التجربة الفلسطينية في التوثيق والأرشفة لم تقتصر على النكبة وأحداثها الموجعة عام 1948 وحده، بل سبقت ذلك إلى المراحل التي تعاقب فيها الغزاة على البلاد في حقب مختلفة من التاريخ الفلسطيني.
لكن هذه التجرية، وإن كانت قد تحققت بمساعدة أو مبادرة أطراف خارجية مثل الإمبراطورية العثمانية، إلا أنها تعرضت للإحباط والإخفاء والتزوير، إذ نهب الاحتلال الإسرائيلي كل ما يمكن نهبه لتزوير التاريخ وخلق حقائق جديدة على أرض الواقع، يمكن الاستناد إليها لاحقًا في تمرير سياسات عنصرية وإقصائية ضد المجتمع الفلسطيني لصالح أهدافه الاستعمارية.
في هذا الخصوص، أجرينا حوارًا مع الباحث الفلسطيني ومدير مؤسسة خزائن، فادي عاصلة، للحديث عن تاريخ الأرشيف الفلسطيني وتحديدًا أرشيف النكبة، وبحثنا محتوياته وأهميته في المجالات السياسية والقانونية والاجتماعية، كما ناقشنا محاولات نهبه وتزويره ضمن حملة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.
متى بدأت عملية الأرشفة الفلسطينية وما هي مراحل تطورها؟
جاءت الأرشفة المتعلقة بالحالة الفلسطينية في وقت متأخر، لأن الإمبراطورية العثمانية كانت تمتلك مقاليد الحكم في فلسطين آنذاك، والإدارة العثمانية هي من عملت على توثيق الأحداث المهمة، خاصة تلك التي لها علاقة بطبيعة الحكم والإدارة والقانون والأديان أيضًا.
ونجد في الأرشيف العثماني الملكيات الفلسطينية، وكذلك ملفات الطابو وسجلّات المحلات التجارية والمحاكم الشرعية وملفات النفوس (وزارة الداخلية). هذه المواد موجودة جميعها ضمن ملفات الدولة العثمانية، وما تشمله من توثيق وحماية وصيانة وتخزين، أما فعل الأرشفة وتحويلها إلى رقمية مرتبط أكثر بإدارة البيانات.
وفي الوقت ذاته يمكن القول إن فعل التوثيق الديني والاجتماعي كان موكلًا لكل عائلة فلسطينية، كونها تحتفظ بالمستندات والبطاقات وعقود الزواج وامتلاك الأراضي، وهذا البناء الأرشيفي حفظ الكثير من المعلومات والحقوق لا سيما أن الفلسطيني لم يكن له دولة، ما يفسّر غياب وجود أرشيف فلسطيني من القدم.
ورغم غياب أرشيف فلسطيني على مستوى الدولة أو المستوى الرسمي، إلا أنه كان هناك أرشيف على مستوى المؤسسات الممنهجة التي كانت موجودة قبل نكبة 1948.
هل هناك فرق بين الأرشيف الفلسطيني وأرشيف النكبة؟
بالتأكيد، الأرشيف الفلسطيني هو توثيق لكل المواد التي لها ارتباط بالشعب الفلسطيني وقضيته، أما أرشيف النكبة فهو متخصص بجمع وتوثيق ما حدث وقت حرب الـ 48 وما بعدها، وهذا توجُّه نضالي مدفوع بنوايا نضالية وثورية وسياسية في محاولة لقراءة الوثائق بعيون من عاشوا هذه المأساة.
توجد مواد وثّقت وأرشفت مرحلة ما بعد النكبة، كونها تحتوي على معلومات هائلة عن الشعب الفلسطيني، مثل الأرشيف الاجتماعي الذي وثّقته العائلات المهجرة وتصف فيه حالة التهجير، وتحتفظ بشهادات الملكية وصور لمدن فلسطينية مهمة ليافا وحيفا وطبريا، وهذه المواد يمكن رؤيتها كأرشيف نكبة يمكن من خلال مواده فهم التنوع الاجتماعي والديني والطائفي وكذلك الاقتصادي في المجتمع الفلسطيني.
بماذا يمكن وصف تجربة الفلسطيني مع الأرشفة؟ وما العقبات التي واجهها؟
يمكن وصف التجربة الفلسطينية مع الأرشفة بـ”المريرة” لأن أكثر المواد الفلسطينية سُرقت ونُهبت سواء قبل عام 1948 وبعده، وكان المثال الأبرز للسرقة هو أرشيف مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي سُرق من بيروت.
وبعدها لم يكن هناك أي توجه فلسطيني لبناء أرشيف لعدة أسباب، منها غياب الدولة الفلسطينية والخوف من تجميع الإرث الفلسطيني بمكان واحد يعرّضه للخطر والضياع، لذلك كانت هناك محاولة واحدة فقط آنذاك وهي مشروع الأرشيف الاجتماعي الفلسطيني التابع لمؤسسة الدراسات الفلسطينية.
ما أهمية الأرشيف الفلسطيني على الصعيد السياسي والقانوني؟
أهمية الأرشفة تكمن في تعزيز الهوية وصناعة ذاكرة للشعب الفلسطيني. أصحاب مبادرات حفظ الأرشيف يصنعون ذاكرة للمستقبل، حيث تعطي الأرشفة رؤية حقيقية للماضي ومحاولة فهم التاريخ ومعرفة نقاط الضعف والقوة، وتمنحنا فرصة أيضًا لتجاوز العثرات السابقة، وبذلك لا تعود قراءة التاريخ مجرد شعور بالحنين إلى الماضي.
يساعد كذلك حفظ وتوثيق الأرشيف في قراءة الماضي بشكل ينصف الأشخاص البسطاء الذين لم ينصفهم التاريخ، فالتاريخ يُصنع من الأعلى حيث النخب والسياسيون، والنكبة الفلسطينية مثلًا عاشها الناس البسطاء، أما الأغنياء فتجاوزوها بأموالهم من خلال بناء حياة جديدة في مكان آخر من العالم.
ما السياسات التي انتهجها الاحتلال في سرقة المواد المؤرشفة؟
بداية، هناك سنّة متبعة عند كل الشعوب والحضارات عند احتلالها للدول، بأن يرسلوا أشخاصًا يجمعون المعلومات والمعارف حول المنطقة التي يرغبون باحتلالها، وذلك بعد دراستها جيدًا.
عملت “إسرائيل” على عدة مستويات، حيث اقتحام البيوت وتفتيشها وسرقة مجموعة ضخمة من الكتب والوثائق، وفي المقابل نهبت الآلاف من المواد التي لم تحظَ بالاهتمام، ومنها أرشيفات المؤسسات الوطنية ومكتباتها، وكذلك المكتبات الإنجليزية التي تمّت مصادرتها واعتبروا أنهم ورثوها من الإنجليز أو الانتداب البريطاني بالتوافق.
في السنوات الأخيرة أظهر الاحتلال وثائق فلسطينية مسروقة للعلن، هل هناك مواد أخرى مخفية؟
هناك نوعان من الوثائق: الأولى يمتلكها الفلسطينيون، والثانية يمتلكها الإسرائيليون. وبالتأكيد هناك آلاف المواد التي لم يكشف عنها الاحتلال ولن تكون أصلًا متاحة للعيان حتى في السنوات القريبة، لأنها توثق قضايا شائكة وسرّية فيها تجاوزات بحقّ الإنسان الفلسطيني، لا سيما وقت نكبة 1948، وهي مواد تشكّل فضيحة سياسية للإسرائيليين حال الكشف عنها.
أما بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني، فكما ذكرنا تمتلك العائلات أرشيفات ضخمة ومميزة ومهمة، وبسبب تجربة الشعب السابقة في نهب ممتلكاته، فهو يدرك جيدًا أهمية مقتنياته لذا تخشى العائلات إظهارها خوفًا من التدمير أو الملاحقة والسرقة، لذا تفضّل عدم ذكر امتلاكها أرشيفات نادرة ونوعية.
بعد سرقة العديد من المخطوطات والكتب القيمة من مكتبات المنازل والمراكز العامة خلال النكبة، كيف أُعيد بناء الأرشيف الفلسطيني؟
تزامنًا مع تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1993، توجّهت الكيانات الإدارية والسياسية فيها لبناء أرشيف، وفي السنوات الأخيرة ظهرت عدة مبادرات ناجحة ولافتة، مثل خزائن، والمتحف الفلسطيني، ومتحف أبو جهاد في جامعة القدس – أبو ديس، ومركز حفظ المخطوطات في جامعة القدس، وهي مبادرات تدل على وعي الفلسطيني بأهمية الأرشيف.
هل من وسيلة يمكن من خلالها استعادة الأرشيف الفلسطيني المسروق؟
يمكن الوصول إلى تلك المخطوطات والكتب الفلسطينية عن طريق تصنيفها إسرائيليًّا، حيث إن سجلّات النفوس التي كانت محفوظة في الملفات العثمانية أصبحت اليوم موجودة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وملفات المجلس الإسلامي الأعلى وملفات المحامين الفلسطينيين والأطباء والمؤسسات الفلسطينية في أرشيف الدولة الإسرائيلي.
أما الملفات التي تحمل أهمية أمنية مثل ألبومات صور المصورين الفلسطينيين العسكريين، فتوجد في أرشيف الهاغاناه (وزارة الدفاع الإسرائيلية)، مثل ألبوم المصور علي زعرور.
وبات من السهل الحصول على نسخة من تلك الوثائق والكتب التي سرقتها “إسرائيل” عبر سحبها من الموقع وطباعتها، لكن هناك وثائق أمنية أخفتها “إسرائيل” وتوجد في أرشيف الهاغاناه، والذي يعتبَر غير منظَّم رغم احتوائه على كمية ضخمة من الوثائق، كما أن المواد المسروقة بشكل عام متاح منها رقميًّا حوالي 6%، بحيث يقدَّر عددها ما بين 14 و15 مليون ملف مسروق.
كيف ساهمت التكنولوجيا في استرجاع الأرشيف الفلسطيني؟
التكنولوجيا وأدواتها غيّرت معادلة الأرشفة والتوثيق وحافظت على الإرث الفلسطيني من الضياع، إذ بات من السهل حفظ المواد وإرسالها إلى الأشخاص والمراكز المعنية بها في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك ثمة بعض السلبيات التي قد تعيق سير هذه العملية، منها مثلًا الكلفة المادية المرتفعة للأرشفة الرقمية، فهي بحاجة إلى كهرباء وتكييف وملفات مضادة للأكسدة وصناديق حماية خاصة، إضافة إلى صيانة دورية للأجهزة.
وفي حال غاب الدعم المالي عن أي مركز أو مشروع أرشيفي، فتصبح عملية التوثيق والأرشفة مرهقة ومعقدة للغاية، وجدير بالذكر هنا أن الاحتلال يمارس ضغوطًا مختلفة على المؤسسات الأوروبية الداعمة والمموّلة لهذا النوع من المشاريع، بهدف تجفيف منابع الدعم وتضييق مساحات العمل.
يذكر أيضًا أن عملية التوثيق والأرشفة الرقمية معرضة دومًا للتضييقات الأمنية، فهي عادة ما تكون تحت الرقابة والمتابعة الأمنية، ويسهل اختراقها أو حظرها أو الحد من انتشارها.
ما الطرق التي تعتمد عليها “خزائن” في حفظ التاريخ الفلسطيني، خاصةً أرشيف النكبة؟
نعمل على جمع كل شيء قديم، ويشمل ذلك تذاكر السفر وفواتير الدكاكين ودعوات الأعراس والمطويات، حيث جمعنا 20 ألف ملف من هذا النوع، وهذه الطريقة تمنحنا فرصة التعرف إلى تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها المجتمع الفلسطيني في مراحل مختلفة، ودون أي توجهات أو فلترة نخبوية أو سياسية.
في ظل استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، وخسارة آلاف الفلسطينيين منازلهم وممتلكاتهم ومقتنياتهم جرّاء القصف العشوائي للمدنيين والمراكز الحكومية، كيف يمكن أن تجري عملية التوثيق في هذا الوضع؟
القصف حرق كل شيء، وفي حال جُمعت وحُفظت تلك البيانات البسيطة عن قطاع غزة، مثل أسماء المحلات التجارية وتراخيصها، وكذلك الشوارع، من السهل إعادة بنائها سريعًا، لكن لا يوجد أي توثيق في أي أرشيف لها بعد قصف كل المرافق الحياتية.
مع ذلك، ظلت حالة غزة أثناء الحرب مميزة حيث صنع كل مواطن ونازح أرشيفه الخاص عبر الشبكات الاجتماعية الرقمية، إذ نشروا صورًا ومقاطع مختلفة توثق حياتهم اليومية من جميع الجوانب.
دومًا الوجود الفلسطيني مهدَّد على مستوى الفرد والمكان، وبالتالي تبقى الأوراق الثبوتية للفئات البسيطة داخل المجتمع مهددة بالضياع المقصود.