تعيش مدينة زاكورة الصحراوية في المملكة المغربية، هذه الأيام، على وقع فعاليات الدورة الخامسة من المهرجان الدولي للحكاية والفنون الشعبية، تحت شعار “حكايات أفريقيا”. مهرجان، ترجع في أيامه الأربعة الحياة إلى أرجاء المدينة، التي تتعايش فيها الأعراق الأمازيغية والعربية والسمراء في انسجام بشكل ساحر وبديع قّل مثيله، وخلاله يرجع بريق “فن الحكاية” المفقود في المملكة.
عروض فردية وجماعية للحكاية
أمس الخميس، انطلقت فعاليات المهرجان التي تستمر إلى غاية الـ 24 من الشهر الحالي، وخلالها تستضيف مدينة زاكورة، حكواتيين وفرقاً فنية من المملكة ودول أفريقية كثيرة، بينها مصر، والكونغو، وتشاد، والكاميرون، والسنغال، وجنوب السودان، وكوت ديفوار، والكونغو برازافيل، وبوركينا فاسو.
ويتضمن برنامج التظاهرة إلقاء عروض فردية وجماعية للحكاية، وتنظيم عروض الفنون الشعبية، بالإضافة إلى عروض مسرحية وفقرات احتفالية خاصة بالأطفال، لتشجيعهم على الخلق والإبداع، وورشات للتعبير الجسدي وفنون القول، في دور الشباب ودور الطالبات، والسجن المحلي بالمدينة.
تمتلك هذه المدينة غزارة وتنوعاً وتعدداً هائلاً في روافدها الثقافية، بين ما هو إفريقي وعربي وأمازيغي
ويهدف هذا المهرجان الدولي، إلى استعادة ما سلب من الناس وما طمس على مستوى “فن الحكاية”، وجعلها تعيش في الحاضر بكل أبعاده وأعماقه، ومن خلالها يتحادثون مع أناس عاشوا من قبلهم قبل ألف سنة أو ألفين، وأيضا مع أناس يعيشون في المستقبل، حسب القائمين عليه.
وتقع مدينة زاكورة التي تحتضن فعاليات المهرجان، جنوب المغرب، وتعرف هذه المدينة بطيبة أهلها ورحابة صدرهم، والقناعة التي زيّنت وجوهم السمراء، وجمال كثبانها الرملية الصفراء الممتدّة على مدّ البصر، ونخليها الشاهقة الباسقة، وتراثها الضارب في التاريخ، وكبريائها الذي اكتسبته رغم قساوة الطبيعة.
وتمتلك هذه المدينة غزارة وتنوعاً وتعدداً هائلاً في روافدها الثقافية، بين ما هو إفريقي وعربي وأمازيغي، ففيها تتعايش الأعراق الأمازيغية والعربية والسمراء في انسجام بشكل ساحر ما يجعل هذا المهرجان صورة لهذا التنوع الذي قلّ مثيله.
خزّان للعادات والتقاليد والقيم
تعتبر الحكاية المغربية خزان للعادات والتقاليد والقيم، وهي عبارة عن أرشيف يتضمن طرق عيش الأجيال السابقة وتفاعلهم مع محيطهم الطبيعي كالحيوانات والأشجار والماء ومع الظواهر الكونية كما تخبر عن نوعية العلاقات بين الأشخاص، وعن أنواع المأكولات والألبسة والأثاث ومساكن مختلف الفئات الاجتماعية، بالإضافة إلى أنها تهذب الصغار وتجيب عن تساؤلاتهم الوجودية.
يجتمع الأهالي حول الحكواتي لسماع الحكاية
وتزخر المملكة المغربية، بالعديد من أشكال التعبير القديمة، نظراً لتنوعها الثقافي والحضاري واللغوي، حيث إن الثقافات والتعبيرات تتنوع وتتمايز بتنوع جغرافيا المغرب، ويعدّ الفنّ الحكائي واحداً من هذه الأشكال التعبيرية القديمة التي برع المغاربة فيها منذ القدم، حيث يشكل فن “الحلقة” الذي ترعرع في الأعراس والأسواق والساحات الشعبية بالمغرب متنفساً أساسياً.
تراجع فن الحكاية في المملكة
هذا المهرجان يسعى من خلاله القائمون عليه، إلى إحياء التراث المغربي الشفهي المرتبط بفن الحكاية، وتشجيع الإبداعات الحكائية، والاهتمام بالطاقات الجديدة في هذا المجال غير المطروق كثيراً في الثقافات العربية الراهنة.
ظلت الحلقة لعقود طويلة عنوان انتماء جماعي لذاكرة مشتركة تقاسمها أجيال من المغاربة
ويعيش فن الحكاية بالمغرب في الفترة الأخيرة تراجعا كبيرا، بعد أن كانت المملكة من رواد هذا الصنف الإبداعي في العالم العربي، من خلال نجوم السرد الحكائي، الذين كانوا يملؤون الساحات الشعبية بالكثير من المدن بقصصهم وحكاياتهم المشوقة، من قبيل ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش، وساحة الهديم في مدينة مكناس وساحة بوجلود في فاس. وفي مايو 2001، أعلنت منظمة اليونيسكو، أن الأعمال الفنية التي يحفل بها جامع الفنا “عملا رائعا من الأعمال المشكلة للتراث الشفهي، اللامادي، للإنسانية”.
وبرزت عديد الأسماء المغربية في مجال الحكايات الشعبية التي فاقت شهرتهم المجال المحلي، مثل حالة محمد باريز عميد حكائيي المغرب، وبات “فن الحكاية” ينحسر في ساحات عمومية قليلة بالمدن المغربية يصمد فيها ما يسمى بفن “الحلقة” الذي يتحلق فيه الناس حول راو يحصل رزقه بقص روايات شعبية تراثية مشوقة وناطقة بالحكم والدروس.
وظلت “الحلقة” لعقود طويلة عنوان انتماء جماعي لذاكرة مشتركة تقاسمها أجيال من المغاربة، بل وحاولت نخبة من الطليعة المثقفة، أن تستلهم تجربتها وآلياتها في إبداعات مسرحية تتوخى بعث الحياة في شكل فرجوي خصب لا يخلو من عناصر التعبير المسرحي والتفاعل الوجداني والعقلي والتجربة الإنسانية الثرية والإبداعية الفطرية.
رغم أن هذا الفنّ بات يختفي يوما بعد يوم، مازال للحكواتي سـحر غريب بسبب قدرته على استعادة شخصيات تاريخية يبعث فيها الحياة من خلال أسلوبه في الإلقاء وحركات يديه وتعبيرات وجهه. وتتطلّب مهنة الحكواتي حفظ العديد من النصوص والقدرة على جذب الجمهور والحفاظ عليه لفترة من الزمن.