مباشرة إثر إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، عن فوز المدّون المستقل ياسين العياري في الانتخابات الجزئية المقامة في دائرة ألمانيا، وخسارة حركة “نداء تونس” مقعدها البرلماني هناك، رجع الحديث في هذا البلد العربي عن سياسة التوافق السياسي المتبعة في البلاد منذ أربع سنوات، خاصة مع اعلان “النداء” عزمه القيام بـ ” بمراجعة علاقته مع بعض الأطراف السياسية”، في إشارة إلى «النهضة» الإسلامية، فهل يمكن لـ “النداء” انهاء التوافق السياسي، أم أن هذه التصريحات مجرّد كلام للاستهلاك الداخلي؟
تهديد بفكّ الارتباط
حديث حزب “نداء تونس” العلماني في بيانه الاخير الصادر عقب الاعلان عن نتائج الانتخابات الجزئية في ألمانيا، عن عزمه مراجعة علاقته مع بعض الأطراف السياسية، اعتبره كثير من المراقبين تهديدا صريحا بإمكانية فضّ هذا الحزب الذي يقود الائتلاف الحاكم في تونس شراكته مع حركة النهضة ذات الأغلبية البرلمانية في البلاد، خاصة وأن عديد القيادات الحزبية لـ “النداء” حمّلت “النهضة” مسؤولية خسارتها.
ولئن لم يحمل بيان الحزب اسم “حركة النهضة”، فقد تكفّل المكلف بالملفات السياسية في حزب “النداء” برهان بسيّس، بذلك، حيث قال في تصريحات إذاعية، الثلاثاء، إن “حزب نداء تونس يتّجه إلى مراجعة علاقته السياسيّة مع حركة النهضة”، مشدّدا على “رفض حزبه تكرار مثل هذه التجربة الفاشلة في الانتخابات المقبلة”.
تتعلق هذه الانتخابات الجزئية بدائرة ألمانيا التي انتهت، الأحد، بانتخاب نائب جديد بمجلس نواب الشعب خلفا للنائب عن “نداء تونس” حاتم الفرجاني
وأكّد بسيّس أنّ “كثيرًا من الأصوات داخل الحزب أصبحت غير راضية عن الاستمرار في التحالف مع حركة النهضة، وباتت ترى أنّ العلاقة السياسية القائمة مع النهضة أضرّت كثيرًا بالحزب وببرنامجه وبحضوره في المشهد السياسي؛ ما يفسّر نتيجة الانتخابات الجزئية في ألمانيا.”
وأردف قائلًا، “نحن لسنا مستعدّين لتكرار مثل هذه التجربة في الانتخابات المقبلة”، مضيفًا “لا يمكن أن نستمرّ في هذا الوضع، لنجد خلال الانتخابات المقبلة القاعدة الواسعة لحركة النهضة تصوّت مثلًا لرئيس حزب حراك تونس الإرادة، أو الرئيس السابق المنصف المرزوقي”.
وأظهرت نتائج الانتخابات التشريعية الجزئية التونسية في دائرة ألمانيا التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، مساء الأحد، فوز مرشح قائمة “الأمل” المستقلة ياسين العياري (284 صوت) على بقية المرشحين وخاصة مرشح حركة نداء تونس (235 صوت) الذي نادت حركة النهضة بالتصويت له.
وتتعلق هذه الانتخابات الجزئية بدائرة ألمانيا التي انتهت، الأحد، بانتخاب نائب جديد بمجلس نواب الشعب خلفا للنائب عن “نداء تونس” حاتم الفرجاني الذي تم تعيينه في منصب كاتب دولة لدى وزير الشؤون الخارجية مكلفا بالدبلوماسية الاقتصادية.
مراهقة سياسية
حديث بعض قيادات “نداء تونس”، عن مراجعات منتظر لعلاقة حزبهم مع حركة “النهضة” وتهديدهم بفكّ الارتباط معها، اعتبره القيادي في “النداء” والمسؤول عن هياكل الحزب في الخارج رؤوف الخماسي مجرّد “مراهقة سياسية”.وانتقد الخماسي بشدّة، في تدوينة له على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ردود فعل من وصفهم بـ “الوافدين الجدد” على حزب “النداء”، معتبراً أنّها “لا تخدم إلّا أجندة الفوضويين وأعداء نداء تونس وتعرّض أمننا القومي للخطر بزج بلادنا في أزمة حكم لا مبرّر لها”.
تعدّدت في الفترة الأخيرة الاجتماعات التشاوية بين الحزبين
واعتبر القيادي في الحركة أن “تحميل التوافق الوطني مسؤوليّة النتيجة التي حصل عليها النداء مدعاة للسخرية، لأنّ الأطراف المعروفة بمعاداتها لهذا التوجّه حصلت على نتائج أقلّ من النتيجة التي حصل عليها النداء”، مُحذراً حزبه من “المواقف التي يمكن أن تحدث بلبلة لدى الرأي العام وتستدرج الأحزاب لمغامرات سياسيّة غير محسوبة العواقب“. وجدير بالذكر أن حركة النهضة لم تقدّم مرشحا عنها لخوض الانتخابات الجزئية لدائرة ألمانيا وقالت إنها “غير معنية” بها حفاظا على نهج التوافق الذي تسير عليه من خلال تعاملها مع شريكها في الحكم حركة نداء تونس، مؤكدة في المقابل أنها تدعم مرشح نداء تونس.
تصريحات موجّهة إلى الداخل
لئن اعتبر القيادي في “النداء” رؤوف الخماسي هذه التصريحات المتتالية لقيادات حزبه “مراهقة سياسية”، فقد اعتبره عديد المراقبين مجرّد تصريحات تهدف إلى تخفيف الاحتقان لدى أنصار الحزب الغاضبين من التحالف مع حركة “النهضة”.
ويذهب محلّلون سياسيين في تونس إلى اعتبار تصريحان بسيس وغيره من قيادات “النداء” التي تروّج لفرضية فك الشراكة مع حركة “النهضة” الاسلامية لا تعدوا أن تكون إلا تصريحات معدّة للاستهلاك الداخلي فقط، وهم يعلمون انه لا قيمة لها في ظل الظروف الحالية للبلاد.
صعوبة فكّ الارتباط
يرى عديد المتابعين للشأن السياسي في تونس، صعوبة انهاء التوافق السياسي في البلاد، وفكّ الارتباط بين حركتي “النهضة” و”النداء” في الوقت الحالي، فلا “النهضة” ولا “النداء” يمكنه بسهولة استبدال شريكه لاستكمال أغلبيته والحكم بمفرده دون وجود الطرف الأخر معه.
فالحزبين يعلمان يقينا أن ما يربطهما حاليا بمثابة التلازم الوجودي المتبادل، المفروض عليهما من الخارج، فلا الشقيقة الجزائر يساعدها أن تتوتر العلاقة بين الطرفين ولا الاتحاد الأوروبي يرضى بذلك، ولا الولايات المتحدة الأمريكية أيضا، ولا الصناديق الدولية المانحة كذلك.
كثيرًا ما يؤكد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، أن التوافق سيستمر في تونس ولا بديل عنه ولا أحد قادر على أن يحكم وحده أو أن يقصي الآخر
وساهم توفر بعض الشروط في المحيطين الإقليمي والدولي في السير بهذه التجربة نحو الأمام لأن البديل كان مزيدًا من تعميق أزمة الدولة والدفع بها إن لم يكن نحو الفوضى مباشرة فنحو الفشل الذي سيقود نحو الفوضى التي تسعى لها خاصة بعض الأطراف الإقليمية التي يحرجها نجاح التجربة التونسية.
وكثيرًا ما يؤكد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، أن التوافق سيستمر في تونس ولا بديل عنه ولا أحد قادر على أن يحكم وحده أو أن يقصي الآخر، في إشارة إلى جهود بعض الأحزاب التونسية في تشكيل جبهات فيما بينها لإقصاء حركة النهضة وإبعادها عن الحكم والدولة.
درجات متقدّمة
رغم ما عرفه التوافق السياسي بين حركتي “النهضة” و”النداء” من ارتدادات كثيرة، فقد وصل إلى درجات متقدّمة، حتى إنه وصل حد حصول زعيمي الحركتين، الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، على جائزة السلام لسنة 2015 المقدمة من طرف مجموعة الأزمات الدولية، وعزم الحزبين تشكيل ترويكا جديدة إلى جانب حزب الاتحاد الوطني الحرّ، لدعم الحكومة التي جنّب تشكيلها البلاد الانفلات الاجتماعي والأمني.
ويعد التوافق السياسي في تونس “أحد أهم مقومات الصمود أمام محاولات الانفلات بالوضع الاجتماعي والأمني في البلاد”، حسب تصريح سابق لأستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية هاني مبارك، لنون بوست”، الذي أكّد أيضا أن “هذا التوافق أغلق مساحات كبرى من الفراغات التي كان يمكن للانفلات النفاذ من خلالها حيث ضيق من هوامش المناورة من قبل الأطراف وسد منافذ التلاعب على المتناقضات“.
اللقاء الأول بين السبسي والغنوشي في باريس
ويعتبر “اجتماع باريس” في أغسطس 2013 البداية الفعلية للتوافق السياسي بين حركتي النهضة ونداء تونس، حيث جمع اللقاء بين زعيمي الحركتين راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، بعد فترة من الشتائم والاتهامات المتبادلة، ونتج عن التوافق الحاصل بين النهضة ونداء تونس، وهما الحزبان الأولان من حيث عدد نواب البرلمان التونسي، تعايش سياسي قلل من احتمال التأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني في تونس.
واعتبر راشد الغنوشي أن التوافق مع نداء تونس كان اضطراريًا وبراغماتيًا رغم الخصام السياسي بين الطرفين، وأملته مصلحة البلاد، خاصة أن الطرفين مقتنعان بأن التوافق سياسي لا عقائدي، حسب قوله، فيما برر الباجي قائد السبسي انتهاجه التوافق مع النهضة، لأنصاره ولمن انتخبوه وانتخبوا حزبه تحت عنوان “الانتخاب المفيد” أو “الانتخاب العقابي” بأنه يحترم خيار الشعب التونسي الذي وضع حركة النهضة في المرتبة الثانية.
وأكد حضور راشد الغنوشي فعاليات مؤتمر نداء تونس ومشاركة الباجي قائد السبسي، في افتتاح المؤتمر العاشر لحركة النهضة إحدى تجليات هذا التوافق بين الحزبين. ورغم الاستقرار الهش الذي نتج عن هذا التوافق، فإنه يبقى مرهونًا بتجليات مستقبل قريب قد يعاد فيه رسم الخارطة السياسية التونسية ومراجعة صيغ الائتلاف الراهنة باتجاه تشكيل تحالفات جديدة.