفل يحتمون فيها الآن.

وبعد صدور أوامر الإخلاء إلى الجنوب في أكتوبر/ تشرين الأول، تشير التقديرات إلى أن هناك الآن نحو 1.2 مليون شخص يحتمون في رفح، التي كانت في السابق موطنًا لحوالي 250 ألف شخص، ونتيجة لذلك إن كثافة السكان في رفح (20 ألف شخص لكل كيلومتر مربع) هي ضعف الكثافة السكانية في مدينة نيويورك (11 ألفًا و300 شخص لكل كيلومتر مربع)، ونحو النصف هم من الأطفال، وقد نزح العديد منهم عدة مرات مسبقًا ويعيشون في الخيام أو مساكن عشوائية أو غير مستقرة.

في الوقت نفسه، تشير التقديرات إلى أن مئات آلاف الأطفال في رفح يعانون من إعاقات أو حالات طبية صعبة، أو غير ذلك من مواطن الضعف التي تعرّضهم للخطر الأكبر من العمليات العسكرية التي تلوح في أفق المدينة.

وتشير التقديرات إلى أن حوالي 65 ألف طفل يعانون من إعاقة موجودة مسبقًا، بما في ذلك صعوبات الرؤية والسمع والمشي والفهم والتعلم، ونحو 78 ألف طفل هم رضّع دون العامَين، ويعاني ما يقرب من 8 آلاف من الرضّع دون العامَين من سوء التغذية الحاد، ويعاني نحو 175 ألف طفل دون سن الخامسة -تسعة أعشارهم- من مرض معدٍ واحد على الأقل، وكل الأطفال في حاجة قائمة بالفعل إلى خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي الاجتماعي.

تقول السيدة النازحة آلاء فؤاد إن تجربة النزوح وتكراره من مكان إلى آخر باتا مؤذيَين على الصعيد النفسي والاجتماعي والصحي، إذ إنه لا توجد أية مناطق فيها بنية تحتية وصحية يمكن النزوح إليها.

وتضيف فؤاد لـ”نون بوست” أن اجتياح المناطق الشرقية لرفح دفعها نحو النزوح مع عائلتها إلى وسط القطاع، والذي يعد هو الآخر منطقة غير آمنة يقوم الاحتلال باستهدافها بالقصف الجوي والمدفعي.

أما حال الفلسطيني إبراهيم قشطة، أحد سكان الأحياء التي طلب الاحتلال نزوحها، لم يكن أفضل حالًا، نظرًا إلى وجود عشرات النازحين في منزله، إلى جانب أفراد عائلته البالغ عددهم 14 فردًا من الأخوة والأخوات وزوجته وأطفاله.

ويقول قشطة لـ”نون بوست” إن تجربة النزوح مريرة وصعبة للغاية، لا سيما أنها تأتي نتاج حالة الحرب التي يقوم بها الاحتلال على غزة، علاوة على الحرب النفسية التي يمرّ بها الفلسطينيون منذ اليوم الأول للحرب.

وتلقّى الفلسطيني قشطة اتصالات هاتفية من أحد ضباط الاحتلال، يطالبه بإخلاء منزله والنزوح إلى المناطق التي يصفها بالآمنة، من شاطئ دير البلح وسط القطاع وحتى منطقة مواصي (خان يونس) جنوبي القطاع.

جغرافيا رفح

تقع مدينة رفح جنوب قطاع غزة على الشريط الحدودي الفاصل بينه وبين شبه جزيرة سيناء المصرية، وتعد أكبر مدن القطاع على الحدود المصرية، حيث تبلغ مساحتها 55 كيلومترًا مربعًا، وتبعد عن القدس حوالي 107 كيلومترات إلى الجنوب الغربي.

ويقع المعبر الحدودي الوحيد بين القطاع ومصر في مدينة رفح، والذي يعوَّل عليه بشكل رئيسي طوال عقود في إدخال المساعدات للقطاع وإخراج المصابين لتلقي العلاج والسفر، حيث اكتسبت المدينة شهرتها العالمية لهذا السبب، حتى أن شهرة المعبر فاقت شهرة المدينة نفسها بسبب تداول اسمه في الأخبار باستمرار.

قُسمت رفح إلى شطرَين بالأسلاك الحدودية الشائكة بعد اتفاقية كامب ديفيد، حيث استعادت مصر سيناء، وإثر هذه الاتفاقية انفصلت رفح سيناء عن رفح غزة

تعد مدينة رفح أيضًا من المدن التاريخية القديمة، فقد تمّ تأسيسها قبل 5 آلاف عام، وغزاها الفراعنة والآشوريون والإغريق والرومان، وعُرفت المدينة بعدة أسماء، فسمّاها الفراعنة روبيهوي، وأطلق عليها الآشوريون رفيحو، وأطلق عليها الرومان واليونان اسم رافيا، حتى سمّاها العرب رفح.

وخضعت رفح عام 1917 للحكم البريطاني الذي فرض الانتداب على فلسطين، وفي عام 1948 دخل الجيش المصري رفح وتحولت السيطرة عليها إلى مصر، حتى وقعت تحت سيطرة الاحتلال عام 1956، ثم عادت للإدارة المصرية عام 1957 حتى عام 1967 حين أعاد احتلاها الاحتلال.

وقُسمت رفح إلى شطرَين بالأسلاك الحدودية الشائكة بعد اتفاقية كامب ديفيد، حيث استعادت مصر سيناء، وإثر هذه الاتفاقية انفصلت رفح سيناء عن رفح غزة، وبلغت مساحة الشطر الواقع في غزة 3 أضعاف مساحة الشطر المصري تقريبًا.

أزمة إنسانية

يحذّر مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل الثوابتة، من التداعيات الإنسانية المترتبة على العملية العسكرية في مدينة رفح جنوبي القطاع، في ظل تكدّس المدينة بالنازحين وإغلاق المعابر.

ويقول الثوابتة لـ”نون بوست” إن الضغط على المدنيين وعلى الأطفال والنساء وعلى الأحياء المدنية بالتهجير، يأتي في إطار استكمال عدوان الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني المتواصل للشهر الثامن على التوالي.

ويرى أن “من أهداف الحرب تهجير الشعب الفلسطيني، وهو ما عبّر عنه مسؤولون إسرائيليون، فيما قال جزء منهم إنهم يريدون أن يقوموا بإلقاء قنبلة نووية على كل أهالي قطاع غزة، وجزء آخر منهم قال إنهم يشجّعون الهجرة من قطاع غزة، وهذا أعلنوه بكل وضوح، وبالتالي هذا يأتي في إطار خطة الاحتلال الإسرائيلي”.

ويتابع: “جريمة الاحتلال الإسرائيلي الجديدة بتهجير المدنيين والأطفال والنساء وإخلاء الأحياء المدنية، تمهيدًا للاعتداء عليها وقصفها وتشويهها، يعني الاعتداء على منازل المواطنين وقصفها وتخريب الشوارع، وقصف شبكات المياه وشبكات الصرف الصحي والكهرباء وغير ذلك، لذلك نحن ندين هذه الجريمة بأشد العبارات، ونحذّر أيضًا من ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي لمجزرة جديدة، سواء ضد المدنيين والأطفال والنساء، أو من خلال الاعتداء على الأحياء والمساجد والمؤسسات وشبكات المياه والبنية التحتية، وهدم الممتلكات والمنازل”.

ماذا وراء اجتياح رفح؟

يرى الكاتب والباحث في الشأن السياسي، أحمد الطناني، أن نتنياهو اختار اللجوء إلى بدء عملية عسكرية في رفح في إطار الهرب إلى الأمام، بعد أن فشل في تفجير المفاوضات عبر التصريحات والتسريبات والتصعيد الإعلامي.

ويضيف الطناني لـ”نون بوست” أن تصريحات نتنياهو في البداية لم تنجح في دفع المقاومة إلى الانسحاب من المفاوضات، وتحميلها مسؤولية فشل الجولة الحالية للتنصل من الضغوط المتعددة الواقعة عليه، سواء من الولايات المتحدة أو الضغط الداخلي الذي وضعه بين فكَّي كماشة، وخيارات إما انهيار مجلس الحرب وإما الائتلاف الحكومي.

ويعتقد أن المرحلة الحالية من العدوان على رفح بمثابة بالون اختبار من الاحتلال له عدة أهداف: الأول اختبار ردة فعل الرأي العام العالمي والإقليمي على التحركات في رفح، وجدية التحذيرات الموجّهة إلى “إسرائيل” من مثل هذه الخطوة؛ والثاني تقديم نموذج عملي على قدرة جيش الاحتلال على إجلاء النازحين والسكان في رفح، وذلك باختيار المناطق الشرقية للإخلاء، والتي لا تُعدّ مناطق ذات اكتظاظ سكاني كبير مقارنةً بمناطق وسط وغربي رفح.

نجحت المقاومة في الحفاظ على تقدُّمها التفاوضي، واستطاعت تجنيد المعادلة الإقليمية والدولية لصالحها لدفع الاحتلال إلى إيقاف حرب الإبادة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني

ويشدد أن نتنياهو يبحث عن كل السبل لإطالة أمد الحرب، بما يسمح له بالبحث عن نصرِه الوهمي على أنقاض غزة، والسعي المستمر إلى إعادة هندسة أفق لمستقبله السياسي الذي قضت عليه غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وفي الوقت ذاته قدّم لشركائه في الائتلاف الحكومي ما يكفي لإرضائهم وضمان توقّفهم عن ابتزازه بتفكيك الائتلاف، على الأقل في المدى المنظور.

ويرى أن إعلان المقاومة موافقتها على عرض الوسطاء حمل منها مناورة سياسية جريئة ومفاجئة، بالإعلان المباغت عن الموافقة على المقترح المصري للتهدئة، دون توضيحات حول ما سبق وما أبدته كملاحظات على المقترح، أو مصير التوضيحات التي طلبتها، فيما بات واضحًا أن المقاومة قد قررت الاعتماد على التعهُّدات التي قدمها الوسطاء والولايات المتحدة بشأن التوضيحات التي طلبتها، خاصة كون هذا الاتفاق يمثل أرضية ثابتة لوقف شامل لإطلاق النار وإنهاء لحرب الإبادة بحقّ قطاع غزة.

ويلفت الطناني إلى أن المقاومة وضعت حكومة الاحتلال، وبشكل خاص رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، في الزاوية، عبر هذا الإعلان الذي تلا إعلان الاحتلال بدء عملية عسكرية في رفح، والعمل على إخلاء شرقي المدينة من سكانها والنازحين فيها، وسط رفض دولي وتحذيرات متعددة من مغبّة الإقدام على مثل هذه العملية، ورفض أمريكي لها بالصيغة الحالية.

في المحصلة، إن الخيارات كلها صعبة بالنسبة إلى نتنياهو، فقد سبق وأعطى موافقة على المبادرة الجديدة ارتباطًا بتقديرات محسومة بأن المقاومة لن تقبلها، فيما يشكّل القبول بها الآن معضلة، فإما أن يمضي في مسار التهدئة ويخاطر بانهيار ائتلافه الحكومي، وإما أن يرفض المضيّ فيه ويخاطر برضى الشارع الإسرائيلي والدعم الدولي.

نجحت المقاومة في الحفاظ على تقدُّمها التفاوضي، واستطاعت تجنيد المعادلة الإقليمية والدولية لصالحها لدفع الاحتلال إلى إيقاف حرب الإبادة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، فيما سيجيّش التعنت الإسرائيلي العالم ضدها، وسيتحول المضيّ في عملية رفح إلى عنوان للاشتباك السياسي الواسع ما بين “إسرائيل” والمنظومة الدولية، بما يشمل الدول التي أمّنت التفويض الدولي اللازم لشنّ الاحتلال حربه بلا هوادة خلال الأشهر السبعة الماضية.

وسيسابق جيش الاحتلال الزمن من أجل تحصيل إنجازات ميدانية، أو محاولة الوصول إلى هدف ثمين يقلب المشهد التفاوضي ويسمح لحكومة الاحتلال بالتهرُّب من الضغط الحالي، ما يتطلب حذرًا شديدًا من جانب المقاومة، والتجهُّز للتعامل مع كل السيناريوهات.