بعد غزوة أُحد واستشهاد حمزة رضى الله عنه، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع نسوة من الأنصار يبكين شهداءهن فقال وعيناه تذرفان الدمع: “لكن حمزة لا بواكي له”، ونحن في هذه الأيام نقول وعيوننا تذرف الدمع أيضًا: “وأمَّا القدس فما لها إلا البواكي”.
الكل يبكي القدس والكل ينتقد قرار الرئيس ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” وقراره بنقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وهنالك أيضًا من يتفنن بانتقاد الرئيس ترامب، فمن أطرف ما سمعت هو أحد الشعارات في إحدى المظاهرات “ترامب يا خائن يا جبان، يا عميل الأمريكان”.
طبعا إننا نجد بين المنتقدين للرئيس ترامب والمنددين بقراره الزعماء العرب والمسلمين، بمن فيهم الزعماء الذين يتسابقون لكسب ود ترامب والتحالف معه ضد غيرهم من الزعماء العرب والمسلمين، وكثير من العرب والمسلمين ينددون بالزعماء العرب والمسلمين الذين بسبب تخاذلهم وتصارعهم فيما بينهم وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وبسببهم ضاعت القدس وضاعت فلسطين.
إن التنديد بالرئيس ترامب أمر سهل وأسهل منه انتقاد الزعماء العرب وهجائهم، فنحن اعتدنا على هجائهم وهم اعتادوا على هذا الهجاء لدرجة أنه صار أمرًا طبيعيًا لا يقدم ولا يؤخر شيئًا، فكما قال الشاعر: فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ.. تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ.
الزعماء العرب منقسمون على أنفسهم ويتصارعون مع بعضهم البعض، وكثير منهم يحتاج لمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في حروبهم مع جيرانهم ولحمايتهم من شعوبهم
ولكن بدل البكاء على مصير القدس أو التنديد بالرئيس الأمريكي أو هجاء الزعماء العرب، هنالك أسئلة تفرض نفسها علينا جميعًا ألا وهي: لماذا وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه ولماذا اتخذ الرئيس الأمريكي هذا القرار الذي شجبه غالبية أصحاب القرار في العالم؟ وأهم من هذا كله على كل واحد منا أن يسأل نفسه: ماذا بإمكاني أن أقدم لنصرة قضية القدس.
الرئيس ترامب ليس مجنونًا كما يحلو للكثيرين أن يصوروه، إنه سياسي ورجل أعمال يتصرف على أساس مبدأ الربح والخسارة، فماذا يربح؟ وماذا يخسر باعترافه بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” واتخاذ قراره بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس؟
أولاً يربح صداقة “إسرائيل” وهي قضية مهمة بالنسبة لكثير من الأمريكيين، ثانيًا يربح أصوات الملايين من الناخبين الأمريكيين المؤيدين لـ”إسرائيل”، وثالثًا يربح ملايين الدولارات من تبرعات الأمريكيين المؤيدين لـ”إسرائيل”.
هذا ما يربحه، فماذا يخسر؟ للأسف، التجربة تدل على أنه لا يخسر الكثير، الزعماء العرب منقسمون على أنفسهم ويتصارعون مع بعضهم البعض، وكثير منهم يحتاج لمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في حروبهم مع جيرانهم ولحمايتهم من شعوبهم، حالة الانقسام والتشرذم التي تعاني منها الساحة العربية لا تسمح للقادة العرب باتخاذ أي موقف عملي حاسم لنصرة القدس أو الضرر بمن يضر قضية القدس.
لم يجرؤ أي زعيم عربي على قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات الأمريكية فما بالك بفرض عقوبات اقتصادية، حالة الزعماء العرب في هذه الأيام تذكر بحالة أسلافهم إبان الغزو الصليبي، فضعفهم وتناحرهم شجع الصليبيين على غزو المنطقة واحتلال فلسطين وارتكاب المجازر التي دفعت أحد مؤرخي الصليبيين أنفسهم للقول إن خيولهم لا تجري في شوارع القدس وإنما تسبح في دماء ضحاياهم من المسلمين.
علينا كمسلمين أن نثقف أنفسنا وأبناءنا ومن حولنا عن أهمية القدس كمدينة مقدسة عند أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاثة، فلا يحق لأي كان أن يتفرد بها ويقصي الآخرين
حتى إن التناحر بين القيادات الإسلامية استمر حتى بعد تحرير القدس على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي، فالأمراء الأيوبيون الذين خلفوا السلطان صلاح الدين في الحكم كانوا يتناحرون فيما بينهم ويستعينون بالصليبيين لمحاربة بعضهم البعض.
النتائج السلبية لهذا التناحر بلغت ذروتها بتصرف السلطان الكامل ابن السلطان العادل أخ السلطان صلاح الدين بطل حطين ومحرر القدس، الذي أعاد تسليم القدس بلا قتال للملك فريديريك الثاني قائد الحملة الصليبية السادسة، فما أشبه اليوم بالبارحة.
خلاصة القول إن الرئيس ترامب يدرك أنه لا يخسر شيئًا إذا اعترف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، فهو يعلم أن الزعماء العرب والمسلمين منشغلون بتناحرهم ورفض المجتمع الدولي لهذا القرار لن يؤثر على الانتخابات في الولايات المتحدة وهذا أكثر ما يهمه.
نعود إلى سؤال: ماذا بإمكان كل واحد منا أن يقدم لنصرة قضية القدس؟ طبعًا سنجيب على هذا السؤال كمواطنين كنديين تهمهم قضية السلام العالمي وقضية القدس كمدينة مقدسة عند أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وحقوق الشعب الفلسطيني كشعب يعاني الاحتلال والاضطهاد.
طبعًا، كما قلنا آنفا، التنديد بالرئيس ترامب أو هجاء الزعماء العرب لن يقدم ولن يؤخر في الأمر شيئًا، لهذا سنركز على القضية من منظار إسلامي كندي وبرؤية عملية هادفة.
– علينا كمسلمين أن نثقف أنفسنا وأبناءنا ومن حولنا عن أهمية القدس كمدينة مقدسة عند أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاثة، فلا يحق لأي كان أن يتفرد بها ويقصي الآخرين، لقد دأب المسلمون منذ دخول الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه مدينة القدس على احترام مقدسات الآخرين فيها.
قصة عمر مشهورة عندما كان يزور كنيسة القيامة بصحبة البطريرك صفرونيوس بعد أن استلم منه مفاتيح بيت المقدس وحضر وقت الصلاة فرفض عمر أن يصلي في الكنيسة حتى لا يأتي بعده من يحولها إلى مسجد بحجة صلاة الخليفة فيها، في القدس المسجد الأقصى الذي يقول عنه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.
المقدسيون، كسائر أبناء فلسطين، يتعرضون لكل أشكال التمييز والاضطهاد والترهيب والترغيب لإجبارهم على التخلي عن أرضهم ومقدساتهم التي هي مقدساتنا جميعا أينما كنّا
والمسجد الأقصى كان أول القبلتين، لقد كان قبلة المسلمين من بعثة محمد عليه الصلاة والسلام إلى أن نزل الوحي بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام في مكة المكرمة وكان ذلك في العام الثاني للهجرة وهذا يعني أن الرسول ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتوجهون في صلاتهم شطر المسجد الأقصى في بيت المقدس مدة 15 سنة.
المسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاث التي لا يُشَد الرحال إِلَّا اليها وهي البيت الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة والمسجد الأقصى في بيت المقدس.
في المسجد النبوي الشريف لم يصل إلا رسول واحد هو محمد عليه الصلاة والسلام، وفي المسجد الحرام صلى أنبياء ثلاثة هم إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين، أما المسجد الأقصى فقد صلى فيه كل الأنبياء والرسل وكان ذلك ليلة الإسراء والمعراج عندما أمهم محمد في صلاتهم.
هذه أهمية القدس بالنسبة للمسلمين، أما بالنسبة للمسيحيين ففي القدس كنيسة القيامة التي يُؤْمِن كل المسيحيين أن عيسى المسيح عليه السلام دفن فيها وقام من قبره ثلاثة أيام بعد صلبه ويعتقدون أن قبر المسيح لا يزال في كنيسة القيامة.
طبعا، نحن المسلمون نؤمن أن المسيح عليه السلام لم يصلب ولم يدفن وإِنَّما شُبِّه لهم ورفعه الله قبل أن يصلب، ولكن المسيحيين يؤمنون أنه صلب ودفن وصعد إلى السماء بعد أن قام من قبره وقبره لا يزال موجودًا في كنيسة القيامة.
من هنا تبرز أهمية القدس وكنيسة القيامة بالنسبة للمسيحيين، أما بالنسبة لليهود فأهمية القدس لا تحتاج إلى دليل، ولكن أن يقال إنها العاصمة الأبدية لليهود فهذا أمر آخر، لقد بنيت القدس مئات السنين قبل أن يهاجر إبراهيم عليه السلام من العراق إلى أرض فلسطين، وحُكم اليهود للقدس لم يتعد 450 سنة على امتداد 6000 عام من تاريخها، وموسى عليه السلام الذي هو أهم أنبياء بني إسرائيل وعليه نزلت التوراة لم يدخل القدس وإنما مات ودفن خارجها.
يتوجب علينا كمواطنين كنديين ديانتهم الإسلام وحريصين على نصرة قضية القدس وأهلها والحفاظ عليها كمدينة مقدسة للجميع أن نعمل على أن يكون موقف القيادة السياسية الكندية موقفًا دائمًا وألا يتغير تحت تأثير ضغوط داخلية أو خارجية
– الأمر الثاني الذي بإمكاننا القيام به لنصرة القدس هو مساعدة أبنائها على الثبات والصمود، إن المقدسيين، كسائر أبناء فلسطين، يتعرضون لكل أشكال التمييز والاضطهاد والترهيب والترغيب لإجبارهم على التخلي عن أرضهم ومقدساتهم التي هي مقدساتنا جميعا أينما كنّا.
هؤلاء الناس يحتاجون المساعدة المادية وهذا ما بإمكاننا أن نقدمه لهم، ولكن يجب الحرص على جمع التبرعات وإرسالها عن طريق مؤسسات قانونية معترف بها من الحكومة الكندية حتى لا يتورط أحد ويواجه تهمة مساعدة الاٍرهاب.
– كما ذكرنا آنفًا، عند حديثنا عن حسابات الربح والخسارة بالنسبة للرئيس ترامب، القرارات تتخذ في المجتمعات الديموقراطية لخدمة مصالح داخلية وانتخابية، إننا لا نقول أنه لا مكانة للقيم والمبادئ عند أصحاب القرار، ولكن يجب أن نعرف أنه لا بد لأي سياسي في أي مجتمع ديموقراطي من أخذ آراء ناخبيه بعين الاعتبار عند اتخاذه لقراراته، من المعروف أن الحكومة الكندية كمعظم حكومات العالم رفضت قرار الرئيس الأمريكي وهذا أمر يشكر عليه الجميع، كان هناك إجماع دولي على ضرورة احترام القرارات الدولية والعمل على تحقيق السلام.
ولكننا كمواطنين في بلد ديموقراطي علينا أن نعمل على أن يكون هذا الموقف سياسة دائمة لا موقفًا ظرفيًا، فالحكومات تتغير ومواقفها أيضًا قد تتغير بتغير الظروف والمصالح، لهذا يتوجب علينا كمواطنين كنديين ديانتهم الإسلام وحريصين على نصرة قضية القدس وأهلها والحفاظ عليها كمدينة مقدسة للجميع أن نعمل على أن يكون موقف القيادة السياسية الكندية موقفًا دائمًا وألا يتغير تحت تأثير ضغوط داخلية أو خارجية.
يجب بناء جبهة عريضة مع كل محبي السلام والمدافعين عن حقوق المضطهدين لنصرة القدس وأهلها، وهذا ما شاهدناه في شوارع مونتريال وغيرها من المدن الكندية عندما سار المتظاهرون من أتباع كل الديانات بمن فيهم اليهود جنبًا إلى جنب ويدًا بيد دفاعًا عن القدس، طبعا يجب العمل مع القيادة السياسية لتشجيعها على الاستمرار على نهجها المؤيد لقضايا السلم العالمي وحقوق الشعوب بما فيها الشعب الفلسطيني، إن هذه القيادة، ككل القيادات السياسية في المجتمعات الديموقراطية، تؤثر وتتأثر بالسياسات الداخلية والمصالح الانتخابية.
كان للحصار الاقتصادي الذي فرضه المجتمع الدولي بريادة كندا دور فعال في انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا
من هنا ضرورة الانخراط في العمل السياسي في هذا المجتمع، من مصلحة المواطنين الكنديين المسلمين، ككل المواطنين الآخرين، تسجيل أسمائهم على لوائح الانتخاب، والمساهمة في تمويل الأحزاب السياسية التي تتنافس على السلطة، والقيام بواجبهم الديمقراطي ترشيحًا وانتخابًا حتى يعرف كل السياسيين، في السلطة والمعارضة، أن المسلمين مواطنون ككل المواطنين لهم وزنهم ولهم حقوقهم، ولا يمكن تجاهل الدور الذي يمكن أن تلعبه السياسة الداخلية في ميدان السياسة الخارجية.
إن الحصار الاقتصادي الذي فرضه المجتمع الدولي على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي كان حليفًا قويًا لـ”إسرائيل”، بدأته كندا بقيادة رئيس وزرائها آنذاك براين مونروني الذي أقنع الكومنويلث وقيادة الرئيس رونالد ريجن في الولايات المتحدة أنه لا يمكن الاستمرار بدعم النظام العنصري في جنوب إفريقيا، ولقد كان للحصار الاقتصادي الذي فرضه المجتمع الدولي بريادة كندا دور فعال في انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
من هنا نرى الدور الريادي الذي بإمكاننا كمواطنين كنديين القيام به لنصرة القدس وأهلها والعمل على إحقاق الحق وإزهاق الباطل ونشر السلام في أرض السلام.