يكثر تداول اسم ابن بطوطة كونه الرحالة الأشهر في العالم الإسلامي وتاريخ الرحلات العربية والإسلامية، إلى جانب عددٍ آخر من الرحّالة العرب والمسلمين، إلا أنّ قليلًا من يعرف أو يسمع بالرحالة التركي “أوليا جلبي”، والذي أمضى 40 عامًا من عمره مرتحلًا من بلدٍ لآخر ومن بقيعةٍ لأخرى في العالم بشكلٍ عام، والدول التابعة للحكم العثماني بشكلٍ خاص، مستكشفًا إياها ومتتبعًا آثارها وتاريخها وجغرافيتها وأخبار ناسها وسكانها.
وقد ذاع صيت الرحالة العثماني الشهير أوليا جلبي بين الأتراك، بوصفه رمزًا لأدب الرحلات، فهو لديهم لم يكن بأقل من نظرائه العرب والمسلمين خصوصًا الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة، وإن مؤلفاته أصبحت مركز اهتمام عدد كبير من المستشرقين والمؤرخين والجغرافيين والمختصين في علم الاجتماع؛ نظرًا لما تحتويه من معلومات دقيقة عن البلدان التي قام بزيارتها.
كما احتوت كتاباته دراسة مفصلة عن البلدان التي زارها الرحالة من ناحية المناخ والسكان والنظام الاقتصادي والعادات والتقاليد، وتضمنت وصفًا دقيقًا للحياة اليومية للمدن التي قام بذكرها، مما يدل على سعة اطلاعه عن التاريخ والثقافة الإسلاميتين، وينم عن ذاكرة قوية.
بدأ أوليا جلبي رحلاته عام 1630م من إسطنبول واستمرت تقريبًا نصف قرن من الزمان
أوليا ليس اسمه الشخصي، وإنما هو اسمه المستعار الذي اتخذه على اسم مرشده وإمامه في البلاط السلطاني “أوليا محمد أفندي”، تبجيلًا واحترامًا له. وقد كان أبوه من الذين خدموا في قصور الخلفاء والسلاطين، إذ شغل منصب رئيس صاغة البلاط أو السراي الأميري، واسمه درويش محمد ظلي، ويقال أنه خدم في قصر السلطان محمد الرابع وشارك في حملات السلطان سليمان القانوني الأخيرة، وأنه خدم واشتغل بأعمال الحرف اليدوية للسلاطين الذين جاؤوا بعده أيضًا، ووفقًا للروايات التاريخية فقد عاش والده أكثر من 117 سنة.
أما أوليا فقد وُلد في إسطنبول عام 1611م، ودرس سبع سنوات في مدرسة شيخ الإسلام حامد أفندي، وعمل على حفظ القرآن الكريم على يد أستاذه أوليا محمد أفندي، ثم درس العلوم الأخرى على يد حسين أفندي الجني، وأخفش أفندي، وتعلم من والده -في هذه الأثناء- حسن الخط وفنون الزخرفة والشعر، بالإضافة إلى العديد من الفنون الأخرى.
يعدّ كتاب “سياحت نامه” أشهر إصدارات جلبي ويتكون من 10 مجلدات
وقد قُدم أوليا جلبي للسلطان العثماني مراد الرابع في أثناء وجوده في آياصوفيا عن طريق ملك أحمد باشا الذي أصبح فيما بعد صدرًا أعظم للدولة العثمانية، فعيّنه في مستودعات القصر السلطاني، وعمل هناك لمدة أربع سنوات، ثم انتقل بعدها إلى فرقة الفرسان، الأمر الذي ساعده كثيرًا في زيادة معارفه الثقافية وتوسع أفقه، وفي تنمية قدراته الأدبية والإدارية.
شكّل عام 1630م حجر الزاوية لرحلات أوليا، والتي استمرت تقريبًا نصف قرن من الزمان، فقد كان منذ صباه يتشوق لرؤية العالم من حوله والاطلاع على عادات الناس وتقاليدههم عن كثب، فبدأ رحلته من إسطنبول، ثم انتقل منها إلى مدن الأناضول القريبة، ومنها إلى العالم؛ حيث تجول في ثلاث قارات هي آسيا وأوربا وإفريقيا، وكتب عن كل بلدٍ تجول فيه وسجل معلومات موجزة عنه في كتبٍ باتت جزءًا من أهم كتب التاريخ المعروفة.
وقد كان كتابه “سياحت نامه” أهم المراجع التي جمع فيها أخبار سفره وحواديث جوالاته، والتي جمعها في عشرة مجلدات كبيرة صنفها وفقًا للمكان الجغرافي؛ ففي المجلد الأول تحث عن مدينة إسطنبول وضواحيها، وفي الثاني تحدث عن بورصة وطرابزون وكريت وكردستان وجورجيا وبعض الولايات العثمانية الأخرى، وفي المجلد الثالث تحدث عن دمشق، وسوريا، وفلسطين، وكردستان، وأرمينيا.
خصص جلبي المجلد التاسع للحديث عن مكة والحجاز، بينما المجلد العاشر كان خاصًا بمصر
أما في المجلد الرابع فتحدث جلبي عن عن وان، وتبريز، وبغداد، والبصرة، وفي المجلد الخامس تحدث عن هنغاريا، وروسيا، والأناضول، وبورصة، وجزر الدردنيل، وادرنة، والبوسنة، وفي المجلد السادس تحدث عن ألبانيا، وهنغاريا، وبلغراد، والمجر، والجبل الأسود، وكرواتيا؛ وفي المجلد السابع عن هنغاريا، ومولدافيا، والقرم، وروسيا الجنوبية، والقوقاز، وداغستان؛ أما في المجلد الثامن فتحدث عن ازاق، وبغصة سراي، وإسطنبول، وكريت، ومقدونيا، وأثينا.
وقد حمل المجلد التاسع عنوان “الحج إلى مكة”، وتحدث فيه جلبي عن جنوب غربي الأناضول وجنوبها، وسوريا، وحلب، ودمشق، والمدينة، ومكة والمدينة، وتناول فيه تفاصيل رحلته من الشام إلى الحجاز في سبع وتسعين صفحة، وذلك منذ خروجه من الشام في عام 1671م، حتى وصوله إلى مكة المكرمة، ثم القيام بأداء فريضة الحج والانتهاء من المناسك، ثم خروجه من مكة المكرمة متوجهًا إلى مصر.
كما ذكر في هذا الجزء من الكتاب، منازل الطريق من الشام إلى مكة المكرمة؛ كمنزل قصر أحمد باشا الصغير، ومنزل قرية الكسوة، ومنزل فندق طرخنة، ومنزل قلقة الصنمين، ومنزل قرية بُصرى الصغرى، ومنزل الكتيبة، ومنزل قلعة مزيريب، ومنزل نهر حوريان (لعله حوران)، ومنزل قرية النوى، ومنزل قرية طورنة، ومنزل قلعة مزرق، وغيرها من المنازل إلى أن ينتهي بمنزل وادي فاه.
كما ذكر أوضاع بعض القبائل الواقعة على طريق الحج، التي تكفلت بنقل الحجاج من صحراء مزيريب إلى الحجاز، وأشار إلى أن تلك القبائل كانت تنتظر بخمسين ألف ناقة قدوم القافلة من الشام.
وذكر أوليا جلبي أن معظم أهالي المدينة المنورة يشتغلون بالتجارة، وأن المدينة تُنار بالقناديل في شهور رجب وشعبان ورمضان، وأن أسواقها لا تغلق أبوابها. إلا أن يوم قدوم الحجاج يصبح عيدًا للأهالي؛ إذ يخرجون من البلدة الطيبة لاستقبال الحجاج بالقصائد والأناشيد. وبما أن الصُرّة الهمايونية (السلطانية) والهدايا تصل إلى المدينة المنورة مع قافلة الحج، فإن الأهالي ينتظرون قدومها بفارغ الصبر. وما أن يدخل الحجاج إلى البلدة حتى يصطف الناس على جانبي الطريق للسلام عليهم. وقد أشار الرحالة إلى فرحهم بقدوم الحجاج، أنهم يلبسون أجمل ملابسهم ويدعون الحجاج إلى منازلهم لزيادة الإكرام. وقد تحدث أوليا جلبي عن فقراء المدينة المنورة أيضًا، وذكر أن الصدقات تدفع لهم خفية؛ لأنهم إذا وجدوا الرجل يدفع الصدقة أحاطوا به من كل الجوانب طالبين نصيبًا منها.
وفي المجلد العاشر والأخير تحدث عن مصر التي مكث فيها ما يقارب العشر سنوات، بالإضافة للسودان، والحبشة. وقد اهتمّ جلبي بمصر اهتمامًا ملحوظًا، وهذا ما يفسّر لنا تخصيصه الحديث عنها في الجزء العاشر من رحلته إلى مصر التي زارها أول مرة سنة 1672 وعاد إليها من سياحته في أفريقيا عام 1676.
وكتب واصفًا إياها: “في مصر من العلوم والعجائب التي عمرت الدنيا… فهؤلاء حكماء الأرض وعلماؤها الذين ورثوا الحكمة من مصر خرجوا وبها ولدوا ومنها انتشرت علومهم في الأرض… وكانت مصر يسير إليها في الزمن الأول طلاب العلم وأصحاب العلم الدقيق لتكون أذهانهم على الزيادة وقوة الذكاء ودقة الفطنة. وربما لهذا يسمون مصر أم الدنيا ولا يسمونها أبو الدنيا. هي أم الدنيا لأنها الرحم الذي لا ينضب بل يصدر أولاده إلى البلاد العقيمة من دون وصاية من أب”.
توفي أوليا جلبي عام 1682م، ويُقال أنّ تاريخ وفاته ومكانه غير معروفين، إلا أنه نرك لنا رحلته وكتابه “سياحت نامه” بمجلداته العشرة التي دون فيها الغث والثمين من الأخبار عن البلاد التي زارها كافة.