عملية رفح.. بين الاستعراض ومخاوف تكريس قواعد اشتباك جديدة

يبدو أن الحجر الذي ألقته حماس بقبولها مقترح الوسطاء قد حرك المياه الراكدة في المشهد الغزي بشكل عام، إذ أربك حسابات حكومة الحرب الإسرائيلية وبعثر أوراق رئيسها بنيامين نتنياهو الذي وجد نفسه مدفوعًا – بتحريض اليمين المتطرف في حكومته وبعض جنرالاته – لتنفيذ تهديده الذي ظل يردده لأكثر من أربعة أشهر بشأن اجتياح مدينة رفح جنوبي القطاع بريًا.
وبعد ساعات قليلة من إعلان الحركة موافقتها على مقترح الاتفاق الذي قدمته مصر وقطر، بدأ جيش الاحتلال عملية العسكرية في رفح، ومع الأمتار الأولى من صباح الثلاثاء 7 مايو/آيار 2024 كانت الدبابات الإسرائيلية متاخمة للحدود المصرية الفلسطينية، رافعة العلم الفلسطيني، ليعلن جيش الاحتلال بعدها سيطرته الكاملة على معبر رفح ومحيطه.
الخطوة ربما ليست مفاجئة لكثير من المراقبين، فالبعض يقرأها في سياق اللعب بالورقة الأخيرة لتحقيق أي انتصار زائف يوظفه نتنياهو على طاولة التفاوض لتعزيز موقفه إزاء اتفاق التبادل المزمع، لكن هناك من يتخوف من أن يتجاوز الأمر هذا الهدف المكشوف، ليرسخ الاحتلال قواعد جديدة من خلال إعادة تموضع تعيد الأوضاع إلى ما قبل 2005.
كيف وصل الاحتلال إلى رفح بتلك السرعة؟
السرعة التي وصلت بها الدبابات الإسرائيلية لمعبر رفح والأريحية التي تحركت بها، بحسب مقطع الفيديو الذي بثته وسائل الإعلام العبرية على منصات التواصل الاجتماعي، أثارت الكثير من التساؤلات عن طبيعة تلك المنطقة اللوجستية ومناطق تمركز المقاومة التي حذرت من أن دخول رفح لن يكون نزهة بل سيواجه بشراسة.
في البداية تجدر الإشارة إلى أن المسافة بين معبر كرم أبو سالم المحتل إسرائيليًا ومعبر رفح لا تتجاوز 2.6 كيلومتر، وهي مسافة قصيرة للغاية يمكن قطعها في غضون دقائق وليس ساعات، هذا بخلاف أن الدبابات الإسرائيلية – بحسب تقارير إعلامية – سلكت الطريق الممهد الذي يربط بين المعبرين، والمخصص للشاحنات التي تنقل المساعدات الإنسانية، وهو بمحازاة الجدار الفاصل بين الحدود المصرية الفلسطينية ولا يبعد أكثر من 50 مترًا فقط عن بوابة معبر رفح.
الخبير العسكري والاستراتيجي حاتم كريم الفلاحي: قوات الاحتلال توغلت للسيطرة على معبر #رفح من منطقة غير صالحة للدفاع بالنسبة لفصائل المقاومة #حرب_غزة #الأخبار pic.twitter.com/uboIdFwlyI
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) May 8, 2024
هذا بجانب أن تلك المنطقة من البقاع الرخوة عسكريًا، مكشوفة في معظمها، يحدها محور فيلادلفيا وجدار غزة الفاصل بين الحدود المصرية الفلسطينية من الجانب الجنوبي الغربي، أما من الجانب الشمالي الشرقي فكلها أراض زراعية لا تحتضن إلا القليل من المباني، مثلها مثل شارع صلاح الدين شمال القطاع ومنطقة التوام في الشرق، وهو ما يجعلها بعيدة عن تمركز عناصر المقاومة، لا سيما أن تلك المنطقة يفترض أنها ذات طبيعة خاصة وخاضعة لحزام المناطق منزوعة السلاح المشمولة باتفاقية السلام بين مصر و”إسرائيل”، وعليه فإن وجود المقاومة هناك ربما يوتر الأجواء مع الجانب المصري.
وفي ظل تلك الأجواء، كانت مهمة جيش الاحتلال في السيطرة على تلك المنطقة الحيوية لوجستيًا، عملية سهلة سواء في التنفيذ أم الوقت، خاصة أن تحركاته كانت مدعومة بغطاء ناري مكثف وتحت حماية الطائرات الحربية، وبمأمن عن أي رد فعل عكسي من الجانب المصري الذي يُفترض أنه يتعرض لعملية تحرش حدودي واضحة واختراق لبنود اتفاقية السلام.
تمرير انتصار وهمي
مقاطع الفيديو التي وثق بها جنود الاحتلال – وهم فوق دباباتهم – عملية اقتحام رفح ورفع العلم الإسرائيلي فوق بعض الساريات عند مدخل المدينة بعد إنزال العلم الفلسطيني من عليه، وتجول الآليات بأريحية كاملة على الشريط الموازي للجدار الفاصل بين الحدود المصرية الفلسطينية، ثم بث تلك المقاطع – التي لا تتجاوز بضع ثوانٍ – على منصات التواصل الاجتماعي، يؤكد استعراضية العملية ومحاولة الحصول على الشو الإعلامي الذي يمنحهم نصرًا ولو وهميًا.
الرسالة الأبرز التي حاول الاحتلال تصديرها من خلال تلك العملية، تتمحور حول طمأنة الداخل الإسرائيلي بعد الهزة التي تعرض لها بسبب قبول حماس لمقترح الوسطاء، وحالة الفرح التي عمت أرجاء غزة وهتافات الانتصار التي دوت في مختلف مناطق القطاع.
تلك الأجواء الاحتفالية اللاحقة لقرار حماس تعني باختصار هزيمة الكيان المحتل الذي وجد نفسه مضطرًا لكسر تلك الرسالة من خلال رسالة أخرى أكثر قسوة ووحشية، تتمثل في تنفيذ تهديده باجتياح رفح ورفع العلم الإسرائيلي على سارية مدخل المدينة بدلًا من العلم الفلسطيني، والتحرك بسهولة ويسر على محور فيلادلفيا دون أي مقاومة.
ويقول نتنياهو وحكومته من خلال تلك الرسالة إنهم ماضون في حربهم حتى تحقيق أهدافها، وأنهم قادرون على احتلال رفح، آخر مناطق القطاع التي لم يدخلها جيش الاحتلال، وأن قبول حماس للمقترح لا يلزم “إسرائيل” بأي شيء، كذلك الرسالة الأبرز وهي رفض الكيان الانصياع لضغوط الوسطاء والحلفاء ما لم يتم التوصل إلى اتفاق يحقق لتل أبيب طموحاتها.
لا يوجد مبرر لاقتحام الاحتلال معبر #رفح وتجوّل دباباته في فيلادلفيا سوى أن الحكومة المصرية تعاونت في ذلك.. #السيسي يتواطأ مجدداً مع الاحتلال. pic.twitter.com/5lN2rMqPzj
— نون بوست (@NoonPost) May 7, 2024
وتشير بعض المصادر الإعلامية إلى أن عملية الاجتياح الأولية، بتلك الصورة الاستعراضية، جاءت بعد إخطار الجانب المصري وبالتنسيق مع الإدارة الأمريكية، من أجل تحقيق انتصار وهمي يسوقه نتنياهو للداخل الإسرائيلي ويقنع به اليمين المتطرف قبل الجلوس على مائدة المفاوضات مرة أخرى، لا سيما بعد الفشل في تحقيق أي من أهداف الحرب رغم مرور أكثر من 7 أشهر عليها.
وفي السياق ذاته نقلت شبكة CNN الأمريكية عن مصدر مطلع على تلك العملية قوله إنها ستكون محدودة للغاية وتستمر لبضعة أيام، بهدف الضغط على حماس للموافقة على صفقة تبادل مرضية للداخل الإسرائيلي وتحفظ ماء وجه الكيان وألا تنطوي على مؤشرات تسوقها حماس كانتصار مما سيكون له أثره على الشارع الإسرائيلي الغاضب ومستقبل الحكومة، علمًا بأن جولة مفاوضات جديدة من المقرر أن تحتضنها القاهرة اليوم لاستكمال المباحثات.
حتى الساعة ما زالت عملية رفح في بدايتها، لم تتجاوز بعد مرحلة الاستعراض والشو الإعلامي، وإن انطوت على بعض العمليات والاستهدافات التي أسقطت عشرات الضحايا، قوبلت برد ميداني من المقاومة على بعض مناطق التمركز بالنسبة لجيش الاحتلال.
ورغم ما يثار على لسان الجانب الأمريكي بشأن محدودية العملية، وتوقيتها الضيق، هناك تخوف من تجاوزها لخطوط الدعاية والاستعراض ونطاقها المحدود، إلى محاولة تكريس معادلة جديدة وفرض إعادة تموضع بما يثبت قواعد أخرى للاشتباك يتم التفاوض على أساسها.
لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية تعلن رفضها خطط فرض رقابة أمنية أميركية على معبر #رفح وتعتبر أي وصاية أجنبية بمثابة الاحتلال @waad_hachem pic.twitter.com/NZwCac0xeg
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) May 8, 2024
وينطلق هذا التخوف من نقطة تمادي جيش الاحتلال في فرض السيطرة المطلقة على مدينة رفح والمعبر بشكل كامل، لا سيما مع ما يتردد حول التخطيط لمنح شركات أمريكية إدارة المعبر، ما يعني استمرارية احتلاله، بما يمهد الطريق نحو العودة إلى ما قبل عام 2005، بحيث تهمين “إسرائيل” على تلك المنطقة اللوجستية وتتحكم في معابر القطاع وكل ما يدخل أو يخرج منه، بما فيها المساعدات، الأمر قد يزداد تعقيدًا إذا أقدم الاحتلال على السيطرة على محور فيلادليفيا الحدودي، يتوقف ذلك على الضريبة المحتمل أن يدفعها في أثناء تلك العملية
وفي تلك الحالة قد تتغير معادلة التفاوض بالمرة، فالأمر لن يكون مرهونًا بالانسحاب من قطاع غزة بأكمله ووقف الحرب وإعادة الإعمار وعودة النازحين كشرط لتحرير المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس، فربما يتم اختزاله في الانسحاب من المحور ورفح فقط، في ظل الابتزاز المتوقع أن تمارسه دولة الاحتلال ضد مصر والحلفاء والوسطاء معًا، ما قد يضع المقاومة في مأزق سياسي وعسكري خطير.
إجهاض المخطط قبل فوات الأوان
وبعيدًا عن ثنائية الاستعراض والبحث عن الانتصار الزائف في مقابل القلق من تكريس قواعد اشتباك جديدة في قراءة عملية اجتياح رفح بريًا، وبمنحى أن تطمينات واشنطن وتل أبيب غير موثوقة، فإن هناك سباق مع الزمن لتلجيم الاحتلال وتفويت الفرصة عليه بشأن إعادة تموضع يفرض من خلاله شروطه ويُخضع الجميع لفخاخ الابتزاز، وذلك من خلال 3 محاور رئيسية:
المحور الأول: تعزيز نشاط المقاومة في رفح ومحيطها، واللعب بورقة الأسرى إعلاميًا وسياسيًا ونفسيًا، وهو ما بدأت تفعله الكتائب خلال الساعات الماضية، فقدر كبير من السيناريو سيخضع لكلفة العملية عسكريًا وميدانيًا، وعليه يجب على حماس أن تبرهن أن العملية لن تكون نزهة كما حذرت قبل ذلك.
المحور الثاني: تكثيف نشاط الجبهات الأخرى، كجنوب لبنان واليمن والعراق، وهو التكثيف الذي سيرهق الاحتلال ويشتت أوراقه ويفتت قواه، ما يمثل ضغطًا عليه يجبره على إعادة التفكير في مسألة تكريس قواعد اشتباك جديدة في رفح.
المحور الثالث: ممارسة الضغوط المشددة من مصر تحديدًا، بما لديها من أوراق ضغط مهمة إذا توافرت الإرادة لاستخدامها، ومن بعدها الموقف العربي والإسلامي والدولي، لتجنيب تمدد العملية في رفح والدفع نحو تحديدها زمنيًا وجغرافيًا، وإيقافها عند حاجز الاستعراض والضغط المقبول.
وهكذا تبقى عملية رفح – المحدودة حتى الآن – ورغم رسائل الطمأنة الأمريكية، فخًا ما لم يتم إجهاضه قبل أن يختمر، وفي ظل فقدان الثقة في التعهدات الإسرائيلية، ومعها الأمريكية كذلك، تبقى الكرة في ملعب المقاومة في المقام الأول، والفريق العربي من بعدها إن وجد، للحيلولة دون تكريس وضعية جديدة، ربما تداعب مخيلة الاحتلال، تعيد القطاع وهذا الملف إلى ما قبل 2005 مرة أخرى.