“هناك دول تأخذ المال الأمريكي ثم تصوت ضد واشنطن في مجلس الأمن، سنعمل على توفير مليارات الدولارات من وقف الدعم الذي نقدمه”، هكذا رفع ترامب صوته مهددًا جميع الدول التي تتلقى دعمًا مختلف التوجهات من أمني أو عسكري أو تنموي وإغاثي، دون مبالاة لأسس النظام العالمي.
إلا أن 128 دولة في الأمم المتحدة أدانت اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، في حين لم تنجح الضغوطات الأمريكية إلا بمنع 35 دولة من التصويت، وغياب 21 دولة، وبموافقة 9 دول بينها أمريكا والاحتلال الإسرائيلي.
جاء التصويت بالأغلبية لصالح الفلسطينيين متتاليًا لقرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مما يكشف عن رغبة حقيقة من أغلبية دول الأمم المتحدة بإقامة دولة فلسطينية، ليقولوا كفى لأبشع احتلال في التاريخ في عصر الحرية والديمقراطية التي استند عليها النظام العالمي بعد الحرب الباردة لضمان الاستقرار والسلم العالمي.
وكانت قد قالت السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هايلي قبل التصويت على قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس والاعتراف بها كعاصمة للاحتلال الإسرائيلي: “ستتذكر الولايات المتحدة هذا اليوم، هذا التصويت سيحدد الفرق بين كيفية نظر الأمريكيين إلى الأمم المتحدة وكيفية نظرتنا إلى الدول التي لا تحترمنا في الأمم المتحدة”. لكن لماذا تحدت 128 دولة قرار الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل انتهى عصر السيطرة الأمريكية على المنظمات الدولية لصالح الحقوق العالمية؟
أمريكا صنعت النظام العالمي وتحاول تفكيكه
التهديد الأمريكي العلني كشف هشاشة المبادئ التي دعت لها أمريكا وأخلاقيات المساعدات الدولية في مؤتمر “بريتون وودز” 1944 بإنشاء نظام مصرفي عالمي يدعو للتنمية ومعالجة التحديات التي تواجه العالم، وقد نتج عن المؤتمر إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
هشاشة ثانية كشفها تهديد ترامب ضد الأمم المتحدة التي أنشأت في 1945 ووصل عدد أعضائها اليوم 193 دولة، وكانت أهم مبادئها حفظ السلم والأمن الدولي وتنمية العلاقات الودية بين الأمم وتحقيق التعاون على حل المشاكل الدولية وتعزيز احترام حقوق الإنسان.
العزب: أمريكا أصحبت أكثر وقاحة وصراحة لإبقاء سيطرتها على النظام الدولي من آخر معاقله مجلس الأمن، لكن استقرار الدول التي عانت من استعمار سابق أدى لوقوفها في وجه أمريكا
أمريكا التي لم يعجبها استقلالية القرار في بعض الدول ولا التحالفات الجديدة، اتخذت من مجلس الأمن مكانًا لسيطرتها باستخدام الفيتو، فقد استخدمت أمريكا حق النقض الفيتو في مجلس الأمن ضد 43 قرارًا داعمًا لحقوق الفلسطينيين لصالح الاحتلال الإسرائيلي، أهمها قرار وقف الاستيطان في الضفة الغربية وقرار إقامة دولة فلسطينية رغم أن الأمريكان رعاة عملية السلام، وكذلك قرار وقف بناء الجدار العازل.
نقاط مهمة يطرحها الحراك الأمريكي الجديد في منطقة الشرق الأوسط في ظل تغير شكل المنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي، فقد اعترف دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الجديد في أثناء فترة ترشحه للرئاسة في 11-8-2016 أن أوباما وهيلاري كلينتون من أسسا تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الإرهابي في المنطقة العربية، وزرعا الفوضى في منطقة الشرق الأوسط، قائلًا عن أوباما إنه مؤسس تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العراق وسوريا، وهو ما يثبت حاجة أمريكا للإرهاب في النظام العالمي.
لكن أمريكا سرعان ما وجدت في النظام العالمي بتحالفاته الجديدة تهديدًا لمصالحها، فانسحبت أولًا من اتفاقية باريس للمناخ في 5-8-2017، في خطوة وصفتها الدول الأعضاء أنها ضربة للجهود الدولية الرامية لمكافحة تغيير المناخ، واستغلال النمو في صناعة الطاقة الجديدة، وجاء الانسحاب الأمريكي لتوفر على نفسها مليارات الدولارات تدفع لحفظ الأمن والحق العالمي، وهي نفسها التي تدفع أموالاً مضاعفة لتغذية الحروب في العالم.
ثم انسحبت أمريكا في 12-10-2017 من منظمة اليونسكو العالمية (أحد أهم أذرع منظمة الأمم المتحدة)، بعدما صوتت اليونسكو بالإجماع على إسلامية القدس، وقد رحب رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقرار الانسحاب الأمريكي قائلًا: “هذا القرار شجاع وأخلاقي لأن منظمة اليونسكو أصبحت مسرح عبث”.
يرى المتخصص في القانون الدولي والعلاقات الدولية حسام العزب أن أمريكا أصحبت أكثر وقاحة وصراحة لإبقاء سيطرتها على النظام الدولي من آخر معاقله مجلس الأمن، لكن استقرار الدول التي عانت من استعمار سابق أدى لوقوفها في وجه أمريكا.
ويقول العزب لـ”نون بوست”: “أمريكا التي كانت تتباهي بالنظام العالمي وتتحدث عن عالم أكثر أخلاقية، لا تبالي اليوم بأكبر منظمة عالمية متمثلة بالأمم المتحدة متفق عليها كضابط للسلم العالمي، وتضرب قراراتها بعرض الحائط، مما يعزز فرضية تشكيل جسمٍ موازٍ، أو تفكيك الجسم القائم بكل توازناته”.
وأضاف العزب: “دخول روسيا والصين ودول أوروبية بقوة في الساحة الدولية أضعف من تفرد أمريكا بالقرار السياسي العالمي، ووضع كل القوانين الدولية المتفق عليها تحت اختبار التصويت على قرار القدس أو الدولة الفلسطينية من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة”.
المساعدات ظلت مرهونة بولاء هذه الشعوب للسياسة الأمريكية ليأتي قرار القدس الأخير كمحك اختبار للنوايا الحقيقية من وراء هذه التوجهات الأمريكية، إذ بقيت الدول المتلقية للمساعدات والموافقة للسياسات الأمريكية رهينة الفساد الداخلي والخارجي والفقر والتهميش
وعلق العزب على قرار التصويت لصالح الفلسطينيين في قضية القدس والدولة الفلسطينية سابقًا: “عززت قرارات الأمم المتحدة الأخيرة المخالفة للسياسات الأمريكية من عقدة الشرعية للاحتلال الإسرائيلي الأكثر بشاعة في العصر الحديث”.
وكانت أمريكا 1990 في عصر بوش الأب اعتمدت مؤشر التنمية البشرية لقياس مستوى الرفاه والرعاية الاجتماعية، ثم انتقلت في 2004 في عهد جورج بوش الابن لبرنامج المساعدات الأمريكية الذي أطلق عليه تحديات الألفية لتحسين المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في الدول الفقيرة من خلال مشاريع تعاون أكثر توسعًا للحفاظ على الأمن والسلم العالمي.
لكن هذه البرامج والمساعدات ظلت مرهونة بولاء هذه الشعوب للسياسة الأمريكية ليأتي قرار القدس الأخير كمحك اختبار للنوايا الحقيقية من وراء هذه التوجهات الأمريكية، إذ بقيت الدول المتلقية للمساعدات والموافقة للسياسات الأمريكية رهينة الفساد الداخلي والخارجي والفقر والتهميش.
القدس تصفع المال الأمريكي
عادت أمريكا لأفيونتها ضد الدول المتلقية للمساعدات، فقد هددت بوقفها في حال معارضة هذه الدول لقرار أمريكا الجديد بشأن القدس، لكن أنظمة الدول المتلقية للمساعدات باتت وسط حراك جماهيري جديد يرفع وتيرة تجدد الثورات بما يقضى على ثباتها في الحكم، فهي بين خيارين اثنين أولهما اتخاذ موقف علني وواضح بشأن القدس ورفض القرار الذي تعتقد أنه برتوكولي، أو رفع استعداداتها الأمنية والاستخباراتية ضد أي حراك جديد.
في الوقت الذي تمرر به أمريكا ليبراليتها الجديدة ضد الشعوب الدينية كالسعودية، حتى تتقبل أي قرار بمنطق الانفتاح الاقتصادي والقرية الكونية المعولمة، رغم أن تاريخ السياسة الأمريكية حافل في صناعة المال الأمريكي لأنظمة فساد دولية تدعم المصالح الأمريكية وفق نظرية “عقيدة شيكاغو” التي لا تعرف إلى شكلًا واحدًا الربح فقط على حساب الجميع.
الساحة الأكثر تخبطًا وإحراجًا من عصا المال الأمريكية كانت الساحة العربية التي وقعت تحت سياسة الولايات المتحدة الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، إذ أثار تهديد ترامب مخاوفها بشأن التصويت على قرار “القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي”، وهي الدول الأكثر تلقيًا للمساعدات الأمريكية العسكرية، والمباشرة لدعم ميزانيتها كمصر ولبنان والعراق وتونس والجزائر.
لكن تخوفًا آخر يعتبره عديد من الخبراء في الاقتصاد السياسي “مسألة وقت” وهو الدولار، إذ ترى أمريكا في التحالفات الجديدة كمجموعة البيركس الاقتصادية أو مجلس التعاون الاقتصادي الخليجي أو تشكيلات اقتصادية قد تتولد جديدًا من الحاجة للطاقة الجديدة، خطرًا مهمًا على مستقبل الدولار، إن تم تداولها في السوق العالمية بعملات الدول المصدرة، كـ”اليوان” الصيني أو “الروبل” الروسي، مما يسمح بانخفاض حجم الثقة بالدولار.
لعل انسحاب أمريكا الخشن لصالح الاحتلال الإسرائيلي في عصر ترامب من المجتمع الأخلاقي العالمي التي دعت لتأسيسه سابقًا ودافعت عنه شكلًا لا مضمونًا، صدمة لجميع الدول التي خاضت حروبًا وانقلابات وأزمات كبيرة مدفوعة من أمريكا وحلفائها تحت شعار “الحرية والأمن والرفاه”
يوافق هذه الرؤية أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة الأزهر معين رجب فيقول لـ”نون بوست”: “أمريكا تستخدم المال لتمرير قراراتها المنافية لرغبات الشعوب، وها هي تعود لاستخدام المال في السياسة، مما يفقدها ثقة الأنظمة السياسية أيضًا التي بدأت تزيد من هامش الحرية والديمقراطية داخل مجتمعاتها حفاظًا على بقائها”.
ويضيف رجب: “قرار مناصرة القدس من دول العالم، هو إعادة هيبة للأخلاق العالمية التي تجاوزتها أمريكا على مدار سنوات طويلة بمناصرتها للاحتلال الإسرائيلي على الحق والباطل”.
لعل انسحاب أمريكا الخشن لصالح الاحتلال الإسرائيلي في عصر ترامب من المجتمع الأخلاقي العالمي التي دعت لتأسيسه سابقًا ودافعت عنه شكلًا لا مضمونًا، صدمة لجميع الدول التي خاضت حروبًا وانقلابات وأزمات كبيرة مدفوعة من أمريكا وحلفائها تحت شعار “الحرية والأمن والرفاه” أظهر الوجه الحقيقي لسياسة فرق تسد أو الرابح الوحيد أو الحليف والعدو، التي لن تستطيع أمريكا صياغتها منفردة في ظل بروز حركات النخبة الجديدة الأكثر وعيًا في الدول النامية والفقيرة ودول النزاع، مما يضفى ضبابية أكثر على شكل النظام العالمي الجديد خصوصًا إذا تعلق الأمر بقضية مقدسة عالمية ومركزية “القدس”.