أيام قليلة على حلول موعد المباراة الأكثر مشاهدة على الإطلاق، فبجانب الحمولة الفنية والتكتيكية وحجم الأسماء التي تشارك فيه، تظل الأبعاد التاريخية والسياسية حاضرة لمنح المباراة طابع إضافي من الندية والإثارة، ولعل المتابع العربي يتحمس فقط لرؤية كبار لعبة كرة القدم ندًا لند على مستطيل أخضر واحد، لكن هناك في إسبانيا، يرون المباراة تجمع ممثلي هويتين متصارعتين، يشجعون الأول دون الثاني من منطلق الإيديولوجية، يرون في “الكلاسيكو” صراع بقاء وحربًا تاريخية لإثبات الأقوى.
في إسبانيا، لا يجيدون التمييز بين السياسة والرياضة، كل فريق يلعب بالدوري الإسباني هو بشكل تلقائي يمثل المنطقة التي أتى منها، من الأندلس تأتي نوادٍ كإشبيلية وبيتيس وغرناطة، ومن إقليم فالنسيا نرى نوادي كفالنسيا وفياريال وليفانتي، ومن منطقة غاليسيا يحضر نادي ديبورتيفو لاكورونيا وسيلتا فيغو.
أما نادي أتلتيك بيلباو فقد بلغ من تعصبه لإقليمه الباسك أن جعل قميصه الأحمر والأبيض محرَمًا على غير المنتمين لهذه المنطقة، فصار الفريق على مدار التاريخ مخصصًا فقط للباسكيين، وبشكل غريب ينجح الفريق في التألق وصف اسمه مع أعظم فرق البلد، باعتباره واحدًا من ثلاثة فرق لم تجرب طعم الهبوط للقسم الثاني من بطولة الليغا الإسبانية.
الصراع السياسي القائم بين الطرفين يرجع لرغبة إقليم كتالونيا في الانفصال عن إسبانيا وتأسيس بلده المستقل
ومن بين كل هذه العرقية التي تسود فرق إسبانيا، يلوح الصراع الأبرز والتحدي الأكبر، إقليم كتالونيا في مواجهة حكومة إسبانيا، والعالم بتاريخ البلد القابع في شبه الجزيرة الإيبيرية، سيدرك حمولة هذه المواجهة ومدى تأثيرها على الوضع السياسي هناك.
أما بلغة كرة القدم، فإن الحديث يجرنا لموقعة الكلاسيكو، بين نادي برشلونة الممثل لمقاطعة كتالونيا، ونادي ريال مدريد الابن المدلل للعاصمة الإسبانية مدريد.
سياسيًا، فالصراع القائم بين الطرفين يرجع لرغبة إقليم كتالونيا في الانفصال عن إسبانيا وتأسيس بلده المستقل، الأمر الذي قوبل بالرفض من طرف الحكومة الإسبانية التي تعتبر كتالونيا منطقة إسبانية بحتة من المنظور التاريخي والسياسي.
الأمور صارت نحو منحى توتر أكبر في الآونة الأخيرة بعد المحاولات الجادة من البرلمان الكتالوني لتنظيم استفتاء بشأن تحديد المصير، فكان اليوم المشهود 1 من أكتوبر 2017 الذي تدخلت فيه القوات الإسبانية في قلب مدينة برشلونة لمنع المواطنين الكتلان من التصويت بمكاتب الاقتراع، أسفرت عن جرح العديد من الأشخاص واعتقال آخرين، كان من بينهم سياسيون كتلان وبرلمانيون.
الأمر طال الساحة الرياضية أيضًا، حيث كان نادي برشلونة على موعد في ذات اليوم مع مباراة في الدوري الإسباني على ملعبه (الكامب نو) أمام فريق لاس بالماس، ووسط كل ذلك التوتر والمشاهد الدامية، تم لعب المباراة دون جمهور خوفًا من عدم السيطرة على الجمهور الكتالوني الذي سيحضر اللقاء، ووقوع الكارثة.
الجنرال فرانكو.. إسبانيا أولًا
الجنرال فرانكو مقدمًا الكأس الأوروبية لنادي ريال مدريد خلال نهائي 1957
لا حديث عن تاريخ الكلاسيكو سياسيًا دون الخوض في حقبة فرانكو، الجنرال الإسباني الذي أحكم قبضته بالقوة على إسبانيا خلال منتصف القرن الماضي، فكما آمن هتلر خلال الحرب العالمية الثانية بضرورة استخدام الإعلام والسينما كجزء من البروباغندا الخاصة به، أدرك فرانكو عشق الشعب الإسباني لكرة القدم، فما كان منه إلا أن أدرج اللعبة ضمن مخططه السياسي، وسعى لتمجيد ناديه المفضل ريال مدريد على حساب بقية الفرق، وبالخصوص المنافس الأشرس برشلونة القادم من الإقليم الذي كان رمز المقاومة الأول ضد ديكتاتورية فرانكو.
لم يكن البارسا الضحية الوحيدة للجنرال الإسباني، فقد عانت منه شتى الفرق الويلات، كما الحال لنادي أتلتيك بيلباو الذي اضطر لتغيير اسمه سنة 1941 إلى “أتلتيكو كلوب فرانكو”، فقد منع الجنرال إقحام أي كلمة غير إسبانية، إضافة لإجباره النادي الباسكي على إشراك لاعبين إسبان خارج إقليم الباسك، عكس السياسة الشهيرة للفريق الأبيض والأحمر.
استطاع البارسا أن يحسم صفقة دي ستيفانو أولًا لصالحه وانتقل دي ستيفانو للبارسا، لكن بعد أيام قليلة فقط من إعلان الصفقة، حكم الاتحاد الإسباني (بإيعاز من الجنرال فرانكو) ببطلان العقد ومنح الأسبقية لريال مدريد
لقد أبقى فرانكو على مفهوم القومية الإسبانية حتى في كرة القدم، إذ اعتبر ريال مدريد بوابة إسبانيا من أجل المجد الأوروبي، فما كان منه إلا أن استقطب نجوم الكرة العالمية للفريق الأبيض، وعلى رأسهم المهاجم الأرجنتيني ألفريدو دي ستيفانو.
قصة دي ستيفانو وانضمامه لريال مدريد في حد ذاتها مثيرة للجدل، فحقوق ملكية اللاعب كانت مقسمة بين ناديي ريفر بلايت الأرجنتيني وميليونيورس الكولومبي، ومع أدائه الذي لفت انتباه كبار فرق أوروبا، سعى قطبا إسبانيا برشلونة وريال مدريد للحصول على خدمات الموهبة الأرجنتينية، لكن بقي التساؤل عن الجهة التي يلزم التفاوض معها، ريفر بلايت أو ميليونيورس، فما كان من البارسا إلا أن فتح المحادثات مع النادي الأرجنتيني، في حين فضل ريال مدريد التفاوض مع الفريق الكولومبي.
ومع مرور الأيام وتسارع الأحداث، استطاع البارسا أن يحسم الصفقة أولًا لصالحه وانتقل دي ستيفانو للبارسا، لكن بعد أيام قليلة فقط من إعلان الصفقة، حكم الاتحاد الإسباني (بإيعاز من الجنرال فرانكو) ببطلان العقد ومنح الأسبقية لريال مدريد معتبرًا ملكية اللاعب كانت لفريق ميليونيورس الذي تفاوض مع النادي الملكي، فانتقل دي ستيفانو لريال مدريد، وعاش لحظات مجد وافرة قاد من خلالها الفريق للفوز بخمس كؤوس أوروبية، غير بطولات الدوري الإسباني التي حازها.
11-1 لصالح ريال مدريد
الصورة المؤرخة لأكبر نتيجة حصلت في تاريخ الكلاسيكو 11-1 لصالح ريال مدريد
موسم 1942-1943، وفي عز قوة الجنرال فرانكو، كان اللقاء المرتقب ضمن نصف نهائي “كأس الجنرال” (كأس ملك إسبانيا حاليًا) بين برشلونة وريال مدريد، في مباراة الذهاب استطاع النادي الكتالوني على ملعبه أن يفوز بنتيجة 3-0.
إلا أن لقاء الإياب سبقته إشارات لم ترق لاعبي البارسا ولا طاقمه الفني، لقد تجرأ الكل على استفزاز اللاعبين طيلة رحلتهم نحو مدريد، بمن فيهم عمال صيانة الملعب الذي سيجرى فيه اللقاء حينما أخبروهم أن ريال مدريد سينتصر عليهم بنتيجة ساحقة.
يتحدث جوسيب فالي أحد لاعبي البارسا في ذلك اللقاء قائلًا: “حينما بدأنا المباراة، لم نتمكن من عبور منتصف الملعب، ففي كل مرة نفعل ذلك كان الحكم الثاني يرفع رايته بشكل غريب”.
مع عودة النظام الملكي لإسبانيا تنفس البلد الصعداء من جديد وعادت الحياة لكرة القدم
مضيفًا “ثم تمكن لاعبنا سوسبيدرا من إحراز هدف للبارسا لم يحتسبه الحكم رغم شرعيته، كنا نملك لاعبي دفاع أحدهما تورتا غادر المباراة بسبب الإصابة، وآخر اسمه بينيتو طرد من اللقاء، في غرفة الملابس بين الشوطين، قررنا ألا نواصل المباراة بسبب هذا الحكم المنحاز، فجأة، دخل رئيس شرطة مدريد وسألنا: ألن تلعبوا؟ أجبناه بالرفض، فقام بتهديدنا باحتجازنا إن نحن لم نكمل المباراة”.
ويتحدث التاريخ أن رئيس الشرطة كذلك قال للاعبي البارسا بين الشوطين: “لاتنسوا أن بعضكم يلعب هنا فقط تكرمًا من النظام والزعيم فرانكو الذي سامحكم رغم انعدام وطنيتكم”.
الشوط الثاني شهد فريقًا آخر غير المعروف، وانهزم الفريق الكتالوني بنتيجة 11-1 هي الأكبر في تاريخ مواجهة الفريقين، لكنها خلقت أيضًا نقاشًا لم يحسم حدً الساعة بين أحقية ريال مدريد في هذه النتيجة من عدمها.
حزازات الأبعاد السياسية للكلاسيكو تظل دومًا حاضرة حتى داخل الملعب بين اللاعبين
السنين مرت، فرانكو ولى والبارسا استعاد جزءًا كبيرًا من هويته الكتالونية، فمع عودة النظام الملكي لإسبانيا تنفس البلد الصعداء من جديد وعادت الحياة لكرة القدم خاصة، لكن الكلاسيكو ظل ضمن تقاليد البلد وعاداته، مرتان في السنة، البارسا يزور مدريد، وريال مدريد يزور برشلونة، ومع وجبة كروية دسمة سيحضرها ملايين المتابعين عبر بقاع العالم، لن ينس الإسبان أصل الخصام وسبب النزاع الممتد بين مدريد وكتالونيا.