من أشهر الأساطير التي تروج بين العامة ودعمتها السينما بأفلام عديدة تلك التي تحدثت عن الأميرة الروسية ابنة العائلة الملكية أناستازيا، قصة فتاه لا تعرف أصلها ولا من هي، يأخذها شاب ليقنعها بأنها أميرة روسية وآخر من تبقى من آل رومانوف، ليقدمها للإمبراطورة الأم ويحصل على الجائزة.
القصة تحكي حكاية غير واقعية تمامًا عن فتاة من أربع فتيات هن بنات قيصر روسيا الأخير نيكولاس رومانوف (أولجا – ماريا – تاتيانا – أناستازيا) بالإضافة لفتى وهو أصغرهم “أليكسس”.
الحرب
في فترة الحرب العالمية وما قبلها، كانت روسيا تعاني من مشكلات اقتصادية وسياسية، تحديدًا في فترة الحرب العالمية الأولى وبدء الحرب على حدود روسيا الغربية، انتشرت المجاعة والأمراض دون أي بصيص لانتهاء الأزمة وكانت الحياة مأساوية لأقصى حد، توفي في الحرب من الجنود والمدنيين نحو 4 ملايين إنسان.
الحرب العالمية الأولى
رومانوف
نيكولاس رومانوف
نيكولاس رومانوف، سليل عائلة رومانوف التي حكمت روسيا القيصرية زهاء الثلاثمئة عام، في تلك الفترة (1914) كان في أوج زهوته، أغنى وأقوى رجل في العالم، يسيطر على عُشر مساحة الأرض، ويمتلك نحو 30 مليار دولار بخلاف مناجم الذهب وقصور في سانبطرسبرج والقرم ومجوهرات ويخت ملكي وقطارين ملكيين ويعيش هو وأسرته في قصر به 1000 غرفة، بالإضافة لسيطرته على الكنيسة الأرثوذوكسية.
كان القيصر بمثابة إله يشاطر الناس الأرض، كلمته كأنها نص مقدس وقراراته لا تحتمل نقاشًا أو اعتراضًا، أسرة القيصر كانت مكونة من سبع أفراد (القيصر وزوجته أليكساندرا حفيدة الملكة فيكتوريا، وأربع بنات وفتى وحيد).
عائلة نيكولاس رومانوف
كان أليكسس ولي العهد ابنًا واحدًا للقيصر رزق به بعد أربع فتيات، كان المفترض أن يصبح وريث العرش بعد والده إلا أنه كان مريضًا بالناعور أو الهيموفيليا (مرض يؤدي بالمصاب به لنزيف طويل بسبب اختلال في عوامل تخثرالدم).
كانت الملكة فيكتوريا حاملة للمرض، ونقلته لأبنائها الذين بدورهم نقوله لعائلات إمبراطوريات العالم (روسيا – ألمانيا- إسبانيا)، لذلك عمدت أسرة القيصر على إخفاء الأمر عن الشعب الروسي واستعانت زوجة القيصر بمشعوذ اسمه راسبوتين من أجل علاج أليكسس وتأهيله لتولي العرش.
راسبوتين
القمع
في العام 1904 نظم بعض عمال المصانع احتجاجات عند قصر القيصر، قوبلت تلك الاحتجاجات بالرصاص الحي والاعتداء من قوات القمع الموالية للقيصر، بعدها بسنوات حدثت أزمة الحرب العالمية الأولى وتحولت حياة الروس لمأساة عام 1914.
في العام 1917 حدث تمرد واسع من البلاشفة الثائرين على الحكم، وأجبر القيصر على التنازل عن العرش، ألقي القبض عليه هو وأسرته وأودعوا بيت “هيباتيف” في بلدة قروية قرب حدود سيبيريا تدعي “يوكاترينا بيرج”.
تحولت الأمور بسرعة وحاولت بعض القوات الموالية للقيصر الوصول لمكان احتجازه وأسرته والقيام بمحاولة أخيره لتحريره، ذلك الحراك جعل البلاشفة – بقيادة لينين وبأوامر مباشرة منه – يسرعون في تنفيذ مخططهم السري وإعدام العائلة المالكة كاملة، خوفًا من نجاح غرمائهم في تحرير القيصر وإفشال الثورة.
اليوم الأخير
قبل فجر يوم 16 من يوليو 1918 أيقظ الحراس القيصر وأسرته معللين بأن الوضع لم يعد آمنًا وأن عليهم التوجه للأسفل من أجل الاستعداد للانتقال لمكان آخر.
تم تجميع الأسرة كاملة 7 أفراد و4 مرافقين منهم طبيب العائلة وثلاثة خدم، المتداول عن تلك الدقائق أنها دقائق ترقب، الغرفة فارغة تمامًا وخالية من أي أثاث جعل الملكة تطلي كرسيان لها وللصبي، كلب الحراس من الرهائن الوقوف في وضعية التصوير، بعدها مباشرة دخل الضابط يوروفسكي وقرأ على القيصر بيانًا يتضمن أوامر بإعدامهم جميعًا، لم يمهلوهم أي وقت وفتحوا النار عليهم.
مشهد متخيل للوضعية الأخيرة للعائلة
أحد الحراس في مذكراته اعترف أن أميرة أو اثنتين لم يقتلهما الرصاص، اضطر الحراس للتوجه لهم وطعنهن مباشرة ثم إطلاق النار على رؤوسهن، بعد تفتيش جثثهن، اكتشفوا أن الفتيات خِطن مجوهرات وحلي في ملابسهن، عمل كواقي من الرصاص.
تحولت قضية قتل القيصر وأسرته لفضيحة عالمية والأصول الإنجليزية للعائلة جعلت الحادثة أمرًا زاد من فداحة الأمر (كان نيكولاس ابن خالة الملك جورج الخامس ملك إنجلترا) والزوجة ألمانية مما أشعل غضب ملوك ورؤساء أوروبا وألمانيا والولايات المتحدة.
جورج الخامس ونيكولاس رومانوف
لكن إشاعات متعددة انتشرت في تلك الفترة حملت عدة احتمالات:
1- الزوجة والفتيات يتنقلن بين الأديرة في سرية ويعيشون فيها بعد قتل القيصر وحده.
2- أبحروا في البحر الأبيض المتوسط على متن قارب للأبد.
3- يعيشون في منطقة بجورجيا.
4- أُخذوا لسيلون واحتجزوا هناك.
سبب ظهور شائعات نجاة أسرة القيصر بعد المذبحة، هي ادعاء البعض أن الحراس المكلفين بحماية الأسرة المالكة وقعوا في حب بنات القيصر وساعدوهم على الهرب، لم يعترف أحد بالجريمة وقتها لمدة 6 سنوات، اللهم إلا لينين افتخر بقتله آخر ملوك روسيا القيصرية سليل عائلة رومانوف التي حكمت روسيا 300 عام.
الحديث عن تلك القضية حُرم في عهد لينين تمامًا وأمر الناس بتصديق ما حدث كما هو، وأي تشكيك في قتل القيصر أو سؤال عن أسرته، كان يقابل بالسجن أو الموت في بعض الأحيان.
سيكولوف
بعد الحادثة اعتمدت الأسرة المحقق “نيكولاس سيكولوف” الذي كان يعيش منفيًا في باريس، ليرأس مشروعًا غرضه فتح القضية والتحقيق فيها، استطاع العودة مرة أخرى لمكان الاغتيال والقيام بمعاينات وأبحاث ميدانية وإيجاد أدلة واستجواب شهود وكشف الحقائق المروعة.
في أثناء البحث عثر سيكولوف على مذكرات الضابط يوروفسكي التي روى فيها ما حدث تحديدًا، وأن بعد الاغتيال قام بنقل الجثث مع جنوده وألقوها في أحد المناجم القديمة، إلا أن الجنود ثملوا وأفصحوا للقرويين عما فعلوه متباهين، فلم يبق الأمر سريًا، فقرر إخراج الجثث ثانية وإخفاءها للأبد.
الغرفة التي تم إطلاق النار فيها
في غابة على حدود سييبريا قرر أن تكون هنا النهاية، حفر قبرًا للجثث وألقاها فيه وسكب جنوده عليها حمضًا من أجل إذابتهم بعد ذلك أضرم النار فيهم، ما قام به يوروفيسكي هو ما جعل أسطورة أناستازيا تتفجر، وعوضًا عن تحريم الحديث في هذا الأمر وتعمد إخفاء القبور وقت حكم لينين وستالين وحتى نهاية حكم الشيوعيين، إلا أن صندوقًا جمع فيه سيكولوف بعض باقيا القتلى من بيت هيباتيف ألصق الخزي بالسوفييت، إذ احتوى على أسنان زوجة القيصر وإصبع الطبيب.
أسطورة أناستازيا
أسطورة أناستازيا لم تكن جديدة، إنما قديمة بقدم الاغتيال نفسه، في العام 1920 وبعد عامين فقط من الحادث، ظهرت فتاه تدعي أنها أناستازيا، الأميرة المفقودة وأنها وريثة عرش رومانوف ومستحقة الثروة الشرعية.
على اليمين أناستازيا على اليسار آنا
ظهرت آنا أندرسون وتعاطف معها الكثيرون، كانت تمتلك حججًا بليغة في الرد على الأسئلة وتعرف الكثير عن القصر وأسراره وتتعامل بأسلوب يشبه كثيرًا أسلوب الأميرات، عارضها الكثيرون جدًا ورفعت ضدها دعوى أمام القضاء الروسي استمرت لعقود، أصدر القضاء حكمًا في السبعينيات بعدم الاعتراف بآنا أنها الأميرة ولكن الحكم لم يكذبها، وهو ما لم يرضِ الطرفين، آن وعائلة رومانوف.
تضمنها عام 1933 طلبا من عائلة رومانوف – المقيمة في المنفى بأوروبا – للمحكمة إعلان القيصر وأسرته أمواتًا، عام 1984 ماتت آنا اندرسون لكن الملف ظل مفتوحًا.
في شهادة أدلى بها أحد المنفذين لحكم الإعدام بمكان الدفن وقام بالحفر كلا من أفدينون وهو جيولوجي وسيرجي إبراموف صانع أفلام، ذهبوا للغابة وقاموا بالحفر، عثروا على 9 جثث فقط من أصل 11 جثة (القيصر وزوجته وبناته الثلاثة والخدم الثلاث والطبيب)، فأين ذهبت إذًا جثة ابنه وإحدى بناته؟
عام 1993 أُعلن أن الرفات يعود للقيصر وأسرته، لكن فقدان جثتي أناستازيا وأليكيسس عزز من انتشار فرضية حياة أناستازيا ونجاتها بأعجوبة
وقتها لم يستطع أحد أن يفصح عن الأمر لوجود روسيا وقتها تحت حكم الشيوعيين، بعد سوط الاتحاد السوفييتي استطاعوا الإفصاح عن اكتشافهم وفتحت القضية مرة أخرى.
في العام 1992 أجريت بعض التحاليل والفحوصات من أجل إثبات هويات الجثث ومقارنة الحمض النووي بالحمض النووي لبعض أفراد الأسرة بعد موافقة الأمير فيليب “ملك إنجلترا” على سحب عينة من حمضه النووي، وجد تطابقًا بين حمضه والحمض النووي للعظام.
عام 1993 أُعلن أن الرفات يعود للقيصر وأسرته، لكن فقدان جثتي أناستازيا وأليكيسس عزز من انتشار فرضية حياة أناستازيا ونجاتها بأعجوبة، عام 1994 قورن الحمض النووي للعائلة المالكة بالحمض النووي لإحدى أقارب آنا أندرسون، وأثبت عدم تطابقهما أنها كانت مدعية كاذبة وتم البت في هذا الموضوع نهائيًا.
في الألفينيات عُثرعلى قبر قريب من منطقة العثور على رفات الـ9 السابقين، استخرج منهما بقايا العظام، وبمقارنة الحمض النووي مرة أخرى، اتضح أنه لأبناء القيصر، ذكر وأنثى، هما أليكسس وشقيقته التي ليس من المعروف هل هي أناستازيا أم ماريا.
أُغلق ملف القضية رومانوف تمامًا بالعثور على 11 رفات والتأكد من نسبهم، وأُعيد دفنهم مرة أخرى في عهد الرئيس الروسي يلتسن، وقامت الكنيسة بتطويبهم واعتبارهم شهداء وتحويلهم لقديسين.
يلتسن
في المرة القادمة التي يتكلم فيها أحدهم عن أناستازيا الأميرة المفقودة، أخبره القصة.