سبع سنوات كاملة راهنت فيها المملكة الأردنية الهاشمية على المشروع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط ودوره في تحقيق طموحاتها السياسية، فكان التخندق مع حلفاء واشنطن هو بوابة العبور – من وجهة نظرها – نحو الوصول إلى تلك المآرب التي لم يتحقق منها ما كان مأمولاً.
طيلة هذه الفترة كبت عمّان قربتها كاملة على هوى سحاب دول الخليج على رأسها السعودية على وجه الخصوص، سواء في سوريا أو العراق أو حتى قطر في بداية الأزمة، لكن السحب لم تمطر ذلك الماء الذي نشده الأردنيون، ومن ثم بدت في الأفق ملامح تعكير الصفو.
وصاية سعودية بمقاطعة القمة الإسلامية التي عقدت في إسطنبول مؤخرًا لدعم قضية القدس أو تخفيض مستوى التمثيل على أقل تقدير، تزامنت مع اعتقال أحد أكبر أعمدة الاقتصاد الأردني، مرورًا ببعض المناوشات الدائرة بين العاصمتين، الرياض وعمان، كفيلة بأن تطرح العديد من التساؤلات عن تداعيات هذا التلبد الذي أصاب أفق العلاقات السعودية الأردنية، وهل يقود ذلك إلى تمرد الأخيرة على تحالفه القديم، ومن ثم فإلى أين ستكون الوجهة القادمة؟
أزمة صبيح المصري
بعد ساعات قليلة من مغادرة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الرياض متوجهًا إلى إسطنبول لترأس وفد بلاده في القمة الإسلامية الطارئة التي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمناقشة قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نقل سفارة بلاده للقدس، فوجئ الجميع بخبر يفيد اعتقال السلطات السعودية الملياردير الأردني، الفلسطيني الجنسية، صبيح المصري.
أصابع الاتهام في أول توجيه لها ذهبت إلى أن هذه الخطوة جاءت بمثابة الانتقام من العاهل الأردني بعد رفضه للضغوط السعودية بعدم حضور القمة التركية أو على الأقل المشاركة بمستوى تمثيل منخفض، وهو ما لفت إليه الصحافي البريطاني الخبير في شؤون الشرق الأوسط ديفيد هيرست.
هيرست كشف في مقاله بـ”ميدل إيست آي” أن مصادر خاصة نقلت له “استدعاء العاهل الأردني إلى الرياض وتم الطلب منه عدم حضور قمة القدس في إسطنبول، لكنه بعد بضع ساعات قضاها في الرياض غادر من هناك إلى إسطنبول، وهو ما من شأنه إثارة حفيظة الديوان الملكي السعودي، كان هذا بالتزامن مع ضغوط مارستها القاهرة ضد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لنفس الغرض، لكن كلتا المحاولتين باءتا بالفشل.
وعلى الفور وبينما يشارك عبد الله الثاني في أعمال قمة القدس، تناثرت أنباء اعتقال رجل الأعمال الأردني الفلسطيني، لتخلق معها حالة من الفزع والقلق لدى الجارة الفلسطينية، خاصة أن الرجل يمثل عصبًا رئيسيًا للاقتصاد الأردني ومن ثم الفلسطيني.
قراءة المشهد بشكل واقعي، تستبعد أن يضحي الأردن بكامل علاقاته مع السعودية أو الإمارات، وذلك للعديد من الاعتبارات ربما على رأسها الاقتصادية بالدرجة الأولى
الكاتب البريطاني المعروف روبرت فيسك في مقال له بصحيفة “إندبندنت” حاول الربط بين خطوة اعتقال المصري والضغوط السعودية الممارسة على عمان بسبب موقفها من قضية القدس وإصرار مليكها على المشاركة بالمؤتمر الذي تتحفظ عليه القاهرة والرياض في آن واحد.
لكن الضغط السياسي لم يكن الهدف الوحيد من وراء هذه الخطوة، إذ إن الملياردير الأردني هو صاحب النسبة الأكبر في “البنك العربي” الذي يستثمر فيه عشرات الآلاف من الفلسطينيين، حيث علق فيسك: “لهذا تفهم لماذا، لأن المصري مدير البنك العربي، والفلسطينيون ممن لا علاقة لهم بالسعودية وفروا تعب العمر في هذا البنك، ويعرفون أن ولي العهد قد وجد طريقة استثنائية لإطلاق سراح رجال الأعمال والأمراء الرهائن في الرياض، وهو الطلب منهم أن يردوا ما يفترض أنهم كسبوه بالفساد إلى السعودية”.
ومن ثم فقد تساءل الفلسطينيون في الأردن “عما إذا كان محمد بن سلمان يريد ابتزاز البنك العربي مقابل الإفراج عن المصري، ويأخذ كل ما وفروه من تعب العمر في الأردن”، هكذا فند الكاتب البريطاني مبررًا ذلك بأن “البنك العربي الذي لديه أرصدة تقدر بـ47 مليار دولار، حقق أرباحًا العام الماضي بـ533 مليون دولار، وكان المصري و40 من شركائه قد اشتروا في شباط/فبراير الأسهم التي كان يملكها سعد الحريري، الذي اعتقله السعوديون، وأجبروه على الاستقالة التي تراجع عنها عند عودته لبيروت”.
رجل الأعمال الفلسطيني صبيح المصري
الوصاية على القدس
الرياض وإن أبدت تحفظها على مشاركة عمان بقيادة الصف الأول لديها في قمة إسطنبول إلا أنها لم تفصح عن ذلك بشكل علني، حتى حين اعتقلت صبيح المصري لعدة أيام قبل الإفراج عنه كان ذلك استنادًا لبعض المزاعم التي بررت بها فعلتها.
غير أنها وللمرة الأولى تكشف السعودية موقفها بشأن الوصاية الأردنية الهاشمية على الأوقاف والمقدسات الإسلامية في مدينة القدس المحتلة، وهو الموقف الذي أماط اللثام عن حجم التوتر الحقيقي في العلاقات بين الرياض وعمّان، ليحوله من المناوشات الخفية إلى العلن.
المكان: المغرب.. الزمان: 17من ديسمبر/كانون الأول.. الحدث: اجتماع الدورة الـ24 للاتحاد البرلماني العربي الذي شهد خلافات لم يسبق لها أن تصدرت بصورة علنية بين المشاركين الأردنيين ونظرائهم من السعودية، حيث قاوم وفد برلماني أردني رفيع المستوى محاولة سعودية مباشرة لتجاهل “الوصاية الأردنية”، بحسب “القدس العربي“.
الصحيفة ووفق مصادر خاص بها كشفت أن “الوفد السعودي المشارك في الدورة الـ24 للاتحاد اعترض وبشدة على رغبة الوفد الأردني في التحدث عن تأكيد الوصاية الهاشمية الأردنية على القدس، ومحاولة تصديرها كقضية إسلامية عامة”، وهو ما تعتبره العائلة المالكة في الأردن ضربًا مباشرًا في شرعيتهم.
الصحفي الفلسطيني خالد الجيوسي: “نعتقد أن في كل من الدوحة وإسطنبول وطهران ودمشق، ما يُمكن أن يُشكّل طوق نجاة للأردن”
رئيس مجلس النواب الأردني عاطف طراونة الذي ترأس وفد بلاده في الاجتماع تصدى بخشونة بالغة للتوصية السعودية، مجهضًا مساعيها في هذه المسألة، مما تسبب في حدوث “ملاسنات ونقاشات حادة”، مما دفعه إلى نقل صورة ما حدث بشكل كامل لسلطات بلاده، بحسب الصحيفة.
جدير بالذكر أن السيادة الأردنية على المسجد الأقصى بدأت منذ “بيعة الشريف” عام 1924، وتنقلت فيما بعد ولعقود طويلة متلاحقة لقيادات محلية فلسطينية، حتى عام 1948، حين أصبحت الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية تابعة للحكم الأردني، عادت الوصاية أردنية بلا منازع، وأعلن الحاكم العسكري الأردني استمرار سريان القوانين والتشريعات الأخرى المطبقة في فلسطين دون أن تتعارض مع قانون الدفاع عن شرق الأردن لعام 1935.
وفي عام 1949 أعادت الإدارة المدنية الأردنية نظام الحكم المدني إلى الضفة الغربية بموجب قانون الإدارة العامة على فلسطين، وفي عام 1950 تم توحيد الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن رسميًا، كما تم تأكيد استمرار سريان القوانين السارية المفعول في الضفة الغربية في نهاية فترة الانتداب البريطاني إلى حين استبدالها بقوانين أردنية.
وظل الوضع على ما هو عليه حتى 1967 حين احتلت “إسرائيل” القدس الشرقية ومع ذلك لم يمنحها الاحتلال أي حقوق ملكية على المقدسات، وفق قرار مجلس الأمن 424، ومن ثم أبقى الكيان على تلك الوصاية.
وتشرف وزارة الأوقاف الأردنية على غالبية موظفي المسجد ومرافقه ضمن 144 دونمًا، تضم الجامع القبلي ومسجد قبة الصخرة وجميع مساجده ومبانيه وجدرانه وساحاته وتوابعه فوق الأرض وتحتها والأوقاف الموقوفة عليه أو على زواره، وذلك بالتعاون مع وزارة الأوقاف الفلسطينية.
الوصاية الهاشمية على القدس.. خط أحمر للعائلة المالكة في الأردن
التمرد على السعودية
نقلة نوعية شهدها التعاطي الأردني مع العديد من الملفات في المنطقة، تحدد وبشكل كبير أبعاد التوتر بينه وبين الحلف الإماراتي السعودي بوجه عام، خاصة بعد ست سنوات من تطابق وجهات النظر منذ انطلاق قطار الربيع العربي في 2011.
البداية كانت مع الأزمة السورية، حيث تحول الموقف الأردني من الأزمة بصورة مفاجئة، من تبني الرؤية السعودية الأمريكية بشكل كامل، إلى النكوص عليها، حيث تبنت عددًا من الخيارات المرفوضة سعوديًا وإماراتيًا، بدءًا بالترحيب بالدور الروسي في الأزمة مرورًا بالتصديق على هدنة جنوب سوريا، وصولاً إلى عدم الممانعة في بقاء الرئيس السوري بشار الأسد، في المرحلة الانتقالية القادمة.
ولعل احتجاج رئيس مجلس النواب الأردني على عدم دعوة الوفد البرلماني السوري لاجتماع اتحاد البرلمانيين العرب الذي عقد في المغرب قبل خمسة أيام يجسد هذه النقلة، خاصة بعد زيارة القائم بالأعمال السوري في عمّان، أيمن علوش، للطراونة الذي بارك له بدوره التقدم الذي يحرزه الجيش السوري ميدانيًا، فضلاً عما يثار بشأن استعداده للقيام بزيارة لمجلس الشعب السوري في دمشق خلال الفترة المقبلة.
وفي العراق.. تجمع الأردن علاقات وثيقة الصلة مع حكومة نوري المالكي “المستقيلة” والمعروف عنها قربها الواضح من إيران، تجسد في الاتفاق على تنفيذ بعض المشروعات المشتركة بين الجانبين، على رأسها إقامة أنبوب نفط يمتد من الأراضي العراقية إلى ميناء العقبة الأردني، من شأنه تخفيف أعباء الأردن من المشاكل الطاقة التي يواجهها، هذا بالإضافة إلى ما تم إعلانه مؤخرًا بشأن مشاركة رئيس البرلمان الأردني في مؤتمر بطهران لدعم قضية القدس في مواجهة التهويد.
تساءل الفلسطينيون في الأردن “عما إذا كان محمد بن سلمان يريد ابتزاز البنك العربي، مقابل الإفراج عن المصري، ويأخذ كل ما وفروه من تعب العمر في الأردن”
الأمر لم يختلف كثيرًا عن الأزمة الخليجية مع قطر، فبعد استجابة الأردن للضغوط السعودية في بداية الأزمة التي اشتعل فتيلها 5 من يونيو/حزيران الماضي، بتخفيض تمثيله الدبلوماسي للدوحة، عاود بعد فترة ليست بالطويلة استعادة العلاقات مرة أخرى بشكل طبيعي، أسفرت عن إجراء العديد من الاتصالات الهاتفية مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، لعل آخرها الاتصال الذي جرى بينهما بعد ساعات قليلة من قرار ترامب.
علاوة على ذلك فتحت عمّان الباب أمام عودة مياه العلاقات مع الدوحة إلى مجاريها بصورة كبيرة، فشارك نخبة من كبار الشخصيات الأردنية الرفيعة في احتفال السفارة القطرية بعمّان بالعيد الوطني للبلاد، كذلك السماح لقناة الجزيرة بتغطية تظاهرات الشوارع الأردنية الداعمة للقدس، هذا في مقابل حالة من المغازلة الإعلامية للقناة القطرية تجاه الأردن رغم غلق مكتبها هنالك وهو ما يشير إلى رضى متبادل بين الطرفين بعد فترة من الشد والجذب والتوتر.
حرص الأردن على العلاقات مع قطر، لم يقتصر على البُعد السياسي فحسب، إذ كان الاقتصاد حاضرًا وبقوة في هذا المشهد، خاصة أن حجم الاستثمارات القطرية في الأردن بلغ نحو 1.6 مليار دولار، النسبة العظمى منها في السياحة، كما أنها تستورد نحو 11% من صادرات الفواكه والخضراوات والأغذية الأخرى الأردنية بقيمة تزيد على 100 مليون دولار سنويًّا، وتستهلك أكثر من ثلث الصادرات الأردنية من المواشي، بجانب وجود أكثر من 40 ألف عامل أردني وافد في قطر.
رسائل سياسية بعثت بها قمة إسطنبول
طوق النجاة
ثلاثة مشاهد رئيسية خلال الأيام القليلة الماضية رسمت وبشكل كبير بعض ملامح توجهات عمّان المستقبلية وما يثار بشأن تحالفات جديدة يتم تدشينها في مقابل أخرى تلفظ أنفاسها الأخيرة.
المشهد الأول: الزيارة الأولى للعاهل الأردني لبحث ملف القضية الفلسطينية عقب القرار الأمريكي كانت إلى إسطنبول، بهدف التنسيق مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في القضية التي تُمثل فيها المملكة الهاشمية أكبر المتضرّرين، إلى جانب فلسطين.
المشهد الثاني: قبلها بساعات قليلة تلقى اتصالاً هاتفيًا من أمير قطر، تباحثا فيه معًا مآلات القضية والخيارات المُتاحة أمام كلا البلدين لمواجهة هذا القرار الذي يؤسّس لمرحلة استثنائية في تاريخ القضية الفلسطينية والمنطقة العربية.
المشهد الثالث: ظهور العاهل الأردني في الصف الأول ملاصقًا للرئيس التركي وبجوارهما أمير الكويت ثم الرئيس الإيراني، وسط غياب قادة كل من السعودية والإمارات ومصر، ربما تبعث برسائل ضمنية سياسية تسير في إطار توجه جديد ربما تنتهجه عمّان الفترة القادمة.
“نعتقد أن في كل من الدوحة وإسطنبول وطهران ودمشق، ما يُمكن أن يُشكّل طوق نجاة للأردن”، بهذه الكلمات اختتم الكاتب الصحفي الفلسطيني خالد الجيوسي، مقاله المنشور بموقع “رأي اليوم“، متابعًا: “لو نظرنا إلى القُدرات السعوديّة في قائمة “بطح” الدول، سنجد أنها خسرت حتى في جلب تعاطف داخل جبهتها الداخلية، وسيفها المُسلط على رِقاب الدول، لا يجب أن يصل إلى الأردن، والعين بالعين، والسن بالسن، والبادئ أظلم”، متسائلاً: “أليس كذلك؟”
وصاية سعودية بمقاطعة قمة إسطنبول أو تخفيض مستوى التمثيل على أقل تقدير، تزامنت مع اعتقال أحد أكبر أعمدة الاقتصاد الأردني، كفيلة بأن تطرح العديد من التساؤلات
قراءة المشهد بشكل واقعي، تستبعد أن يضحي الأردن بكامل علاقاته مع السعودية أو الإمارات، وذلك للعديد من الاعتبارات ربما على رأسها الاقتصادية بالدرجة الأولى، إذ يعمل بالسعودية وحدها قرابة نصف مليون أردني، كذا الوضع في الإمارات، فضلاً عن المساعدات المقدمة من دول الخليج لعمّان التي تشكل أحد أبرز الداعامات الرئيسية للاقتصاد الأردني.
لكن في الوقت ذاته، فإن النقلة النوعية التي تشهدها السياسة الخارجية الأردنية تؤكد أنها لم تتماه في علاقات “تبعية كاملة” مع حلفائها القدامى، الرياض وأبو ظبي على وجه التحديد، خاصة بعدما كشفه التلاسن الأخير من نوايا كامنة تكنها بعض العواصم الخليجية تجاه المملكة، وهو ما قد يدفعها إلى إعادة نظر في قبلتها المستقبلية تسعى من خلالها إلى تغليب مصالحها الخاصة وتثبيت أركانها في مواجهة حلفها القديم، عبر مباشرة خطوات موازية وغير منسقة مع حُلفاء جدد مثل تركيا وقطر.