أصدرت دار “إليوت آند تومبسون” البريطانية، عام 2015، كتابًا من شأنه أن يتربع قوائم الكتب الأكثر مبيعًا في العقد الأخير، سنة بعد أخرى، وهو كتاب “سجناء الجغرافيا: عشر خرائط تخبرك كل ما تحتاج إلى معرفته عن السياسة الدولية”، تأليف الصحفي البريطاني تيم مارشال، الذي عمل مراسلًا حربيًا في تغطية العديد من حروب نهاية القرن العشرين الساخن. كان هذا الكتاب أول جزء من سلسلة كتب تحاول قراءة التاريخ على ضوء الجغرافيا.
نظرًا إلى أن مارشال حاول في كتابه أن يقرأ التاريخ من زاوية تتفاعل فيها الجغرافيا والسياسة الدولية، وكيف تؤثر الأولى على الثانية وتشكّل محددات الطريقة التي تتحرك فيها في السياسة الخارجية من خلال الحروب أو الأحلاف والقاعدات العسكرية، لتحقق أمنها وازدهارها الداخليَّين في المقام الأول.
حقق الكتاب شهرة واسعة، خاصة في السنتَين الأخيرتَين بسبب احتوائه على بعض الإنذارات بشأن الحرب التي ستندلع حتمًا بين روسيا وجارتها أوكرانيا، وكان الكتاب مشهورًا من قبل بسبب أن تلك الزاوية الجغرافية المملّة والاختصاصية لا يتم تناولها كثيرًا بشكل يجعلها سهلة في مخاطبة القارئ غير المتخصص.
وقد وجد الكتاب طريقه أخيرًا إلى اللغة العربية عام 2023، حين ترجمه الأخوان الليبيان أنس ويونس محجوب، ونُشر من خلال دار “صفحة 7” السعودية، والتي تأسّست عام 2018 لتغزو سوق النشر الأدبي العربي في أعقاب صعود ولي العهد محمد بن سلمان وطموحه بتغيير المشهد الثقافي في بلاده، لكن وفقًا لشروط معيّنة.
فازت ترجمة الكتاب بمنحة “مبادرة ترجم”، والتي أطلقتها هيئة الأدب والنشر والترجمة عام 2020، وهي الهيئة التي تأسست في السنة نفسها كذلك، وتهدف المبادرة، حسب تعريفها لنفسها، إلى إثراء المحتوى العربي بالكتب الهامة ذات القيمة العلمية والأدبية.
على أن ترجمة “سجناء الجغرافيا” شهدت خيانة المترجمين للنص الأصلي ومؤلف الكتاب، وهو ما نستعرضه تفصيلًا في هذا التقرير.
الغضب والتعتيم
رغم أهميته، يحتوي كتاب “سجناء الجغرافيا” على قدر لا بأس به من قراءة التاريخ بسمة تنتشر في الأكاديميا الغربية، وهي المركزية الأوروبية، وتلك السمة تصبح نقطة ضعف حين يتم تناول الكتاب وقراءته من غير الغربيين الذين يجدون أنفسهم في تلك الأدبيات كـ”أغيار” و”همج” و”بدائيين”، والكثير من الألفاظ التي تصنفهم في نظرة مانوية للعلم كصراع بين الخير الذي يمثله الغرب (أمريكا – الناتو – الاستعمار)، والشر الذي يمثله بقية العالم، والشرقي خصوصًا (روسيا – الصين – الشرق الأوسط – المسلمون).
وفي مقدمته النقدية الهامة والمفتاحية لقراءة الكتاب للقارئ العربي تحديدًا، كان الأستاذ عبد المنعم محجوب، الباحث والفيلسوف اللغوي الليبي، وهو مراجع للترجمة ومحرر للكتاب، نابهًا لتلك الطريقة والصور النمطية التي تقدَّم لشعوب وأحداث من التاريخ وحذّر منها كثيرًا، وقد وصفه في مواضع كثيرة بأنه “أحادي” و”انتقائي” و”يدور في فلك الاستراتيجية القديمة”، وهو محقّ في ذلك.
مقدمة عبد المنعم الممتلئة بالغضب والادّعاء بأنه رغم ذلك كله تركوا له النص كما هو لأنهم أمناء، ربما لا يعدو كونه في النهاية أكثر من زوبعة في فنجان صُنعت خصيصًا للتعتيم على الجريمة التي اُرتكبت بحقّ النص الأصلي
حيث كتب قائلًا: “هذا الكتاب لا يخلو من الجدية، والمتعة أيضًا، إذا استثنينا بعضًا ممّا يعمد المؤلف إلى إقحامه من رؤى أحادية، وتفسيرات موجهة، أو ممّا يغفله في أحيان كثيرة من حقائق واقعية كان لها دور كبير في تأثيث المشهد العالمي الحالي. باختصار، فإننا قد نتفق غالبًا مع تيم مارشال في ما يذكره من معطيات مسبقة، ولكننا سنختلف معه، في أكثر من موقع”.
وقد شدد كثيرًا على أن بعض الألفاظ والرؤى قد تُركت كما هي واردة في النص الأصلي، مراعاة ووفاء للترجمة وأخلاقياتها ولحق الكاتب، خاصة حينما يعبّر الكاتب عن نكبة الفلسطينيين والمسلمين في باكستان بمصطلح “فرّوا (Fled)”، وبما فيه من جبن وتقهقهر كأنه تقهقهر الغاصب المعتدي، بدلًا من استخدام مصطلحات أكثر موضوعية تصف التهجير واغتصاب الأراضي والحقوق. لكن تلك الأمانة لم تكن للأسف مستخدمة في مواضع أخرى من الكتاب.
إن مقدمة عبد المنعم الممتلئة بالغضب، وهوامش المترجمين الممتلئة بالغضب والاشتباك مع الكاتب الذي يصل إلى الشخصنة واتهامه بالحقد الدفين في بعض الأحيان، والادّعاء بأنه رغم ذلك كله تركوا له النص كما هو لأنهم أمناء، ربما لا يعدو كونه في النهاية أكثر من زوبعة في فنجان صُنعت خصيصًا للتعتيم على الجريمة التي اُرتكبت بحقّ النص الأصلي، ولإنكار تهمة لم تتوجه إليهم بعد.
التاريخ مجرد كلمات
يأتي الكتاب في 10 فصول تناقش على التوالي تلك الخرائط: روسيا – الصين – الولايات المتحدة – أوروبا الغربية – أفريقيا – الشرق الأوسط – الهند وباكستان – كوريا واليابان – أمريكا الجنوبية – القطب الشمالي.
ما يلاحظه القارئ أثناء قراءة فصول الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية تقريبًا، هو تواري ذكر المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي والإمارات العربية المتحدة، كأنها لم تكن لاعبًا أساسيًّا على مسرح السياسة في الشرق الأوسط في القرن العشرين ولحدّ اللحظة، وكأنها لم تكن من أصدقاء والحلفاء الاستراتيجيين للولايات المتحدة الأمريكية.
في النسخة الأصلية الإنجليزية من الكتاب، ذُكرت المملكة العربية السعودية في 13 موضعًا مختلفًا، أغلبها في الفصل الخاص بالشرق الأوسط طبعًا، بينما ذُكرت في النص العربي المترجم 4 مرات. ووراء هذا الاختلاف في العدد، لا بدَّ أن يستنتج القارئ أن هناك سياقًا كاملًا في الكتاب قد اختلَّ عرضه وتم طمسه عمدًا ليؤثر على وجهة نظر الكاتب التي تريد دار النشر المترجمة أن توصلها إلى القارئ. فما هي تلك الأحداث التي تم طمسها إذًا؟
هنا مقارنة بسيطة، في الصفحة 250 من النسخة العربية من الكتاب يتحدث الكاتب قائلًا: “هناك فروع مختلفة من الإسلام السنّي تتبع علماء كبارًا من الماضي، بما في ذلك المذهب الحنبلي الصارم الذي سُمّي باسم عالم القرن التاسع العراقي أحمد بن حنبل، وهو مفضل لدى العديد من السنّة، وقد أثّر هذا بدوره على الفكر السلفي المتشدد الذي يسود بين الجهاديين”، بينما تسرد تلك الفقرة الفكر الحنبلي في الدول الإسلامية السنيّة بعمومية شديدة.
فتجد أن الكاتب في النسخة الإنجليزية كان موضحًا لتلك الدول بالتحديد إذ ترد العبارة في صفحة 112 كالآتي: “وهذا المذهب مفضل لدى العديد من السنة في الوطن العربي مثل دولتيّ: قطر والسعودية، وقد أثر هذا بدوره على الفكر السلفي المتشدد الذي يسود بين الجهاديين”.
في موضع آخر من الكتاب في الصفحة 255 من النسخة العربية، يتحدث الكاتب عن “المملكة الهاشمية، الاسم الذي تُعرف به الأردن، هي مكان آخر تم اقتطاعه من الصحراء من قبل البريطانيين الذين كان لديهم عام 1918 الكثير من الأرض لإدارتها والعديد من المشاكل لحلها. وقد أطلق البريطانيون المتمسكون بالتصنيفات الإدارية على هذه المنطقة اسم “شرق الأردن”، أي الجانب الآخر من نهر الأردن”.
في تلك الفقرة الطويلة، هناك فقرة صغيرة تم اقتطاعها من المنتصف، وهي في النسخة الإنجليزية صفحة 116 تتحدث عن “العديد من القبائل العربية قد ساعدت البريطانيين في حربهم ضد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، لكن كان هناك بالتحديد اثنان قد وعدتهما لندن بالجائزة، وهي التحكم بشبه الجزيرة العربية كاملة، هما الهاشميون والسعوديون، لكن حاربا بعضهما في النهاية، وكان هذا الموقف محرجًا للندن التي جاءت بالخرائط ورسمت بعض الخطوط، وتقاسم الاثنان المنطقة بارتباطهما بالوساطة الدبلوماسية للندن لمراعاة الأمور بينهما. سرعان ما سمّى القائد السعودي تلك المنطقة على اسمه، والتي أصبحت تعرف كما نعرفها الآن “السعودية””.
وفي الحديث عن سوريا وحربها، يغيّر المترجم من بنيان النص أساسًا، والذي يتحدث عن تركيا وهزيمتها لتنظيم الدولة الإسلامية في شمال البلاد عام 2015، وتوجيهها بعض الضربات للأكراد وذلك في الصفحة 120 من النسخة الإنجليزية من الكتاب، والتي لا تذكر أصلًا في النسخة العربية، بينما يذكر تذييل تلك الفقرة في النسخة الإنجليزية مع التلاعب به في النسخة العربية.
ففي الصفحة 262 من النسخة المترجمة، يقول الكاتب: “أصبحت سوريا، مثل لبنان، مكانًا تستخدمه القوى الخارجية لتحقيق أهدافها الخاصة، فروسيا وإيران وحزب الله اللبناني يدعمون قوات الحكومة السورية، بينما دول عربية مختلفة تدعم مجموعات المعارضة المختلفة لتحقيق أهدافها”. تلك الدول العربية المختلفة يذكرها الكاتب في النسخة الإنجليزية نصًّا: “السعوديون والقطريون على سبيل المثال، كل منهما يدعم وكلاء مختلفين لتحقيق أهدافه الخاصة”.
في الصفحة 271 من النسخة العربية، تذكر إحدى الفقرات الآتي: “تواجه معظم دول المنطقة نسختها الخاصة من هذا الصراع بين الأجيال بدرجة أكبر أو أقل، مثال ذلك أنها سيطرت على خلايا القاعدة على مدى العقد الماضي، لكن بعد تفكيك معظمها، فإنها الآن تواجه تحديات متجددة من الجيل القادم من الجهاديين، بالإضافة إلى انفجار مشكلة في اليمن التي تشهد أحداثًا مليئة بالعنف والحركات الانفصالية دون أن تخلو من عنصر جهادي قوي”.
في الصفحة 124 من النسخة الإنجليزية نجد أن مثيلة تلك الفقرة تحتوي على جملة: “على سبيل المثال: السعودية”، وهو توضيح غير موجود في النسخة العربية لدول المنطقة المذكورة أعلاه.
في الصفحة 285 من النسخة العربية المترجمة، يتحدث تيم مارشال عن الحرب العربية الباردة بين إيران والسعودية، وتلك الحرب التي لم يكن يمكن تجاهلها في الترجمة لأنها تحظى بمتن طويل في النسخة الأصلية، تم التأثير على ترجمتها لفظيًّا، بشكل مضحك أحيانًا يصل إلى درجة أن يتجاهل المترجم التعداد السكاني، كالآتي: “إن المملكة السعودية أكبر من إيران، وأكثر ثراءً منها بعدة أضعاف، نظرًا إلى ما لديها من صناعات متقدمة جدًّا في النفط والغاز، وقد تنتهي علاقتهما إلى المواجهة إذا اشتدت الحرب الباردة بينهما”.
أما ما حُذف من تلك الفقرة في النسخة الإنجليزية هو كالآتي: “إن المملكة السعودية أكبر من إيران، وأكثر ثراءً منها بعدة أضعاف نظرًا إلى ما لديها من صناعات متقدمة جدًّا في النفط والغاز، لكن بنسبة تعداد سكانية أصغر تبلغ 28 مليونًا مقابل 78 مليونًا، كما أن القوات المسلحة ليست قوية ولا واثقة بما فيه الكفاية للتقدم إلى جارتها الفارسية، لو أصبحت الحرب الباردة أكثر سخونة وانتهى الطرفان إلى أن يتواجها”. يجب أن نلاحظ أن هناك 10 سنين فارق قد تغير فيها التعداد السكاني بالطبع.
وفي هذه المرة هناك سياق للإضافة وليس الحذف كالعادة، فتباعًا للفقرة الماضية يضيف المترجم من عنده ما ليس موجودًا في الكتاب من الأساس في فقرة عن حرب اليمن “الأهلية”، التي تواجه فيها إيران السعودية بواسطة الحوثيين بينما تقود السعودية تحالفًا عربيًّا.
تخدم تلك الترجمة السردية السعودية الجديدة والصورة التي تريد أن تراها عن نفسها، فالماضي الذي ضاع في دعم الجهاديين كأنه لم يحدث، وتأبى الاعتراف بوجود أفكار متطرفة وجهادية داخل المجتمع، وتنكر أن للسعودية دورًا إقليميًّا مدمّرًا في عدد من الدول العربية، كما أنها تتجاهل كون الدولة صناعة بريطانية بالأساس، وتطمس ضعفها الديموغرافي في مواجهة أكبر أعدائها في المنطقة، وكل ذلك عن طريق ترجمة كتاب لا داعي فيه للبروباغاندا الفجّة على الإطلاق.