في العالم العربي تتداخل قضية فلسطين في الحيز العام والخاص للأفراد، وفي الحيز السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدول كذلك، وليس المجال الرياضي باستثناء يشذّ عن تلك القاعدة، لذلك كان للقضية الفلسطينية حضورها في ملاعب كرة القدم في العالم العربي دومًا، بل في بعض الأحيان كان الملعب والمدرّج المتنفس الوحيد للتعبير عن دعم فلسطين.
هكذا كان الحال في مصر لأوقات كثيرة، مثلًا حين ذهب نادي الزمالك المصري للعب مباراة ودية أمام منتخب فلسطين في افتتاح استاد غزة عام 2000، وليست تلك بداية العلاقة بين الكرة المصرية والقضية الفلسطينية، إنما مجرد ماضٍ قريب يمكن الانطلاق منه.
وفي ملاعب كرة القدم أيضًا، رفع اللاعب المصري محمد أبو تريكة عام 2008 عقب تسجيله أحد الأهداف قميصًا مكتوبًا عليه “تعاطفًا مع غزة”.
وإن كانت تلك المواقف تمثل أندية ولاعبين، فمواقف الجماهير المصرية لا تحصر، ففي أثناء الحصار على غزة عام 2009 كان ملعب الإسماعيلية في المباراة الكبرى مع النادي الأهلي مزينًا بالأعلام الفلسطينية، وفي أعقاب ثورة يناير 2011 كان المناخ السياسي مفتوحًا وحرًّا بشكل أكبر، ما أتاح لروابط المشجعين “الأولتراس” -وهي الروابط الرياضية المسيّسة والتي شاركت في كل أحداث الثورة وفي حصار السفارة الإسرائيلية في مصر واقتحامها عام 2011 – التعبير عن نفسها، وهو الأمر الذي جعل لقضية فلسطين حضورًا أكبر في ملاعب كرة القدم في مصر.
فبينما كان الأهلي والزمالك ندّان لا يجمعهما طريق، كانت جماهيرهما تلتقي دومًا في الدعم لفلسطين، ففي المباريات الأولى في أعقاب ثورة يناير 2011، كان استاد القاهرة شاهدًا على هتاف أولتراس وايت نايتس الزمالكاوي: “ع القدس رايحين.. شهداء يا فلسطين”، وفي إحدى المرات في صالات ألعاب النادي الأهلي قامت رابطة أولتراس أهلاوي بحرق العلم الإسرائيلي.
وربما تعدّ أغنية “حرب نهاية الزمان” لأولتراس وايت نايتس مثالًا جيدًا على ذلك الحضور للقضية الفلسطينية في ميدان الرياضة، حيث يبرز في الأغنية وعي تاريخي بالقضية، وإصرار على مستقبل تكون فيه فلسطين حرة، من خلال تلك الكلمات: “من يوم ما وعيت وأنا بحلم بالتحرير/ أرض الأحرار وترجع فلسطين/ شهداء فى صبره وشتيله ودير ياسين/ بحلم فى يوم نتجمع ونقضي على إسرائيل”.
في الفيديو كليب الخاص بالأغنية تجد تغنّيًا بالمناخ الثوري الذي ساد العالم العربي قبل ثورات عام 2011، حيث ترمز الكلمات إلى مقارنة ما قبل عام 2011 وما بعده: “وقت السكوت كان أيام الكلاب/ كلمتنا واحدة بعد سنين العذاب/ ثورة عربية بعدها نكون أحرار/ ونمسح كل عار ونمحي الاستعمار”.
https://www.youtube.com/watch?v=oWCgaJje3aA&rco=1
الجريمة: علم فلسطين
حين نتقدم بالزمن قليلًا إلى العام 2019، يواجهنا خبر القبض على شاب مصري رفع علم فلسطين في مباراة تواجه فيها منتخب مصر مع نظيره الجنوب أفريقي على استاد القاهرة، حيث لمجرد رفع العلم غير مقترن بأي هتاف جماعي أو تحريض، عُرض الشاب على نيابة أمن الدولة.
لقد مرت مصر في ذلك العقد، 2014-2024، بالعديد من التحولات التي جعلت من رفع علم فلسطين في المدرجات أو الهتاف له جريمة يُعاقب عليها القانون، ونتاج تلك التحولات الأساسي هو موت السياسة وممارستها في المجتمع بشكل كامل، حيث استحوذت السلطة في قبضتها على كل شيء.
وكانت ملاعب كرة القدم متمثلة في روابط الأولتراس، وهم واحدة من أكثر الفئات التي استهدفتها الدولة بشراسة، بدءًا من مذبحة بورسعيد لروابط مشجعي الأهلي وجماهيره، وليس انتهاءً بمذبحة الدفاع الجوي لروابط مشجعي الزمالك وجماهيره. فبدل أن تنبري الأجهزة الأمنية والقضائية للدفاع عن 94 قتيلًا من الشباب والقصاص لهم، انهالت بتشريع قوانين تجعل من روابط الأولتراس جماعة إرهابية محظورة.
بصدور قرار تجريم الأولتراس، أصبحت الكوفية الفلسطينية وعلم فلسطين، بالإضافة إلى شعارات أخرى مثل التيشيرتات التي تخلد ذكرى شهداء الأهلي أو الزمالك، رموزًا ترمز إلى الأولتراس في ملاعب كرة القدم، وبالتالي ترمز إلى الإرهاب، وكان هذا سببًا بديهيًّا يبرر القبض على الشاب صاحب حادثة عام 2019، وسيتبعه آخرون بسبب علم فلسطين.
استطاعت الدولة المصرية أن تضبط ملاعب كرة القدم ضبطًا محكمًا، بداية من خلال منع حضور الجماهير من الأساس لفترة 10 سنوات إلا في استثناءات، وحين عادت الجماهير كانت أعدادها تقطيرًا محكمًا ومضبوطًا بواسطة ما يسمّى بـ”الفان آي دي”، والذي يسجل بيانات المشجع وصورته.
ومن خلال كاميرات الاستاد، وكاميرات مخبري الأمن الذين يخترقون صفوف الجماهير ويضبطون تشجعيهم ويصورونهم، كانت أيدي الدولة تطال حتى المشجعين من بيوتهم وبعد انقضاء المباراة وأحداثها بـ 3 أيام، وهو ما تكرر في القبض على العديد من الشباب في أكثر من مرة، والذين وُجّهت إليهم تهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية محظورة هي “الأولتراس”.
في أعقاب “طوفان الأقصى” عام 2023، سمحت السلطة في مصر بالعديد من مظاهر تنفيس الغضب الشعبي من أجل احتوائه، وكان واحدًا من تلك المظاهر أن سمحت لمسيرات محدودة تخرج في شوارع الجمهورية بانتظام، بل بتنظيم من أحزاب السلطة نفسها، وسمحت لجماهير الأهلي والزمالك الحضور في مباريات كرة القدم بتيشيرتات حداد سوداء والهتاف للقدس وفلسطين.
لكن سرعان ما خرج الأمر عن السيطرة في المسيرات التي كانت دعمًا لفلسطين، وأصبح الهتاف موجّهًا ضد السلطة ومُدينًا لها، فمُنعت المسيرات ومُنعت تيشيرتات الحداد من ملاعب الدوري المصري مرة أخرى، وكانت تلك هي الفترة القصيرة الوحيدة في عهد السلطة الحالية التي سُمح بها لفلسطين أن تحضر في ملاعب كرة القدم.
خطاب المقاطعة من الاحتجاج المستقل إلى المزايدة
في الأيام الأخيرة، خرج عدلي القيعي، رئيس شركة النادي الأهلي، في أحد المؤتمرات الصحفية للتعاقد مع راعٍ جديد، ليدعو جماهير النادي الأهلي إلى شراء منتجات رعاة النادي، لأن ذلك ما يدع هؤلاء الرعاة يزدادون نموًّا ويجلبون غيرهم للرعاية في النادي الأهلي، في الوقت الذي يشتد الحديث فيه عن أهمية المقاطعة والتذكير اليومي بها، كانت كلمات القيعي ضربًا من ضروب الغباء التي ربما تكون ذات أغراض لشقّ الصفوف.
النادي الأهلي المصري هو واحد من أكبر الأندية في العالم العربي، وأكبرها على الإطلاق في مصر، ورغم ذلك يرتبط بعقود رعاية مع شركة كوكا كولا وشركة ليبتون الداعمتَين لـ “إسرائيل”.
السلطة الحالية في مصر تتسلط بواسطة القوة والقهر، وتفتقد الهيمنة الثقافية التي تحدّث عنها غرامشي، من أجل اكتساب تلك الهيمنة حاولت السلطة السيطرة على المشهد الثقافي الذي يؤثر في الجماهير من الرياضة والفن بالطبع.
تمثلت محاولات فرض الهيمنة السلطوية التي تطال الأندية الشعبية، وعلى رأسها النادي الأهلي، في دخول إبراهيم العرجاني راعيًا للنادي الأهلي، وهي الخطوة التي جعلت اسمه شعبيًّا ولمّعت صورته لأن يلعب الدور الذي يلعبه حاليًّا، وهذا سبب حالة كبرى من الجدل والهجوم على النادي الأهلي وجماهيره وضعتهم في حالة رد فعل دفاعي.
فيما بعد، وبعد اندلاع الحرب على غزة، حاوطت العرجاني الاتهامات بأنه يتكسّب من خلال تهريب أهالي قطاع غزة والمتاجرة في أرواحهم وحيواتهم، مقابل الكثير من الدولارات التي يعلم الله وحده كيف يدبرونها، وهي الأموال التي يعيد العرجاني تدويرها في العديد من الشركات والأعمال من بينها رعاية النادي الأهلي.
بسبب كل تلك الأسباب، أصبح النادي الأهلي، وهو نادي الشعب أو “الغلابة” كما يسمّى، موضعًا للاتهام بشراسة في قضية يتبناها بالسليقة أيضًا “الغلابة” كما يتبنون حب أنديتهم الشعبية باختيارهم، في بلد تمثل فيه الأندية الشعبية سرديات موازية لسردية السلطة.
يبدو خطاب السلطة عن فلسطين وتبنيها للقضيه كما تروجه في واد، والشعب في واد آخر، لكن ما يهم السلطة هو فرض القوة وعدم إتاحة الفرصة للخطاب الشعبي المتعاطف شبه الموحد بخصوص فلسطين أن يسيطر، وفي مجتمع يفتقد للثقافة السياسية وممارستها بسبب القهر والاستبداد الذي تعرض له على مدار عقد كامل، أصبح الخطاب الشعبي المتعاطف مع فلسطين مشوهًا كما هو الآن.
لقد كانت حملات المقاطعة للمنتجات الداعمة لـ”إسرائيل” أحد مظاهر الاحتجاج الشعبي الذي لا ينطلق من خطاب السلطة، ويتفادى الاشتباك معها في الوقت نفسه، فهو ليس إضراب عام أو مظاهرة، لكن “المقاطعة” تلك تعرضت لحالة من الانشقاق والمزايدات الأخلاقية الفارغة.
هنا تدخلت دوائر الانتماء الكروية التي أكّدنا عليها فيما سبق، والتي تلعب دورًا هامًّا في المجتمع المصري الحاضر، حتى أن البعض أصبح لا يعرّف عن نفسه إلا بانتمائه لفريق معيّن، ولا يتعرف إلى ذاته ومجتمعه إلا من تشارك ذلك الانتماء.
لا يؤيد كل جماهير النادي الأهلي ناديهم ويبررون له، كما أن تبني جماهير الزمالك للمقاطعة ليس من باب النكاية بالنادي الأهلي وجماهيره أو لمحاولة كسب تفوق أخلاقي زائف. على أن هناك فئتان من الجمهورَين انبرتا إلى معركة من المزايدات الأخلاقية التافهة، لتفريغ الغضب والتنفيس عنه في المساحة الآمنة بعيدًا عن الصدام المباشر مع السلطة.
لقد جعلت حالة موت السياسة في مصر من الخطاب الشعبي القوي عن المقاطعة خطابًا هشًّا، كادت أن تكسره معركة بين جمهورَين كانا يختلفان دائمًا ويلتقيان عند فلسطين، فبدلًا من أن الجدل كان يدور بشكل يومي عمّا وصلت إليه الأحوال في فلسطين وعن الاستمرار في دعم المقاطعة، فجأة أصبح معركة للتسامي الأخلاقي وسؤال عن مَن منا فلسطيني أكثر من الآخر.