“أعلم أنه لمّا كان أمير قطر أو رئيس الوزراء القطري يطلبون مقابلة أحد الرؤساء الغربيين وآخرون يطلبون ذلك كانت الأولوية تُعطى لهم “المسؤولون القطريون” لأن هناك مصالح مشتركة.. الغرب يحترم قطر جداً“.
بهذه الكلمات وصف الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى سياسة دولة قطر في مقابلة تلفزيونية أجراها معه الإعلامي المصري وائل الإبراشي مساء الثلاثاء الماضي. وعلى الرغم من المقاطعة والحصار ومحاولات العزل التي تعرضت إليها دولة قطر منذ يونيو/ حزيران الماضي، فإن أميرها الشيخ تميم بن حمد انطلق في جولاتٍ شملت دولًا أوروبية وآسيوية هدفت إلى تعميق الشراكات وفتح آفاق جديدة للعلاقات بين دولة قطر والدول الأخرى.
القارة السمراء كان لديها نصيبٌ من تحركات أمير قطر، فقد زارها قبل شهرين من اندلاع الأزمة الخليجية في جولةٍ شملت إثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا، فيما بدأ الأربعاء 20 من ديسمبر/ كانون الأول الحالي جولة جديدة تستهدف هذه المرة ست دول في غرب إفريقيا هي السنغال، مالي، غانا، بوركينا فاسو، غينيا، ساحل العاج.
لعلّ الصورة الذهنية التي رسمتها وسائل الإعلام عن قارة إفريقيا لا تزال غير منصفة إلى حدٍ كبير، فالميديا رسّخت إلى انطباعٍ مفاده أن القارة السمراء تعج بالصراعات والحروب وترزح تحت وطأة الفقر والأمراض والمجاعات. بالفعل هذا ما يحدث في دول إفريقية عديدة، لكن باعتقادنا أن الإعلام العالمي غض الطرف عن الإمكانات الاقتصادية والثروات الهائلة التي تتمتع بها دول القارة، كذلك لم تتحدث الميديا العالمية عن التكتلات المتميزة التي تجمع أهل القارة السمراء بدءًا من الاتحاد الإفريقي الذي يضم في عضويته 54 دولة، بالإضافة إلى منظمات أخرى ناجحة مثل الهيئة الحكومية للتنمية (IGAD)، تجمُّع دول الساحل والصحراء (س،ص)، السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (Comesa)، المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس).
تنبع أهمية الدول الست التي يزورها أمير قطر في كونها تحتوي على كثافةٍ سكانية عالية، و إمكانياتها الطبيعة الهائلة وامتلاكها للمواد الأولية ومصادر الطاقة
ربما إن قوة التكتلات التي تميزت بها القارة السمراء هي التي جعلت المغرب يعود إلى بيته الإفريقي بعد غياب دام لقرابة 4 عقود، فالتجمعات الإفريقية لا يمكن مقارنتها بمنظمات جامعة الدول العربية التي اضمحل دورها. إذا أخذنا مجلس الأمن والسلم مثلًا نجد أنه كيان حاضر وفاعل في الاتحاد الإفريقي حيث يُنتخب دوريًا في موعده ويعمل لأجل فض المنازعات والمساهمة في تحقيق السلام في الدول الأعضاء، أما في النسخة العربية فهو غائب تمامًا عن المشهد ولا وجود يُذكر لقوة “حفظ السلام العربية” رغم إقرار تنفيذها منذ مارس/ آذار 2015.
من هنا تأتي أهمية الجولة الثانية التي ابتدرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني من السنغال لتشمل دولًا عديدة في غرب القارة السمراء، حيث إن الجولة عنوانها الأبرز هو تعزيز الوجود القطري في قارة إفريقيا، بالإضافة إلى البحث عن شراكات اقتصادية واستثمارية جديدة ضمن رؤية قطر 2030 الرامية إلى تنويع الاقتصاد والبحث عن بدائل للثروة النفطية. فضلًا عن الاستعدادات التي تجريها قطر لاستضافة مونديال كأس العالم عام 2022.
لماذا السنغال أولًا؟
يُنظر إلى أن العلاقات القطرية ــ السنغالية كانت متميزة قبل أن تستدعي الأخيرة سفيرها من الدوحة مع بداية الأزمة الخليجية في يونيو/ حزيران الماضي، وهي خطوة اعتبرت تضامنًا من داكار مع الدول الأربع التي تحاصر قطر، إلا أن رئيس السنغال مكي صال هاتَف أمير قطر في أغسطس/آب معلنًا إعادة سفيره إلى الدوحة وقالت السنغال في بيانٍ أصدرته وزارة الخارجية حينذاك، إنها تؤيد الجهود المبذولة لتسوية الخلاف بين قطر وجيرانها. وأبدت استعدادها للمساهمة في الجهود الرامية لحل الأزمة في إطار التضامن الإسلامي. مما يعكس تغُير الموقف السنغالي من الأزمة الخليجية واقترابها من قطر.
وبجانب ذلك، ذكر تقرير لموقع Dakaractu السنغالي أن مسؤولين سنغاليين نجحوا في مناوراتٍ ذكية بفتح أبواب عدة عواصم في غرب إفريقيا أمام أمير قطر قبل الجولة الحالية للشيخ تميم بن حمد التي يتوقع أن تستمر إلى 24 ديسمبر/ كانون الأول الحالي.”
يمكن لقطر أن تبني شراكات واسعة مع تكتل مجموعة غرب إفريقيا لتعزيز الاستثمارات والوجود الاقتصادي للدوحة من خلال صندوقها السيادي وجهاز قطر للاستثمار الذَين كان لهما دورُ كبير في حماية الاقتصاد القطري وإفشال مخططات الدول الأربع
الأهمية الجيوسياسية لمنطقة غرب إفريقيا
تنبع أهمية الدول الست التي يزورها أمير قطر في كونها تحتوي على كثافةٍ سكانية عالية، وتزيد مساحتها عن 2 مليون كيلومتر مربع، والأهم من ذلك إمكانياتها الطبيعة الهائلة وامتلاكها للمواد الأولية ومصادر الطاقة الأمر الذي جعلها هدفًا للاستعمار التقليدي قديمًا ومحاولة السيطرة عليها بالنفوذ الأجنبي حاليًا، وفوق ذلك تتوسط منطقة غرب إفريقيا الممرات الملاحية بين القارات الخمس، فهي قريبة من مضيق جبل طارق، وتحيط بها جزر تطل على المحيط الأطلسي مما يؤهلها لأن تكون همزة الوصل بين الشرق الأوسط والأمريكيتين، هذا بخلاف الدور المحوري للدول الست في الأمن الإقليمي من خلال سعيها لمحاربة الجماعات الإرهابية التي تنشط على طول ساحل غرب إفريقيا.
ولا ننسى “الإيكواس” منظمة التعاون الإفريقية الحكومية التي تجمَع 15 من بلدان غرب القارة بينهم ال6 دول التي تشملها جولة الشيخ تميم، حيث تعود فكرة إقامة إطارٍ للتعاون الاقتصادي بين دول إفريقيا الغربية إلى خمسينيات القرن العشرين، وقد ترجمها الاتحاد الجمركي الذي قام عام 1959 بين فدرالية (السنغال ـ مالي) وبين دول الوئام الأربعة، وهي: بوركينا فاسو وبنين والنيجر وساحل العاج، وقد رفعت المنظمة شعار تعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين دول المنطقة كمدخلٍ إلى اندماج اقتصادي شامل.
وترمي المنظمة إلى تحقيق التكامل الاقتصادي، وتعزيز المبادلات التجارية بين دول المنطقة، وتعزيز الاندماج في مجالات الصناعة والنقل والاتصالات والطاقة والزراعة والمصادر الطبيعية، فضلا عن القطاع المالي والنقدي.
كما أقر قادة منظمة غرب إفريقيا في 10 ديسمبر/كانون الأول 1999، البروتوكول المتعلق بوضع آلية للوقاية والتدبير وحل الصراعات، الذي أسسَ لإنشاء أول قوة فصل إفريقية للتدخل وقت الأزمات وعُرفت باسم “قوة الإكوموك”، والتي تدخلت قبل توقيع البروتوكول المتعلق بها في غينيا بيساو عام 1997، ثم في سيراليون عام 1998، وبعد ذلك في ساحل العاج عام 2002
قالت لولوة الخاطر، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية القطرية “إن هذه الجولة تأتي لتعزيز علاقات الدوحة مع غرب إفريقيا، باعتبارها منطقة واعدة اقتصاديًا، على الرغم من التحديات الأمنية“.
ولدولة قطر علاقات قديمة مع الدول الست، إذ بدأت العلاقات الدبلوماسية لقطر مع السنغال منذ العام 1975 وبعدها بعامين مع مالي، وفي بداية الثمانينيات بدأت علاقات الدوحة مع غانا، وفي العام 1988 مع كل من بوركينا فاسو وغينيا كوناكري، كما شهد العام 1994 بداية العلاقات بين قطر وساحل العاج.
عليه، يمكن لقطر أن تبني شراكات واسعة مع تكتل مجموعة غرب إفريقيا لتعزيز الاستثمارات والوجود الاقتصادي للدوحة من خلال صندوقها السيادي وجهاز قطر للاستثمار الذَين كان لهما دورُ كبير في حماية الاقتصاد القطري وإفشال مخططات الدول الأربع.
أهداف جولة أمير قطر
اعتبرت صحيفة Lettre Du Content السنغالية، أن “رجل الدوحة القوي” سيقوم بزيارة داكار ضمن جولة في غرب إفريقيا للتوقيع على اتفاقيات تعاون تجاري واقتصادي، فضلًا عن هدفٍ آخر هو السماح لقطر بفتح سفارات في عدة بلدان في المنطقة الإقليمية التي تتمتع بعلاقاتٍ متميزة مع المغرب، ورأت الصحيفة أن الرباط تشكل مدخلًا مناسبًا لقطر في غرب إفريقيا.
ولم يفُت على الصحيفة أن تشير إلى أن الدفء المفاجيء بين الدوحة وداكار لم يرق لسفير السعودية في السنغال، موضحة أنه حاول إثارة الموضوع في حديث مع تلفزيون SEN لكن المتحدث الرسمي للخارجية السنغالية سيدو غوي رفض تدخلات السفير السعودي.. حسب ما أوردت الصحيفة.
الأسباب التي أبدتها دولة قطر رسميًا لم تبتعد كثيرًا عما ذكرته صحيفة Lettre Du Content فقد قالت لولوة الخاطر، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية القطرية “إن هذه الجولة تأتي لتعزيز علاقات الدوحة مع غرب إفريقيا، باعتبارها منطقة واعدة اقتصاديًا، على الرغم من التحديات الأمنية“.
ما يتميز به أمير قطر الشاب على قادة السعودية والإمارات أن بمقدوره القيام بمثل هذه الجولات غير المسبوقة، وأن الزيارات التي يقوم بها تكون محددة الأهداف بدقة وفق برنامجٍ تضعه الدبلوماسية القطرية النشطة التي نجحت في إفشال مخططات العزل والحصار
وأشارت الخاطر، في تصريحاتٍ أوردها الموقع الرسمي للوزارة، إلى أن جولة الشيخ تميم بن حمد تأتي استمرارًا للجولات القارّية التي بدأها خلال 2017، وشملت دولًا آسيوية، وتلتها جولة إلى دول بمنطقة شرق وجنوب إفريقيا، لافتةً إلى أن الوفد المرافق له في الجولة وفد رفيع المستوى، يضم الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، وعددًا من الوزراء، إلى جانب وفد من صندوق قطر للتنمية والذي سيقود مشاريع تنموية في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية مع الدول الإفريقية الست.“
وأبانت المتحدثة الرسمية أن جملة من المشاريع والاتفاقيات ستتوج الزيارات، منها تقديم دعم قطري لتمويل مستشفى لعلاج السرطان في بوركينا فاسو بقيمة 13.8 مليون دولار. إلى جانب مشروع لتعليم 596 ألف طفل في جمهورية مالي بمساهمة تقدر بـ 40 مليون دولار ضمن مبادرات (علّم طفلا). فضلًا عن أن الدوحة موّلت مشاريع سابقة، وقدمت دعمًا ماديًا متنوعًا لتلك الدول من خلال صندوق قطر للتنمية.”
إذًا هي جولة تعزيز القوة الناعمة والحضور القوي لدولة قطر في القارة الصاعدة، خصوصًا أن كلًا من السعودية والإمارات شاركتا في قمة استضافتها باريس الأسبوع الماضي بهدف تسريع الجهود لتشكيل قوة غرب إفريقيا لقتال المتشددين الإسلاميين. وخلال القمة أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن السعودية ستقدم مئة مليون يورو والإمارات ثلاثين مليونا لدعم جهود القوة المشتركة لدول الساحل بإفريقيا التي تحارب المجموعات الجهادية في مالي وبوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر.
مذكرات واتفاقيات مع السنغال
فور وصوله مساء الأربعاء 20 من ديسمبر/ كانون الأول حضر الشيخ تميم بن حمد مع الرئيس السنغالي ماكي صال التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم بين حكومتي دولة قطر وجمهورية السنغال. فقد شهدا التوقيع على اتفاقية للتعاون الثقافي ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال الرياضة، ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال الشباب.
اتجاه البوصلة القطرية في علاقاتها نحو القارة السمراء بإمكانياتها وثرواتها وعدد سكانها الضخم، يلقي بمزيد من الأضواء على ما يمكن أن تلعبه قطر خلال الفترة القادمة
كما عقدا لقاءا ثنائيا، جرى خلاله بحث العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها وتنميتها في مختلف المجالات لاسيما المتعلقة بالتعاون الاقتصادي والاستثماري والتنموي المشترك وآفاق تطويرها بما يعود بالفائدة على البلدين والشعبين.
فشل محاولات عزل الدوحة
ما يتميز به أمير قطر الشاب على قادة السعودية والإمارات أن بمقدوره القيام بمثل هذه الجولات غير المسبوقة، وأن الزيارات التي يقوم بها تكون محددة الأهداف بدقة وفق برنامجٍ تضعه الدبلوماسية القطرية النشطة التي نجحت في إفشال مخططات العزل والحصار. يؤكد ذلك أن قطر ما زالت تحتفظ بعلاقات قوية مع معظم دول العالم رغم الحملة الشرسة التي تشنها دول المقاطعة على الدوحة ومحاولة تشويه سمعتها ووصمها بالإرهاب والتطرف.
اتجاه البوصلة القطرية في علاقاتها نحو القارة السمراء بإمكانياتها وثرواتها وعدد سكانها الضخم، يلقي بمزيد من الأضواء على ما يمكن أن تلعبه قطر خلال الفترة القادمة، خصوصًا أن الدبلوماسية القطرية راهنت في إفريقيا على مجموعة من الأدوات من بينها التوسط في حل النزاعات وإقامة الشراكات، ومنها الوساطة بين الحكومة السودانية وحركات متمردة في إقليم دارفور، حيث أثمرت التحركات القطرية عن اتفاق الدوحة في فبراير/ شباط 2013. كما توسَّطت الدوحة بين السودان وإريتريا عام 2005، وبين جيبوتي وإريتريا 2008.
لذلك، نرى أن جولات أمير قطر في القارة الإفريقية ستستمر بعد النجاحات التي حصدتها زيارته السابقة فقد ردّ عليها رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين بزيارة مماثلة إلى الدوحة استمرت لمدة أيام وبدأ البلدان تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بينهما بدخول قطر كمستثمر قوي في الهضبة الإثيوبية، كما دشَّنت قناة الجزيرة القطرية مكتبها الإقليمي في أديس أبابا وهي ــ بالمناسبة ــ أول محطة تلفزيونية عالمية تفتتح مكتبًا في عاصمة الاتحاد الإفريقي. ومن ناحيتها، أرسلت كينيا إلى الدوحة وفدًا حكوميًا رفيع المستوى لبحث تنفيذ الاتفاقيات بين البلدين، خاصة الفرص الاستثمارية في قطاع الطاقة والبنية التحتية.