انقضت الألفية الأولى من تاريخ بدء العمليات العسكرية للتحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن، وملف الأزمة ما زال مفتوحًا على نهاية تتجه نحو تصعيد سياسي وميداني غير مسبوق بين طرفي الحرب، نجم عنها واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية في العالم، في وقت يبدو فيه التوصل إلى حل سياسي بعيد المنال.
هذه المرة يبدو التحالف أكثر تماشيًا في التعاطي مع موجبات الحسم، فالمعطيات حتى الآن تشير إلى أنه دخل مرحلة جديدة من الحرب ضد الحوثيين، يرافقها استئناف للعمليات القتالية على أكثر من محور، وفي وقت واحد.
جماعة الحوثيين دخلت هي الأخرى مرحلة جديدة، وربما تكون الأصعب، بعد تصفيتها لحليفها صالح بداية سبتمبر الحاليّ، مما أدى إلى اختلال تكوينها الداخلي وجعلها أكثر انكشافًا أمام المجتمع الدولي، كسلطة غير قانونية تفتقر إلى غطاء سياسي يعصمها من نقمة العزلة.
التحفظات الدولية تقل بشأن الحل العسكري
المستجدات المتسارعة بعد رحيل صالح الذي كان يمثل الغطاء السياسي للحوثي طوال الفترة الماضية، جعلت جماعة الحوثي في وضع لا تحسد عليه، خصوصًا أن ثمة ما يشير إلى وجود إجماع دولي أقل تحفظًا على الحل العسكري في المعركة مع الحوثيين، الأمر الذي خلق حالة من القلق وعدم الاتزان لدى الحوثيين من احتمال خروج الوضع عن السيطرة، خاصة بعد التقلص في الحاضنة الشعبية للكيان الحوثي.
من الواضح أن جماعة الحوثي قادمة على فصلٍ صعب من العزلة، خصوصًا بعد مغادرة البعثات الدبلوماسية، واحتمال مغادرة المنظمات الدولية التي بقيت في العاصمة صنعاء طوال الفترة الماضية، بالتزامن مع التقدم الجزئي لقوات الشرعية في جبهة نهم شرق صنعاء، رافقه تقدم لافت في جبهتي بيحان وعسيلان بمحافظة شبوة، إضافة إلى استئناف الزحف باتجاه الحديدة في منطقة الساحل.
وكنوع من الدعاية يحاول الحوثيون حاليًّا إظهار قدراتهم الصاروخية والعسكرية، للإيحاء أن جبهتهم الداخلية أصبحت أكثر صلابة بعد مقتل صالح؛ وهو ما يدفعهم إلى إطلاق مزيد من الصواريخ البالستية باتجاه العمق السعودي، للتظاهر بعكس ما يقال عن الوهن الذي تعيشه الجماعة في الوقت الحاليّ، وإيصال رسالة إلى المملكة الجارة، مفادها أن الجماعة ما زالت قوية وقادرة على إلحاق الأذى من على بعد أكثر من ألف كيلومتر.
استهدف الحوثيون الأسبوع الماضي العاصمة السعودية الرياض بصاروخ بالستي هو الثاني خلال أقل من شهرين، قبل أن تتمكن الدفاعات الجوية السعودية من إسقاطه، وبحسب الحوثيين فإن الصاروخ من نوع “قاهر إتش تو”، تم تطويره محليًّا، في حين اتهمت السعودية إيران بتزويد الحوثيين بصواريخ بعيدة المدى لزعزعة أمن المملكة.
الهجوم البالستي للحوثيين على الرياض، كأنه جاء في وقته لمنح السعودية المبرر الكافي الذي تشهره في وجه الأطراف الدولية والهيئات الإنسانية التي تعارض الحل العسكري في الحديدة
أصداء هذه الاتهامات ترددت من واشنطن على لسان سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي التي عرضت أجزاءً من حطام صاروخ الرياض الذي قالت إنه إيراني الصنع ودليلٌ ملموس على دعم إيران للحوثيين من أجل استهداف المملكة، في حين اعتبرت إيران هذه الاتهامات غير صحيحة وتستند إلى أدلة واهية، على حد تعبير المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي.
ويمكن الربط بين هذا التناغم بين الرياض وواشنطن في تصعيد النبرة في اتهام إيران بتهريب الصواريخ بعيدة المدى للحوثيين، بالاستعدادات العسكرية للتحالف العربي لاقتحام ميناء الحديدة ذي الأهمية البالغة للحوثيين والتحالف على حدٍ سواء.
الهجوم البالستي للحوثيين على الرياض، كأنه جاء في وقته لمنح السعودية المبرر الكافي الذي تشهره في وجه الأطراف الدولية والهيئات الإنسانية التي تعارض الحل العسكري في الحديدة، نتيجة لمخاوفها من أن يتسبب ذلك في حدوث كارثة إنسانية تعمق معاناة السكان في المحافظات الشمالية التي تعتمد على ميناء الحديدة كمنفذٍ رئيس في وصول المساعدات والبضائع.
التصعيد عنوان المرحلة القادمة
أهدر التحالف الكثير من الوقت طوال الفترة الماضية، لسببين، الأول: كان نزولًا عند رغبة بعض الأطراف في التحالف التي كانت تعوِّل على هندسة التحالفات مع القوى التقليدية لإحداث الحسم المأمول، مما جعلها تماطل في الحسم عسكريًا، والثاني: كان موقف الأمم المتحدة الذي كان يعارض بشدة الخيار العسكري في مدينة الحديدة، تجنبًا لتفاقم الحالة الإنسانية نتيجة تعذر وصول المساعدات الإنسانية التي تأتي عبر ميناء الحديدة والبحر الأحمر.
حاليًّا يبدو أن الرياض أصبحت أكثر اندفاعًا من السابق من أجل تحقيق اختراق عسكري على جماعة الحوثيين التي أصبح بقاؤها مقلقًا بشكل كبير لأمن المملكة، لا سيما في ظل انسداد أفق الحل السياسي مما يجعل الحل العسكري بالنسبة للسعودية ضرورة لا مفر منها.
يريد التحالف أن يبرهن عزمه على تسوية العراقيل التي كانت تعيق الحسم داخل التحالف، من خلال ما قيل إنه تقارب مع حزب “الإصلاح”، والحقيقة ربما تكمن في أن التحالف اطمأن أن الإصلاح لن يستأثر وحده باستحقاقات ما بعد الحسم
كما أن تصريحات الرئيس هادي يوم الثلاثاء الفائت، أكدت هذه الجزئية، حيث شدد على ضرورة استمرار العمليات العسكرية حتى تحرير التراب اليمني كافة وأنه لا يمكن إجراء أي حوار أو مشاورات مع الحوثيين، إلا على قاعدة المرجعيات الثلاثة التي تنص على إنهاء الانقلاب وتسليم السلاح وعودة مؤسسات الدولة.
ويريد التحالف أن يبرهن عزمه على تسوية العراقيل التي كانت تعيق الحسم داخل التحالف، من خلال ما قيل إنه تقارب مع حزب “الإصلاح”، والحقيقة ربما تكمن في أن التحالف اطمأن أن الإصلاح لن يستأثر وحده باستحقاقات ما بعد الحسم.
فالتحالف يرى أن ثمة فرصة في استثمار انشقاق المؤتمر عن الحوثيين، وصياغة متراجحة جديدة تتمثل في إعادة هيكلة “المؤتمر” تحت مظلة التحالف، لقتال الحوثيين إلى جانب جيش الشرعية في مأرب، المحسوب على الإصلاح، فوجود معادل سياسي رديف للإصلاح في صف التحالف، يمكن أن يكون جزءًا من معادلة الحسم وشريكًا لحليف المرحلة (الإصلاح) في أي انتصارات مفترضة على الحوثيين.
ومن المفارقات، أن الدبلوماسية الخليجية تنشط من أجل رفع العقوبات الدولية المفروضة على نجل صالح بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2216، بينما ما زال العميد (أحمد علي) إلى الآن رافضًا الاعتراف بشرعية الرئيس هادي، ومتذبذبًا حتى في تحميل الحوثيين مسؤولية اغتيال والده، رغم تشرذم حزبه الذي أصبح يعاني يتمًا سياسيًا، في ظل سيطرة الحوثيين على مقاليد الأمور في عاصمة البلاد، وتشتت أهم قياداته بين القاهرة وأبو ظبي والرياض وصنعاء.
وأقرب الاحتمالات أن لموقفه هذا صلة بترتيبات معينة مع النخبة الحاكمة في أبو ظبي، صاحبة اليد المِرَاس الطويل في توظيف الأحداث لصالح ما تتوهم أنه يخدم مصالحها.
ماذا عن هندسة التحولات وحسم المعركة؟
الأيام القادمة ستكون كفيلة بالكشف عن المواقف الضبابية التي تكتنف الرؤية التي سيتبعها التحالف في المعركة الميدانية، وأيضًا في التعامل مع التفككات أو التحالفات في الجولة المقبلة، خصوصًا أن هناك أطرافًا فاعلة في التحالف ما زالت تعتقد ضرورة أن تكون صاحبة الوصاية على إرث صالح السياسي، بصورة تضعنا أمام أكثر من علامة استفهام من استمرار موقفها السلبي حتى في ظل هذه المرحلة الحساسة للغاية.
ستبقى مسألة لمّ شمل “المؤتمر” وصهره مع مكونات الشرعية الأخرى، رهينة بالخطوة التي سيشرع التحالف في اتخاذها، لكن إذا ما بقي المؤتمر منقسمًا على نفسه فإن إمكانية تأثيره ستتضاءل، ناهيك عن إمكانية أن يتمكن الحوثي من استقطاب ما تيسر من البرلمانيين والقيادات في “المؤتمر” ممن آثروا البقاء إلى جوار الحوثيين رغبةً ورهبة، لتشكيل “مؤتمر متحوث”، يكون ظهيرًا لهم ضد الشرعية والتحالف.
من المؤكد أن الحوثيين يدركون جيدًا صعوبة المرحلة التي وقعوا فيها وتبعاتها القادمة، خصوصًا أنهم أصبحوا السلطة الوحيدة في صنعاء، لكن يبقى احتمال نجاحهم أو فشلهم في تجاوز هذا المأزق، يتوقف على طبيعة الإستراتيجية التي سيتخذها التحالف في الجولة القادمة في المعركة معهم
الأمر الآخر أنه في حال تلقَى الحوثيون دعمًا ماليًا من حلفائهم الإقليميين، فإن إمكانية تفعيل نسبة معتبرة من قوات الحرس الجمهوري الذي ينتمي أغلبهم إلى المذهب الزيدي الذي تقدِّم جماعة الحوثي نفسها كممثل حصري منافحٍ عنه، وفي حال نجح الحوثي في استقطابهم إلى جانب العسكريين الذين التحقوا به في السابق، فهذا يعني مدة أطول من الحرب ومزيد من الضحايا.
لهذا من السابق لأوانه الجزم بقدرة التحالف على إغلاق ملف الأزمة اليمنية عسكريًا، ومن المؤكد أن الحوثيين يدركون جيدًا صعوبة المرحلة التي وقعوا فيها وتبعاتها القادمة، خصوصًا أنهم أصبحوا السلطة الوحيدة في صنعاء، لكن يبقى احتمال نجاحهم أو فشلهم في تجاوز هذا المأزق، يتوقف على طبيعة الإستراتيجية التي سيتخذها التحالف في الجولة القادمة في المعركة معهم، ومدى جديته في احتواء جميع الأطراف التي تتشارك الموقف ذاته من جماعة الحوثي، تحت هدف واحد وتحت مظلة الشرعية.