تعدّ الشهادات الشفوية التي رواها الأشخاص الذين عايشوا النكبة أحد أهم الأسلحة القليلة المتاحة للفلسطينيين، ولا شكّ أن انتقال هذه الذاكرة السردية بين الأجيال أمر في غاية الأهمية، لأنه من دون الارتباط بالرواية والاستمرار في سردها، لن يكون من الممكن توثيق المذابح والتهجير، خصوصًا مع طغيان روايات المنتصرين والحقائق التي فرضوها على الأرض، بجانب أن هذه الشهادات قريبة من الواقع وتحمل حقائق عميقة، فلا تمثل الماضي فحسب بل تصوغ الحاضر كذلك.
الصدمة: النكبة النفسية
“أنا لا أريد الردح في الذكرى
وأخباري مهيأة وفوق ركامي آلامي
أنا لا أريد تذكر الماضي الملفع بالدموع
وكم خسرت من النبيذ من الكروم
أنا لا أريد تذكر المأساة
إعلان الصهاينة الغلاة قيام دولة رجسهم
وأنا وأهلي نرتدي ثوب الأسى
متسولين مغيبين مهجرين مع الجراح
على التلال وفي الخيام بلا نعال
أنا لا أريد تذكر الزمن اللعين”
– الشاعر نصوح بدران
تعامل جزء كبير ممّن عايشوا النكبة مع آثارها من خلال إبعاد ذكرها، أو الرغبة في النسيان وكبت ذكرياتهم وعدم البوح بها لفترة من الزمن، رغم أنهم لم يكونوا في وضع يسمح بنسيان ما حدث لهم.
لكن يبدو أن انهيار المجتمع الفلسطيني والإذلال والدمار غير المتوقع، والصدمات والظروف المروعة التي خلفتها النكبة، جعلت الكثيرين ممّن عايشوها يترددون لفترة طويلة في الحكي والإخبار بما حدث، وهو ما يدلّ على صعوبة ما مروا به.
إذ إن الانقطاع فجأة عن المكان والزمان والوجود الاجتماعي والتاريخي أربك المجتمع، وربما التحول بين عشية وضحاها من أصحاب الأرض إلى أشبه بالمعدمين زاد من حدّة الصدمة المتمثلة في خسارة كل شيء، وهو ما عبّر عنه أحد الفلسطينيين الذين تمّ تهجيرهم عام 1948، بالقول: “ليس سهلًا أن تجد نفسك في لحظة تخسر كل شيء، عائلتك، منزلك، عملك، مدرستك، ماضيك، تخسر كل شيء ويُلقى بك في الشارع بلا مأوى”.
وعندما سُئل العم إسماعيل أبو شحادة المولود عام 1926 في يافا عن النكبة، ظهرت عليه علامات الألم والكآبة وقال: “اللي صار بـ 48 مبينحكاش”، وأيضًا من خلال تعبيراته الجسدية على وجه التحديد يمكننا أن نرى الألم المكبوت وأثر النكبة عليه، فحتى بعد مرور كل هذا الوقت على النكبة، لم يستطع الكلام بل انصرف هاربًا من المذيعة وبكى.
وفي كتابه “نكبة وبقاء”، يروي المؤرخ عادل منّاع أن والده لم يحدّثه عن النكبة لفترة طويلة، وعندما كان مناع في الصف الخامس بالمدرسة الابتدائية في بلدة مجد الكروم بالجليل الأعلى، شارك في الاحتفال بـ”يوم استقلال إسرائيل”، ثم حين عاد إلى منزله أخبر والده عن مدى سعادته برؤية مسرحية عن إنجازات الحركة الصهيونية، كان وجه والده غائمًا، وجلس مع ابنه البكر يشرح له بصعوبة وبكثير من الحزن عن النكبة، وأن هذا الحدث ليس يوم استقلال بل يوم الغزو والاحتلال وفرض الموت والدمار.
حدثت النكبة في فترة قصيرة ولم يحدث أي شيء مثلها في التاريخ الفلسطيني، وتوضح قصص الفلسطينيين أن فكرة الابتعاد عن المناطق الخطرة أثناء الحروب ثم العودة إليها في وقت لاحق كانت مألوفة ومقبولة لدى معظم الناس، وبالتالي لم يتخيل أحد أن هذه الصدمة ستستمر.
ويؤكد علماء الاجتماع على أن الأفراد الذين يتعرضون لأحداث صادمة ينتجون ذكريات متأخرة، وقد يستغرق الأمر سنوات حتى يتمكنوا من استيعاب تجاربهم وإعطائها المعنى والشكل.
يلاحَظ تشابه التجارب وتكرار القصة نفسها عبر العديد من الأشخاص والأفراد والعائلات الذين عايشوا النكبة، وما زال كثيرون حتى اللحظة لا يستطيعون فهم أسباب التهجير الجماعي المفاجئ والضخم، أحد أكثر العبارات التي يستخدمها الفلسطينيون العاديون والتي تدل على الصدمة هي: “لم يحدث شيء مثل هذا لأي شخص”، و”اليهود فعلوا بنا أسوأ ممّا حدث لهم”.
كذلك من الممكن القول إن نوعية المذابح التي مارسها الاحتلال جعلت الكثيرين لا يتحدثون لفترة من الزمن، ففي كثير من الأحيان يكون من الصعب على مجتمع تقليدي التحدث عن أشياء قاسية ومهينة وقعت لهم، مثل اغتصاب الجنود الصهاينة للنساء خلال النكبة.
ورغم أن قضية اغتصاب النساء عام 1948 نادرًا ما تحدّث أحد عنها، لكنها موجودة في العديد من الشهادات، وكثيرًا ما أعرب القرويون مؤخرًا عن معرفتهم بوقوع حالات اغتصاب في عدة أماكن. على سبيل المثال، أثناء مقابلة مع الحاجة وفاء خلف، وهي من قرية دير ياسين التي تم تهجير أهلها عام 1948، تروي أفعال الجنود الصهاينة بنساء القرية قائلة: “أخذوا البنات وفظعوا فيهن، وهذا خلانا نشرد”.
في أحيان عديدة ينجح الاغتصاب كتكتيك عسكري لأنه يستهدف أكثر من المرأة، فهو في الحقيقة تهديد للمجتمع بالكامل (الأب، الأخ، الزوج والابن) الذي لا يستطيع حماية شرف نسائه، وهو ما نلاحظه بكل وضوح في شهادات هؤلاء الفلسطينيين.
أثناء مقابلة آمنة خالد، وهي من قرية خربة جدين التي تم تهجيرها بالكامل عام 1948، تروي أن حماية “شرف المرأة” من الاغتصاب بالنسبة إلى العديد من الرجال كانت أكثر أهمية من الدفاع عن القرية، بجانب أن “فقدان الشرف” شكّل أيضًا قلقًا كبيرًا للمرأة، ومثلما تقول آمنة خالد: “كنا نخاف على الشرف، لقد غادرنا بسبب المجازر والخوف من أن يفظع اليهود بالنساء والبنات”.
وفي أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 1948، قام الجيش الإسرائيلي في حملة عسكرية كبيرة تسمّى “حيرام”، باحتلال آخر جيب كبير سيطر عليه الفلسطينيون في الجليل، ثم في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1948 زار يوسيف نحماني، مدير مكتب الصندوق القومي اليهودي في الجليل، المناطق التي احتلها الصهاينة حديثًا، ورأى بنفسه الأعمال الوحشية التي ارتكبها الجنود، والتي سجّل بعضًا منها في مذكراته.
ويقول فيها: “بعد أن رفع السكان الأعلام البيضاء في الصفصاف، جمع الجيش الإسرائيلي الرجال والنساء وفصلوهم عن بعضهم، وقيدوا أيدي 65 فلاحًا ثم أطلقوا النار عليهم ودفنوهم في حفرة واحدة، ثم اغتصبوا عددًا من النساء.. من أين أتوا بهذه القسوة مثل النازيين؟ لقد تعلموا منهم، ألا توجد طريقة أكثر إنسانية لطرد السكان غير هذه الأساليب؟”.
استخدم الصهاينة الاغتصاب كأداة لتهجير السكان في العديد من القرى، إلا أن قصص الاغتصاب لم يتم سردها ضمن روايات فظائع النكبة، ونادرًا ما ذكرت أسماء النساء المغتصبات، وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى نظرة المجتمع للاغتصاب، والذي يرتبط بالعار وفقدان الشرف، وبالتالي يكون من الصعب على الضحايا التحدث والإبلاغ عن هذا الألم، بل قد يصل الأمر إلى إنكار الحق في التحدث.
هذا الصمت الملحوظ المحيط بالاغتصاب أكدته الفحوصات الطبية والتحقيقات البريطانية، ففي أعقاب مذبحة دير ياسين كتب ضابط تحقيق بريطاني في تقريره أن أغلبية النساء الناجيات من المذبحة كنّ خجولات للغاية ومترددات في رواية تجاربهن، خاصة فيما يتعلق بالاعتداء الجنسي.
ويضيف ريتشارد كاتلينغ، مساعد المفتش العام البريطاني للتحقيق الجنائي: “ليس هناك شكّ في أن المهاجمين الصهاينة قد ارتكبوا العديد من الفظائع الجنسية، لقد تعرضت العديد من فتيات المدارس للاغتصاب ثم تم ذبحهن فيما بعد، كذلك تعرضت النساء المسنات للتحرش، وذُبح العديد من الأطفال الرضع”.
ولا شكّ أن الخوف من اغتصاب النساء الفلسطينيات لعب دورًا محوريًا في نكبة 1948، وكما أوضح المؤرخ الإسرائيلي المنحاز للرواية الصهيونية بيني موريس، فقد استخدمت القوات العسكرية النظامية وغير النظامية الاغتصاب كسلاح في عشرات الحالات، ويتابع موريس: “الخوف الكبير من الاغتصاب يفسّر إرسال النساء والفتيات خارج مناطق القتال النشطة أو المحتملة، والهروب المتهور من القرى والأحياء الحضرية منذ أبريل/ نيسان 1948”.
وقد نجادل بأن القوات الصهيونية كانت على معرفة بحساسية المجتمع الفلسطيني تجاه الاغتصاب، وهو ما شجّع جنود الاحتلال على اغتصاب المرأة، إذ إن الصهاينة استغلوا فكرة العار المرتبط بالاغتصاب كسلاح حرب وأداة للتطهير العرقي.
عوالم الوطن المفقود: طوفان الذكريات
بالنسبة إلى جيل النكبة، فإن فلسطين هي مكان الولادة والانبهار والارتباط العاطفي ومصدر الهوية والتاريخ وميدان الخيال، والمكان الذي يتمنون أن يدفنوا فيه، وهذا ما يوضحه الحج أبو مازن الذي حدد ارتباطه بفلسطين قائلًا: “يا دنيا على المآسي صبرينا.. يا ربي أدفن فيها تحت حفنة تراب، أنا اتمرمغت على ترابها وما بقدر انساها”.
يلاحَظ أن تدمير الاحتلال لغالبية القرى والمدن الفلسطينية وتهجير غالبية أهلها، جعل الفلسطينيين يشعرون بالحنين العارم إلى الجنة المفقودة ونمط الحياة الذي كانوا يمارسونه، وحتى أبسط الأشياء مثل قطع الأثاث، وفناجين القهوة، والبراد، وعلب الكبريت، ورائحة الزعتر، وطعم التين، وطهي الجريشة، والبرتقال اليافاوي، والخبز الذي يتم طهيه في أفران القرى، كلها أصبحت ذا قيمة كبيرة.
على سبيل المثال، بفخر كبير يروي الحاج أبو مازن الذي هُجّر عام 1948 عن احتفاظه بأواني الطبخ الفلسطينية القديمة، قائلًا: “عندي حلبية باسم ستي أم أمي، وفناجين قهوة من حيفا، ومقص جمال وكواشين الأرض”.
ودائمًا عن الحديث عن النكبة خاصة بين الأمهات والجدّات، كثيرًا ما يتم وصف تفاصيل الحياة قبل عام 1948، وسرد الذكريات الجميلة والأطعمة، والعادات والتقاليد والاحتفالات، والمناظر الطبيعية، والطفولة والتعليم والجيران والأغاني التي كانت تُغنّى في الختان وحفلات الزفاف والحنة، كما يكثر الحديث عن الحياة الزراعية المأهولة وكيف كانت لديهم ديار واسعة وبساتين، ويحبون الذهاب إلى الأرض والشاطئ، بجانب سرد الجوانب الأخرى التي لا تعدّ ولا تحصى من تفاصيل الحياة اليومية.
إن هذه الذكريات المعاد سردها بشكل كبير بين نسوة النكبة على وجه الخصوص، توضح بشكل كبير كيف دمّرت النكبة ليس كيان الأسرة فحسب، بل المرأة الفلسطينية أيضًا، إذ إن الأخيرة لعبت بالفعل دورًا مؤثرًا في الحياة قبل النكبة، والكثير منهن يتذكرن بفخر وابتسامة كبيرة كيف كنّ يحملن المياه من الأنهار والينابيع ويرعين البساتين، إضافة إلى أن الأمومة بالنسبة إليهن مركزية للغاية.
وتوضح شهادة الحاجة فطوم محمود الدور الذي لعبته المرأة في القرية في اقتصادات الأسرة والمجتمع وسبل العيش الوافرة قبل النكبة، وبالنسبة إلى العديد من النسوة فإن العمل في أرضهن تحت الشمس والإرهاق الجسدي يعدّ جنة على حد تعبير أحدهن.
ربما العيش في المخيمات جعلهن يتقن بشدة إلى حياتهن القديمة، إلى درجة الشوق إلى غسل الملابس في القرية تحت الشجرة وإعداد الخبز أو أداء المهام الحياتية الروتينية، وعلى حد تعبير الحاجة حليمة القطناني: “كنا عايشين بخير وعز ونعيم، الحياة كانت أحلى من العسل”.
والحاجة حليمة هي في الأصل من سكان قرية يازور، وهي قرية دمرها الجيش الإسرائيلي عام 1948، وفي شهادتها تروي تفاصيل حياتها في القرية قبل النكبة، وكيف هجرها الاحتلال في رحلة متعرجة من مكان إلى آخر، وانتهى بها الأمر في مخيم بائس، ومنذ ذلك الحين تعيش في معاناة ومرارة.
دمّرت النكبة النساء الريفيات وقد تحدثن بألم عن فقدان كل شيء، حتى المجوهرات الذهبية التي كنّ يرتدينها، وكثير من هؤلاء النسوة قمن ببيع الذهب لشراء السلاح للمجاهدين، ولذا خلال النكبة تعمّد جنود الاحتلال سرقة ذهب النساء عبر نقاط التفتيش الصهيونية التي أقاموها في طرق التهجير، وفي عدة حالات كان الصهاينة يقطعون آذان النساء للحصول على الأقراط بشكل أسرع.
ومن خلال شهادات هؤلاء النسوة، تلاحَظ الخسارة المادية والرمزية الكبيرة التي عانينها بسبب سرقة الذهب على وجه الخصوص، فعادة ما كان الذهب رمزًا عاطفيًا للزفاف والحياة العائلية، أكثر بكثير من كونه حلة جمالية، وبينما مصدر مدخرات الرجال كان يكمن في الأرض، كانت أغلى ممتلكات النساء هي الذهب. ومن الواضح أن سرقة الذهب ساهمت في تدمير أكثر للظروف المعيشية للنساء، وفقدان أحد أهم عناصر التماسك الأسري والمجتمعي.
وبحسرة على وضعه الحالي، يقول أحد الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم عام 1948: “كانت حياتنا في فلسطين حلوة، والله لو أنك تشوف بلدتي، جنة، جنة والله”. وفي أحيان كثيرة يتغنى هؤلاء المهجرين بأبسط الأشياء، فحتى العيش بالملح يصبح له مذاق خاص، فقط لأنه من يافا كما يروي العم أبو محمد، والذي هُجّر من يافا عام 1948 ويعيش اليوم في مخيمات اللاجئين في غزة، والذين يذبحون هذه الأيام.
إن حياة القرى والمدن الفلسطينية قبل النكبة كما رسمها أهلها هي حياة مجتمع مكتفٍ ذاتيًا وخالٍ من الفقر والمرض والصراع، حياة على بساطتها يشارك فيها الجميع ويلعبون أدورًا هادفة، وكأن القرية بأكملها مثل عائلة واحدة. وبالتالي ما ضاع خلال النكبة ليس البيوت والأرض فحسب، بل حياة الأمة بأكملها.
ويعد الاحتفاظ بتفاصيل الحياة اليومية قبل النكبة، واستحضارها بقوة وبكل هذه التفاصيل لدرجة القدرة على استرجاع ذكريات الطفولة، مثلما تقول امرأة مسنة مهجّرة عام 1948: “كنا نلعب الهجلة ونط الحبل والتخباية”؛ دليلًا ليس فقط على الحنين إلى المكان الذي اُنتزع منه الفلسطينيون، بل السلب الكارثي الذي أحدثته النكبة في نمط حياة الكثيرين وتدمير الروابط الإنسانية والمجتمع والمشاعر.
يعد الهوس أيضًا بالأمكنة المفقودة والشوق إلى الأرض سمة أساسية لدى الفلسطينيين المهجرين، وما يلفت النظر استدعاء فلسطين في استعارات أنثوية متضادة، فمن ناحية يتم تجسيد ذكريات الماضي الجميل من خلال استدعاء صور المرأة كمعشوقة ومحبوبة وعروس عذراء، فمثلًا يقول أحد الفلسطينيين: “15 مايو/ أيار ذكرى النكبة، فلسطين يا شباب إلها مهر وشبكة، ولا أنتوا نسيتوا حيفا ويافا وعكا”.
في مقابل ذلك، يتم تجسيد التهجير والسلب الجماعي باغتصاب الجسد، فإحدى الاستعارات المنتشرة استخدام الاغتصاب لوصف فقدان الوطن وتدمير القرى والمدن الفلسطينية، حيث غالبًا ما تم تفسير فقدان الوطن والاستيلاء على المنازل والممتلكات على أنه اغتصاب.
كذلك يلاحظ أن ارتباط الفلسطينيين بأماكنهم الأصلية هي ارتباطات جسدية وعاطفية في آن واحد، إذ يحتفظ الكثير من هؤلاء المهجرين بسندات ملكية الأرض وشهادات الميلاد القديمة ومفاتيح المنازل التي تركوها وراءهم.
والأرض عنصر مركزي في السرد وحاضرة دائمًا في شهادات الجيل الأول من النكبة، وغالبًا ما تم التعبير عن الهوية والارتباط بالأرض من خلال ربط المكان بالسمات الطبيعية باعتبارها المكونات الأساسية للقرية أو المدينة، مثل الأشجار (الزيتون واللوز والعنب) والتلال والآبار والكهوف والوديان، بجانب استخدام المصطلحات القديمة المستخدمة لوصف الأرض قبل النكبة، مثل الجورة والشِّعب والمَرَّة والمريس والدِّيبة والتميرة.
يولي الفلسطينيون المهجرون اهتمامًا كبيرًا للأسماء خاصة تلك المعبّرة عن التاريخ والهوية والنسب، فلا يتذكرون أسماء مدنهم وقراهم فحسب، بل يسمّون أطفالهم وأحفادهم على أسماء تلك القرى التي هُجّروا منها، أو الأماكن المفقودة التي لم يعد بالإمكان العيش فيها أو زيارتها، أو حتى الأماكن المعبّرة عن النكبة، وللبنات النصيب الأكبر منها، مثل هيجة وبيسان وحيفا ويافا وصفد وكرمل وجنين.
وفي نوع من القصص التي تتكرر بين الفلسطينيين، يظهر المسن إسماعيل أبو شحادة، وهو من مدينة يافا، ارتبط والداه بالأرض التي يعبّر عنها بـ”البيارات الزراعية”، فعندما قام جنود الاحتلال بقطع واقتلاع الأشجار، حزن والده بشدة، وضرب رأسه من الألم وهو يندب: “البيارات، البيارات، البيارات” إلى أن مات من الحزن.
وهنا تكون “البيارات الزراعية” بمثابة شيء اُنتزع واُقتلع من حياته وجسده، إذ إن الزيتونة أو البرتقالة التي تتم رعايتها والتودد والغناء لها، تشكّل رابطة أبعد من الحاجة والقوت، وبهذا يصبح من الممكن حمل صور “البيارات الزراعية” إلى سياقات أخرى كرمز لتلك الحياة المفقودة.
الحاجة آمنة خالد قدمت أيضًا مزيجًا فريدًا من عناصر الثقافة اللفظية للمرأة الريفية مع الذكريات الشخصية والمجتمعية للماضي والارتباط بالأرض، فتقول: “أتذكر خلال طفولتي، كانت شجرة تين تغذي القرية بأكملها، كنت أتسلق شجرة التين كل صباح وأحمل السلة في يدي، وأبدأ بهز الغصن وأقول: “هز تينك يا ورور/ بعد تینك ما نور””.
كذلك تشير القصص المرتبطة بالآبار إلى قوة العلاقة الحميمة التي ارتبط بها هؤلاء الفلسطينيين مع الأرض، إذ لعب البئر دورًا رئيسيًا في بقاء القرية على قيد الحياة عندما تعرضت للهجمات، وأصبحت الآبار وقصصها جزءًا من سرد تهجير طرد الفلسطينيين من الأرض.
وعند ظهور العديد من الفلسطينيين للحديث على الشاشات أو المناسبات وغيرها، يلاحظ ارتداء الفلسطينيات الثوب التقليدي، والعقال والكوفية السوداء والبيضاء بالنسبة إلى الرجال، وكلاهما من ملابس الفلاحين التي أصبحت علامات على الهوية.
كما يعد الحفاظ على الأسماء الأصلية لأماكن فلسطين واستدعاء الطابع المعروف للموقع، وتسليط الضوء على الممارسات الاجتماعية ذات المغزى والقيم المجتمعية، هو أكثر من مجرد حنين جغرافي أو إظهار علاقتهم الحميمية والمألوفة بالأرض، كأنهم يتمسكون بأدلة جذورهم، ويجمعون ما بين الماضي الضائع والمستقبل المأمول.
وكل تلك المشاهد تشهد على الحضور المهم للذات والذاكرة والحنين إلى الماضي المثالي والرعوي. أحد الفلسطينيين يروي أنه لو أُتيحت له فرصة الذهاب إلى قريته التي هُجّر منها عام 1948، فسيترك كل ما يملك ويذهب حتى لو عاش في أرضه تحت شجرة، على حد تعبيره: “يكفي أن أموت في فلسطين”.
ويضيف العم يوسف سعيد: “أتمنى أن أعيش حلم العودة، ذرّة من تراب بلدي تسوى العالم بأكمله، بلدي الذي عشت وولدت فيها يعادل الدنيا”، أو بتعبير الكثير من المهجرين: “نفسنا نشم ريحة فلسطين”.
زادت نكبتنا
رغم أن الفلسطينيين لم يعيشوا جميعًا تجربة النكبة بنفس الطريقة والعواقب، إذ إن هناك تفاصيل مختلفة ومتشابهة في معنى النكبة بالنسبة إلى المجتمع الحضري في حيفا ويافا والقدس، عن معنى النكبة بالنسبة إلى الفلاحين الذين دُمّرت حياتهم ووسائل عيشهم بالكامل وانتهى بهم الأمر كلاجئين، أو الذين نجوا من التهجير أو الذين تمكنوا من العودة.
لكن تعبّر كل هذه الفئات عن شعور باليتم والصدمة ومصير جماعي واحد، على حد تعبير العم إسماعيل أبو شحادة: “صار فينا متل المقاطيع”. ومن السمات المشتركة في حديثهم، استخدام الضمير “نحن” أكثر من “أنا”، والتشديد على المأساة الفلسطينية الجماعية بدلًا من المأساة الشخصية، وبالتالي النكبة تعتبر جزءًا لا يتجزأ من إحساس الأجيال بالهوية، ومن خلال سردها تتداخل حكايات الأفراد والعائلات مع حكاية الوطن.
وبالنسبة إلى أولئك الذين ينتمون إلى خلفيات طبقية، أو الذين تمكنوا من إعادة بناء حياة كريمة في أماكن أخرى، فإن الألم قد يخفّ نوعًا ما، لكن أولئك الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين بالقرب من حدود أوطانهم يتوقون دائمًا إلى العودة، ويتألمون ممّا حدث لمنازلهم وممتلكاتهم واستيلاء المستوطنين عليها، هم يعرفون بالضبط من أين أتوا، لكن لا يعلمون إلى أين سينتهي بهم الأمر، وبالتالي يخلق هذا الأمر إحساسًا دائمًا بالظلم والقهر.
أما الفلسطينيون الذين بقوا داخل حدود الأرض المحتلة، فيؤكدون باستمرار على معاناتهم وشعورهم بالغربة وهم يشاهدون بقايا عالمهم يتحول كل يوم أمام أعينهم. لقد تم القضاء عليهم اجتماعيًا وسياسيًا، لكنهم موجودون جسديًا.
وفي الوعي الفلسطيني الجمعي لنكبة 1948، الماضي ليس بعيدًا ولا انتهى، فبعد ما يزيد عن الـ 7 عقود، لم تنتهِ نكبتهم وتبدو ذكرياتها وكأنها أقرب إلى حالة يومية معيشية، فدائمًا ما يقومون بالربط بين كل حدث كبير ونكبة 1948 (نكسة 1967 + قصف مخيمات اللاجئين بلبنان عام 1982 + الانتفاضة + الحروب على غزة)، فكل حدث جديد هو استمرار لنكبة 1948.
وفي كثير من الأحيان إشارات صريحة إلى حرمانهم من حقهم في الدولة والوجود، وأن معاناتهم لم تجد اعترافًا دوليًا، رغم الشعور والقناعة بعدالة قضيتهم، كونهم السكان الأصليين للبلاد، لكن غالبيتهم لا يعلقون آمالهم على القوى الدولية إنما على العدل الإلهي، أو بتعبيراتهم المتكررة: “الحمد لله – قدر الله – أملنا في الله – إن شاء الله بنرجع – اعتمادنا على ربنا”.
إن روايات الحجة آمنة خالد، ووفاء خلف، والحج أبو مازن، والعم إسماعيل أبو شحادة، والعديد من الآخرين الذين استشهدت بهم، هي تأكيد على أن أشياء فظيعة حدثت للفلسطينيين كنتيجة مباشرة لإنشاء “دولة إسرائيل”، وكما هو موضّح بالتفصيل في هذه الشهادات، لم تعد هناك نكبة واحدة بل الكثير من النكبات.