بعد خمسين عامًا من حرب الأيام الست (يونيو/حزيران 1967)، لا يبدو للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة أي نهاية في الأفق، وبقي نموذج احتلال “إسرائيل” للأراضي الفلسطينية أبعد ما يكون عن الحل، بل قامت ببناء نموذج للسجن الدائم في غزة والضفة الغربية.
ويقدم المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيي وصفًا شاملًا ومدمرًا للاحتلال في كتابه الجديد “أكبر سجن على الأرض: تاريخ الأراضي المحتلة“، استنادًا إلى أبحاث أرشيفية وروايات شهود عيان.
“أكبر سجن على الأرض” هو أحدث أعمال إيلان بابي، صاحب أكثر من عشرة مؤلفات عن القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي، أهمها: التطهير العرقي في فلسطين، حرب 2014 على غزّة، فكرة إسرائيل: تاريخ القوّة والمعرفة، عشرة خرافات حول إسرائيل الذي سبق عرضه في تقرير لنون بوست.
وعبر مقدمة ومدخل و12 فصلًا، يكرّس بابي صفحات كتابه لدراسة تاريخ “إسرائيل” في هذا الملف كما يتبين من فصوله الآتية: حرب الخيارات، استنباط مفهوم الـ”ميغا ـ سجن”، القدس الكبرى كمشروع انطلاق، رؤية إيغال ألون، المثوبات الاقتصادية مقابل خطوات الانتقام العقابية، التطهير العرقي خلال حرب 1967، إرث حزب العمل بين 1968 و1977، بيروقراطية الشر، انتفاضة 1987 ـ 1993، مهزلة اتفاقيات أوسلو، الانتفاضة الثانية، وصولًا إلى مفهوم “الأمن المطلق الأقصى”، ونموذج غزة.
ملامح السجن المفتوح
يقدم بابي استكشافًا شاملًا لأحد الصراعات التي طال أمدها وأكثرها مأساوية في العالم، وباستخدام المواد الأرشيفية التي تم رفع الحظر عنها مؤخرًا، يحلل بابي دوافع وإستراتيجيات الجنرالات والسياسيين، وآلية صنع القرار نفسها التي وضعت حجر الأساس للاحتلال.
ومن الرصد الدقيق للبنى القانونية والبيروقراطية التي سُخّرت لإخضاع قرابة مليون نسمة من الفلسطينيين، إلى النُظُم الأمنية والأجهزة التي طبّقت سياسات تلك البنى وأشرفت على تطوير طرائقها، يستخلص بابي ملامح هذا السجن المفتوح، الأكبر على الأرض!
واستنادا إلى قصص شخصية من جانبي النزاع وسجلات المنظمات غير الحكومية ولقاءات شهود العيان، يكشف تحقيق بابي الآثار الوحشية للاحتلال، من إساءة منهجية للحقوق الإنسانية والمدنية مثل حواجز الجيش على الطرقات والاعتقالات الجماعية وهدم الممتلكات وتفتيش المنازل وعمليات نقل السكان قسرًا وضم الأراضي وانتشار المستوطنات غير القانونية وجدار الفصل سيئ السمعة الذي يحول بسرعة الضفة الغربية إلى سجن مفتوح.
من الأنظمة التي أخذ بها الاحتلال، وما زالت سائدة إلى يومنا هذا من زمن الاحتلال البريطاني، النظام رقم 109 الذي يسمح للحاكم بطرد السكان، ورقم 110 الذي يسمح له باستدعاء أي شخص كان، ورقم 111 الذي يسمح بالاعتقال الإداري من دون محاكمة ولفترة غير محدودة
ويقول المؤرخ الإسرائيلي عن الوحشية الممنهجة للاحتلال الإسرائيلي التي أسماها “بيروقراطية الشر”: “خدم أشرار وضعوا التفاصيل الدقيقة وأيدوها عبر السنوات وأتقنوا عملها، باعتبارهم حراسًا لهذا السجن الأكبر على الأرض، ولن يُلغى هذا السجن إلا بخروج آخر هؤلاء الخدم من الخدمة”.
ويطلق الكاتب على أراضي “الضفة” المحتلة صفة “بَنُبتِكُم” (Panopticom)، وهو صنف من السجون ابتدعه المنظر الاجتماعي جيريمي بنثم في القرن الثامن عشر، يسمح لحارس واحد بمراقبة السجناء كافة، لكن من دون أن يتمكنوا من رؤيته، وبالتالي ليس بمقدورهم معرفة ما إذا كانوا خاضعين للمراقبة في أي لحظة كانت.
ويؤكد بابي أن الأنظمة والتشريعات كافة التي وضعت عام 1948، ومن ثم وضعتها اللجنة المسماة بـ”لجنة المديرين العامين”، تعود إلى زمن الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد أدانتها الحركة الصهيونية في ذلك الحين ووصفتها بأنها “أنظمة لم يتجرأ حتى النازيين على الأخذ بها، ولا سابق لها في نظام متنور”.
ومن الأنظمة التي أخذ بها الاحتلال، وما زالت سائدة إلى يومنا هذا من زمن الاحتلال البريطاني، النظام رقم 109 الذي يسمح للحاكم بطرد السكان، ورقم 110 الذي يسمح له باستدعاء أي شخص كان، ورقم 111 الذي يسمح بالاعتقال الإداري من دون محاكمة ولفترة غير محدودة.
“الخطة جرانيت” لبناء السجن الكبير
بدءًا من الفصل الخامس للكتاب، يقدم المؤلف تفاصيل تحول فلسطين إلى سجن عملاق، أُنشئ ليس بغرض الحفاظ على الاحتلال، بل استجابة عملية للمتطلبات الأيديولوجية للصهيونية، والحاجة إلى السيطرة على أكبر قدر ممكن من فلسطين التاريخية، وخلق مبدأ الأغلبية اليهودية، وهذه المتطلبات هي التي أدت إلى التطهير العرقي لفلسطين عام 1948، ووصلت إلى السياسة التي تشكلت في 1967 وأصبحت المغذي الأول للأعمال الإسرائيلية التي تمارس اليوم.
ويثبت بابي أن “احتلال” بقية فلسطين، في عدوان عام 1967 لم يكن دفاعًا عن النفس، وإنما جرى وفق خطة عامة طرحتها الحركة الصهيونية في ثلاثينيات القرن الماضي، وتم تطويرها على نحو مستمر وفق التطورات الميدانية والإقليمية والعالمية.
بعد ثلاثة أيام من انتهاء حرب 1967، أحكمت “إسرائيل”، بناء ما يدعوه بابي “بنية تحتية لسجن الفلسطينيين”، ووضعت في قبضتها مليون فلسطيني بالضفة الغربية ونحو نصف مليون في قطاع غزة
وفي وقت مبكر من عام 1963 – قبل أربع سنوات من حرب 1967 – كانت الحكومة الإسرائيلية تخطط للاستيلاء العسكري والإداري على الضفة الغربية، وتم التخطيط لعملية أُطلق عليها “خطة شكم”، لكن المدعي العام العسكري أطلق عليها اسم “الخطة جرانيت”، وقد قامت على أساس تقسيم الضفة إلى ثماني مقاطعات.
الخطة وقعت على مدى شهر في حرم الجامعة العبرية في حي جفعات رام في القدس الغربية، في اجتماع حضره مجموعة من خبراء العدو القانونيين والحقوقيين والأكاديميين من الجامعة العبرية، والعسكريين وعناصر من وزارة الداخلية والاستخبارتيين ذوي الخبرة في قمع الفلسطينيين الذين لم يتم طردهم من بلادهم ومحاصرتهم، وتم تعيين الحكام الإداريين للمقاطعات الثمانية، ومنهم حايم هرتسوغ الذي صرف من الخدمة العسكرية ورقّي إلى رتبة جنرال وعُيِّن حاكمًا عامًا للضفة التي سيتم احتلالها بعد أربع سنوات.
وكانت هذه الخطط جزءًا من إستراتيجية أكبر لوضع الضفة الغربية تحت الاحتلال العسكري، وقد سميت هذه الإستراتيجية بـ”خطة شاخام” نسبة للعقيد الإسرائيلي ميشائيل شاخام الذي قام بتأليفها، وقدمها رسميًا رئيس الأركان الإسرائيلي إلى الجيش في أول مايو/أيار 1963، وكانت تهدف لتحضير جيش العدو لاحتلالها وإدارتها عسكريًا.
ميغا سجن.. البنية التحتية للزنزانة العملاقة
يتصدى بابي للطروحات التي تزعم أن احتلال الضفة الغربية كان حادثًا عرضيًا وغير متوقع في سياق تصاعد الأحداث، وفي سياق البحث، يلفت إلى أنّ النقاش عن احتلال “الضفة” بدأ في عام 1956 إبان ما يُسمى “حملة سيناء” التي انطلقت كجزء من العدوان الثلاثي على مصر.
وعلى الرغم من أن حرب 1967 أدت إلى طرد 180.000 فلسطيني آخر (وفقًا للأمم المتحدة) وربما يصل إلى 300.000 (وفقًا لكتاب روبرت بوكر، اللاجئون الفلسطينيين: الأساطير والهوية والبحث عن السلام)، فإن جيفات رام والاجتماعات التي تلت ذلك تصور نوعًا من إدارة السجون للفلسطينيين الباقين.
وفي وقت مبكر من 15 من حزيران/يونيو، أي بعد ثلاثة أيام من انتهاء الحرب، أحكمت “إسرائيل” بناء ما يدعوه بابي “بنية تحتية لسجن الفلسطينيين”، ووضعت في قبضتها مليون فلسطيني بالضفة الغربية، ونحو نصف مليون في قطاع غزة، كلهم تحولوا في نظر الصهيونية إلى لاجئين على أرضهم، ويوم 8 من يونيو/حزيران أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية ليفي إشكول أن القدس عاصمة أبدية لـ”إسرائيل”.
الاحتفاظ بالأراضي أمر مكلف بالنسبة للكيان الصهيوني، وكان لا بد من خلق حقائق تستند إلى المساعدات الآتية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
وفور انتهاء الحرب مباشرة، بدأت “إسرائيل” تنفيذ خطة تصورها ييغال ألون، عضو البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، وتهدف هذه الخطة إلى خلق “مستوطنة” يهودية في الضفة الغربية تفصل الفلسطينيين عن بعضهم، وتغطي أجزاءً من الضفة الغربية لـ”إسرائيل”.
الهدف من الخطط التي وضعتها “إسرائيل” لتفاصيل إدارة الأراضي التي سيتم احتلالها، تأسيس أكبر سجن في العالم“ميغا-سجن“ Mega prison، وفق تعبير الشخصيات الصهيونية، وحبس سكانها فيه مدى الحياة، وهو نتاج طبيعي لتاريخ الصهيونية وعقيدتها.
ويفند بابي القضية مقارنة بالحجة القائلة إن المستوطنات اليهودية غير القانونية بموجب القانون الدولي، نتجت عن حركة دينية قومية مسيانية (حركة إنجيلية بروتستانتية تؤكد على العنصر اليهودي في الإيمان المسيحي)، وهي حجة تقدمت بأقصى قدر من التفصيل من المؤرخين الإسرائيليين إديث زيرتال وأكيفا إلدار في كتابهما (لوردات الأرض: الحرب على المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة 1967-2007).
الضغط الذي ولَّد الانتفاضة
يتطرق الكاتب أيضًا إلى اقتصاد الاستعمار الاستيطاني، ففي يونيو/حزيران 1967، وضعت “إسرائيل” أساس واقع جديد في الضفة والقطاع استمر حتى اليوم، وكانت الفكرة المهيمنة هي كيفية فرض واقع اقتصادي يمكن المحتلين الجدد من الهيمنة على السكان الأصليين.
كان الافتراض الأساسي هو بناء مجموعتين من المصالح، وفيما يخص السكان الأصليين للبلاد فإن الاقتصاد يجب أن يعمل كمكافأة على السلوك الجيد، وأيضًا وسيلة عقاب على السلوك السيئ من وجهة نظر المستعمرين.
لكن بما أن الاحتفاظ بالأراضي أمر مكلف بالنسبة للكيان الصهيوني، كان لا بد من خلق حقائق تستند إلى المساعدات الآتية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
كما كان من الضروري الإفادة اقتصاديًا من الأراضي المستعمرة استيطانيًا عبر احتكارها والإفادة من الأيدي العاملة الفلسطينية الرخيصة، وهذا ما يشرح سبب إصرار “إسرائيل” على الإمساك بالسياسة الاقتصادية للأراضي الفلسطينية المستعمرة استيطانيًا عام 1967.
نتج عن الانتفاضة الأولى نموذج آخر للسجن المفتوح، وبعد الإطاحة بالانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، ظهر نموذج جديد لسجن شديد الحراسة عام 2000
وكانت مسؤولية خداع العالم في العقد (1967 إلى 1977) الذي صُور كذبًا على أنه يحمل الكثير من فرص السلام والتقدم للفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى، تقع بالأساس على حزب العمل و”شيمون بيريز” الذي صوروه على أنه رجل سلام، في حين أن الخطوط العريضة للمستعمرات اليهودية في المستقبل تم إنشاؤوها على أيدي السياسيين العماليين في العقد الأول من الاحتلال.
وكان العقد التالي (1977 إلى 1987) مملوءًا بخيبات الأمل للفلسطينيين، وأسماه إيلان “عهد المستوطنين”، وبعده اشتعلت انتفاضة الشعب الأولى (انتفاضة الحجارة) التي استمرت ست سنوات، وقتل فيها ألف فلسطيني واعتقل 120 ألفًا، كثير منهم دون سن السادسة عشرة، ثم وقع الفلسطينيون في خدعة اتفاق أوسلو الذي امتلأ بالأساطير، ولم ينتج عنه سوى زيادة السيطرة الإسرائيلية ووحشية المستوطنين.
في النهاية نتج عن الانتفاضة الأولى نموذج آخر للسجن المفتوح، وبعد الإطاحة بالانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، ظهر نموذج جديد لسجن شديد الحراسة عام 2000، واستمر هذا النموذج عدة سنوات ثم تحول إلى نموذج مختلط من كل ما سبقه في عام 2005.
ويوم وراء الآخر يتقدم عمر السجن الأكبر في التاريخ، وبينما ينتظر جيل من السجناء من العالم أن يعترف بمعاناتهم، تتلقى “إسرائيل” الحصانة – على مدى نصف قرن – مما قد تشجع الآخرين على الاعتقاد بأن حقوق الإنسان والحقوق المدنية في الشرق الأوسط لا قيمة لها.