تستخدم أنظمة التعليم اختبارات الذكاء لتحديد الأطفال الموهوبين أو الذين يحتاجون تعليمًا خاصًّا لتقديم الدعم اللازم لهم. كما يعمل الباحثون في جميع مجالات العلوم الاجتماعية والصلبة على دراسة نتائج اختبارات الذكاء وعلاقاتها مع علوم الوراثة والاجتماع والاقتصاد والأعراق، إضافةً للإنجاز الأكاديمي.
أنشأت اختبارات الذكاء لأول مرة منذ أكثر من قرن من الزمان، ولا تزال الاختبارات تستخدم على نطاق واسع اليوم لقياس القدرات والخفة الذهنية للفرد، لكنّ بداية استخدامها في بدايات القرن الماضي كانت دومًا محفوفةً بجوانب سوداء بعيدة كلّ البعد عن العلم المجرّد، وإنما سعت المؤسسات الحكومية والاقتصادية من خلالها على فرض سيطرتها على الشعوب والتحكم بها.
بدأت الدراسات العلمية الحديثة للذكاء والقدرات العقلية على يد عالم الإحصاء البريطاني فرانسيس غالتون، الذي كان يؤمن بأنّ كل شيء يمكن قياسه، فأسس مختبرًا لقياس الذكاء في لندن عام 1884، واستمرّ العمل فيه لمدة ستة أعوام استخلص فيها أعماله التي تًعدّ الإنطلاقة الرئيسية في دراسة القدرات العقلية عن طريق القياس التجريببي المعملي لبعض الوظائف السيكولوجية، وقد كان اهتمامه مُنصبًا بشكلٍ أساسيّ على البحث في مجال الفروقات في القدرات العقلية بين الأفراد والمجموعات، وهو أول من أطلق مصطلح “الذكاء” على القدرات العقلية.
يُعد ألفريد بينيه أول من صاغ مفهوم “العمر العقلي”، والذي حدّد بناءً عليه “مستوىً عمريّ” لكل مهمة عقلية أو لكلّ مجموعة من المهام
أما في أوائل القرن الماضي، فقد وُضعت عشرات من الاختبارات في أوروبا وأمريكا تدّعي أنها تقدّم طرقا غير منحازة لقياس القدرات المعرفية والإدراكية للأفراد. وقد تم تطوير أول هذه الاختبارات على يد عالم النفس الفرنسي ألفريد بينيه، الذي كلفته الحكومة الفرنسية آنذاك للعمل على تحديد الطلاب المتفوقين دراسيًا عن أولئلك الذين يحتاجون مساعدة خاصة في مناهجهم الدراسية، ليتم وضعهم في مدارس خاصة ينالون فيها اهتمامًا أكبر وأشمل.
يُعد ألفريد بينيه أول من صاغ مفهوم “العمر العقلي”، والذي حدّد بناءً عليه “مستوىً عمريّ” لكل مهمة عقلية أو لكلّ مجموعة من المهام، وبذلك فقد ربط كل مهمة بعمر زمنيّ مُحدد. وعلى هذا الأساس فإنّ الذي يجتاز المهمة/المهام المرتبطة بالعمر الزمني المُحدد يكون ذكيًا.
قام بينيه بعد عدة سنوات مع زميله ثيودور سيمون بنشر تنقيحات لمقياس الذكاء عامي 1908 و1911. وقد أصبح مقياس بينيه – سيمون أساسًا لاختبار الذكاء الحديث. ومن المفارقات أنّ بينيه نفسه اعتقد فعلًا أنّ اختبارات الذكاء كانت قياسا غير كافية للذكاء، مشيرًا إلى عدم قدرتها على قياس الإبداع أو الذكاء العاطفي بشكل صحيح.
اختبار ستانفورد – بينيه هو أول اختبار لقياس الذكاء العام ويُعتبر أساسًا لاختبار الذكاء الحديث
لاحقًا، قام الأستاذ بجامعة ستانفورد لويس تيرمان، والذي كان يؤمن بأنّ الذكاء متوارث وثابت بالمناسبة، بتعديلات إضافية على اختبار بينيه، حيث أدخل اقتراح ويليام شتيرن القائل بأن مستوى ذكاء الفرد يُقاس كنسبة ذكاء ” Intelligence Quotient“، ولقد سُمي التعديل الجديد باسم اختبار ستانفورد-بينه للذكاء، ويُعد أساس اختبارات الذكاء الحديثة، والتي ما زالت مستخدمة حتى الآن تحت مُسمى نسبة الذكاء، أو ما يُعرف اختصارًا “IQ“.
أهم ما يميّز اختبار ستانفورد – بينيه هو أنه أول اختبار لقياس الذكاء العام، كما يعد كذلك أول مقياس يستخدم مصطلحي “العمر العقلي” و “المستوى العمري”، ويربطهما معًا كوحدة قياس للذكاء، إضافةً إلى أنه لا يُناسب الراشدين باعتبار أنه نشأ ليُستخدم مع الأطفال الصغار، كما يرتبط بزمنٍ محدد لإجرائه.
استخدم اختبار الذكاء لتقييم المتقدمين للجيش الأمريكي وقدرتهم على الخدمة في القوات المسلحة في الحرب العالمية الأولى
مع مرور الوقت بدأ استخدام اختبارات الذكاء يشيع أكثر فأكثر في الولايات المتحدة، ومع بداية الحرب العالمية الأولى أجريت اختبارات الذكاء على ما يُقارب 1.75 مليون متقدم للجيش للأمريكي، وهي ما كانت تُعرف باختبارات ألفا وبيتا وتهدف لتقييم الطباع الفكرية والعاطفية للجنود، واستخدمت النتائج لتحديد مدى قدرة المتطوعين على الخدمة في القوات المسلحة وتحديد أي تصنيف وظيفي أو منصب قيادي هو الأنسب لهم.
كما أنه ابتداء من أوائل القرن العشرين بدأ نظام التعليم في الولايات المتحدة أيضا باستخدام اختبارات الذكاء لتحديد الطلاب الموهوبين وغير الموهوبين كما كان يُطلق عليهم، بالإضافة لتحديد ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يحتاجون إلى تدخلات تعليمية إضافية وبيئات أكاديمية مختلفة.
أشار هنري جودارد إلى وجوب منع الأفراد غير الأذكياء أو “البُله” كما أسماهم هو من إنجاب أطفال لحماية المجتمع
وبالتالي يكون اختبار الذكاء قد اكتسب شعبية واسعة في أمريكا، لكن على الرغم من أن لويس تيرمان قد استطاع أن يكون المصدر الموثوق في انتشاره، إلا أنّ عالمًا آخر قبله هو “هنري غودارد” كان قد جعل منه صناعةً، وهو المسؤول عن تعميمه في أمريكا، غير أنه ركّز بالأساس على دور الوراثة في الذكاء الذهني، وأثر الزواج في إنشاء أجيال أقل ذكاءً أو أكثر، أما فرضيته الأساسية فأكدت على أنّ الذكاء تحدده البيولوجيا والعِرق، وبالتالي ركّز على الضرر المجتمعي الذي يمكن أنْ ينجم عن ما أسماه “الجنس العَرَضي”، أو غير المنظم وفقًا لنسب الذكاء.
في الواقع، جادل جودارد أنّ المجتمع الأمريكي يجب أن يمنع الأفراد غير الأذكياء أو “البُله” كما أسماهم هو من إنجاب أطفال، إما عن طريق عزلهم مؤسساتيًا أو عن طريق التعقيم الجنسي. ونتيجة لمزيج أفكاره المغري من العلم والإيديولوجيا، أصبح كتابه مفضّلًا لدى علماء النسل. وعلى هذا النحو، شكّلت آراؤه حول الذكاء العقلي جزءًا مظلمًا في التاريخ الأمريكي، إذ لم يكن هدفها سوى تأصيل التفريق العنصري ونشر التحيز.
إضافةً لجودارد أيضًا، أكد كارل بريغهام واضع اختبارات الذكاء ألفا وبيتا للجيش الأمريكي، على أنّ مستويات الذكاء في الشعب الأمريكي آخذة بالانخفاض، مُرجعًا أسباب ذلك إلى زيادة الهجرة والاندماج العرقي بين الأفراد، ولمعالجة هذه “المشكلة” دعا إلى وضع سياسات اجتماعية لتقييد الهجرة وحظر الاختلاط العرقي.
وبهذا تكون اختبارات الذكاء قد شكّلت وسيلةً قوية للسيطرة على المجتمعات المهمشة باستخدام لغة علمية وتجريبية. فقد استخدم مؤيدو إيديولوجيات تحسين النسل في عام 1900 اختبارات الذكاء لتحديد الفرد “الأحمق”، أو “الغبي”، أو “الأبله” الذي كما وصفه باحثو تحسين النسل يشكّل تهديدًا للجين الأبيض الأنجلوسكسوني في أمريكا.
ونتيجة لهذه الحجج النسلية، تم تعقيم العديد من المواطنين الأميركيين جنسيًّا فيما بعد. وفي عام 1927 أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة قانونًا يشرع التعقيم القسري للمواطنين ذوي الذكاء المنخفض أو المشكوك فيهم كما أسمتهم، وقد أدى القانون المعروف باسم ” Buck v Bell” إلى أكثر من 65 ألف تعقيم قسريّ لأفراد تم اعتقاد أنهم يمتلكون معدلات ذكاء منخفضة، ويشكّلون ضررًا للمجتمع الأمريكي ونسبة ذكائه العامة.
استمر التعقيم الإلزامي في الولايات المتحدة على أساس معدلات الذكاء التي ارتبطت أيضًا بالإجرام والانحراف الجنسي، رسميًا حتى منتصف السبعينات، عندما بدأت منظمات بتقديم دعاوى نيابة عن الأشخاص الذين تم تعقيمهم. وفي عام 2015 صوّت مجلس الشيوخ الأمريكي لتعويض ضحايا القانون الذين ما زالوا على قيد الحياة.