الجغرافيا دليل لا يقبل التأويل على نمو الإنسان وبلوغه، بل دليل على نمو الحضارات كذلك، لا سيما إن كانت مبنية على كتب الرحالة المرتحلين من شرق البلاد إلى غربها، لقد بُني المجسم الأول للكرة الأرضية على يد رحالة في المقام الأول، كان يُدعى الإدريسي، الرحالة العربي مؤسس علم الجغرافيا، لقد وجد الرحالة العرب الترحال فرصة لإبراز جوانبهم الإنسانية أيضًا و فرصة لانعكاس تصوراتهم لكل ما يرونه، إلا أن الوضع لم يستمر كذلك كثيرًا.
لا يُذكر أدب الرحلات إلا ويُذكر معه ابن بطوطة، الملقب بأمير رحالة المسلمين، لقد ارتحل من شرق البلاد إلى غربها، وهو الرحالة الذي كتب عن أغلب بلاد العالم في كتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار”، لقد كان غرض ابن بطوطة في هذا الكتاب وصف جميع الأمصار التي حل بها، ليصف كل ما رآه من معمار وصفًا دقيقًا حتى يظن القارئ أنه شاهدها بالفعل، ولم يكتف بهذا بل وصف أهل البلاد التي حل بها وصفًا بارعًا وروى الحكايات التي عاشها معهم كذلك.
لقد كان أدب الرحلة علامة قوة وهيمنة فيما قبل، إلا أنه الآن تحول إلى علامة انكسار وهزيمة وهروب، لقد تحول أدب الرحلة في الأدب العربي المعاصر إلى أدب الهجرة
لقد كان الترحال والتنقل والهجرة من أهم تشكيل الشخصية العربية في الماضي، وهذا ما انعكس على الأدب العربي في تلك المرحلة من الزمان، لقد ألف العرب الترحال والهجرة، وخصوصًا المسلمون، حيث استمدوا ذلك من كينونة الدين الإسلامي الذي بدأ بالهجرة حينما سُمي المسلمون بالمهاجرين مقابل الأنصار.
من هنا كان أدب الرحلة علامة مميزة للأدب العربي القديم منذ العصر الأموي، حيث كان أدبًا أنثروبولوجيًا، بدأ مع امتداد فضاء الإمبراطورية الإسلامية، حيث مكننا ذلك النسق التاريخي من قراءة رحلات “ابن بطوطة” و “أحمد بن فضلان” في رحلاته إلى بلاد الروس والترك، ورحلات “ليون الإفريقي” الذي كان أول من وصف قارة إفريقيا كاملة.
من أدب الترحال إلى أدب المهجر
لقد كان أدب الرحلة علامة قوة وهيمنة فيما قبل، إلا أنه الآن تحول إلى علامة انكسار وهزيمة وهروب، لقد تحول أدب الرحلة في الأدب العربي المعاصر إلى أدب الهجرة، واقترن بشيء آخر لم يألفه أدب الرحلة من قبل، حيث اقترن بالانكسار والضعف، بعدما صارت الهجرة قسرية و جماعية و هروبًا من الاستعمار.
ظهر أدب المهجر في بداية القرن العشرين، بعدما احتل المستعمر بقاع كثيرة من العالم النامي، حينها اضطر الأغلبية إلى اللجوء والهجرة، حيث تعرضت الكثير من الجماعات العربية للتهجير القسري نتيجة للتمييز العرقي أو الديني، حينها هاجر الكثير من الكتاب العرب إلى بلاد الغرب أو إلى الولايات المتحدة أو روسيا، ليسجلوا تجاربهم مع المنفى.
غدا “فكر المنفى” مفهومًا فلسفيًا لدى كتاب الأدب العربي المعاصر، ينظر من خلاله الكاتب للعالم بمنظور مختلف، يُخيم عليه الهزيمة والانكسار وحلم العودة، يتخلله صراعات وجودية لا حد لها، منها صراع الثقافات و صراع الهوية، وصراع الحضارات والأديان، كان دافعها الحياة اليومية في المدن الغربية.
لقد ألف أدب المهجر في الأدب العربي المعاصر شيئًا لم يوجد قط في أدب الرحلة، لقد كان أدباء الترحال متمسكين بجذورهم وقيمهم الأصلية، ناظرين من خلالها لكل ما يمرون به من ثقافات و بلدان مختلفة، حيث كانت تلك القيم بمثابة منظورهم الأساسي في التفاعلات الثقافية بين البشر، إلا أن أدب المهجر أو أدب المنفى كان على النقيض بعض الشيء، إذ اكتفى بعض الأدباء بالحنين لتلك الجذور، بل كانت سببًا يؤرقهم في منامهم في تلك البلاد الغربية، حيث كانت سمة أدب المنفى هي الاقتلاع واللاتجذّر من أي أرض.
غدا “فكر المنفى” مفهومًا فلسفيًا لدى كتاب الأدب العربي المعاصر، ينظر من خلاله الكاتب للعالم بمنظور مختلف
لقد تحدث أدباء مثل الكاتب الفلسطيني “إدوارد سعيد” و “حسين البرغوثي” عن الإقامة القسرية والسفر القسري في كتبهم، حيث ظهر في “أدب المنفى” إنسانًا عربيًا جديدًا يشمئز من كل ثبات واستقرار وانصهار في انتماء واحد، ليكون الإنسان العربي شديد الحرص على الاهتمام بصراعه مع الهوية، حيث يشير إلى ذلك الكاتب الفلسطيني “حسين البرغوثي” في إحدى كتب “أدب المنفى” بعنوان “سأعيش بين اللوز” قائلًا: “عندما يفقد أحد ماضيه تماما ، تستطيع أن تصنع بمستقبله ما تشاء ، لأنه قد فقد ” ظله” الممتد في التاريخ .”
الأدب السوري: أدب المنفى والمهجر والسجن
إحدى روايات المنفى والسجن في سوريا
أدب المنفى أو أدب المهجر ينقسم إلى نوعين، أدب المنفى في المكان، وأدب المنفى عن المكان
يقولون عن أدب المنفى أنه أدب استعادة، حيث تكتسب أتفه الأشياء في القصة حيوية ورونق مختلف، لا تستطيع هنا أي حُزمة اقتراحات افتراضية أن تحيط بالمتخيّل الحكائي أو الروائي الذي تختزنه ذاكرة السوري في رحلته إلى المنافي، لقد التحم أدب المنفى والمهجر بأدب الحرب و أدب السجون، فزاد الانكسار انكسارًا وزاد الهزيمة وجعًا أكثر.
أدب المنفى أو أدب المهجر ينقسم إلى نوعين، أدب المنفى في المكان، وأدب المنفى عن المكان، وكلاهما يتواجد في الأدب السوري بعد الحرب السورية، في رواية “عائد إلى حلب” للكاتب السوري عبدالله مكسور، يصور الكاتب أدب المنفى عن المكان في تصوره لمدينته حلب أثناء الحرب راسمً فيها صور ضد الاستبداد في سوريا من خلال البطل ذاته، المصور الصحفي الذي يصور أفلاماً وثائقية عن الثورة، ويسرد تجربته المريرة مع الاعتقال، والتعذيب البشع الذي يمارسه الجيش النظامي ضد المعتقلين المدنيين، ومعايشته للفصائل التي تقاتل من أجل إسقاط النظام، كاشفاً عن وجهها الإيجابي والسلبي، وذكريات الطفولة والشباب.
الأدب الفلسطيني: أدب المنفى الأكثر براعة
النفي في المكان تغلب عليه مشاعر الحصار والتضييق والرهبة والعزلة الشاملة. أما النفي عن المكان فيحتاج إلى ذاكرة استرجاعية تستطيع أن تعيد خلق الأمكنة المفقودة. فطبيعة النفي هي التي سوف ترسم، بطريقة ما، مخيلة المكان، أبرع الكاتب الفلسطيني في تصوير النفي عن المكان في روايته “رأيت رام الله” التي تصور ثلاثون عاماً من الغربة أشعلت في القلب الحنين والاشتياق إلى ساكني رام الله.
صور فيها الكاتب الفلسطيني الوطن المحرم المنتظر على مشارف جسر العبور، جسر العودة ذاك الذي سكن في ذاكرة مريد البرغوثي بصرير خشبه، وبضيق مساحته وقصر طوله. هو ذاك الجسر القصير مشت عبره الذاكرة إلى ذاك الأفق الرحب المشبع برائحة الأهل والمترع بالصور القديمة الساكنة في الوجدان.
يقول مريد البرغوثي في كتابه:
“الغربة لاتكون واحدة. إنها دائماً غُربات، غربات تجتمع على صاحبها وتغلق عليه الدائرة. يركض والدائرة تطوّقه. عند الوقوع فيها يغترب المرء “في” أماكنه و”عن” أماكنه. أقصد في نفس الوقت.
في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، الرواية التي تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وهي الرواية التي تتحدث عن التقاء الغرب والشرق في شخص واحد ينتقل من القرية إلى المدينة إلى الغرب، يقول فيها الأديب السوداني “الطيب صالح”:
” إننى أسمع فى هذه المحكمة صليل سيوف الرومان فى قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي و هي تطأ أرض القدس،البواخر مخرت أول مرة تحمل المدافع لا الخبز ،وسكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود. و قد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول “نعم” بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذى لم يشهد العالم مثيله من قبل فى السوم وفى فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً فى عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلا. عطيل كان أكذوبة.”