لا تزال أصداء موافقة حماس على مقترح الوسطاء، مصر وقطر، بشأن اتفاق التهدئة، والتي أعلنت عنها في السادس من الشهر الجاري، تلقي بظلالها على المشهد الغزي، بعدما بعثرت الحركة بتلك الخطوة كل أوراق حكومة نتنياهو وحشرتها في زاوية ضيقة، ما دفعها لشن عملية عسكرية في رفح، لم تخل من مظاهر استعراض القوة ومحاولة طمأنة الداخل الإسرائيلي بعدم رضوخ الكيان للضغوط الإقليمية والدولية.
وبعيدًا عن مسألة استبعاد ألا يكون هذا المقترح قد حظي بالموافقة الأمريكية ابتداء، بعد التشاور مع الحليف الإسرائيلي، ومنح الضوء الأخضر للوسطاء لتقديمه لحماس، فإن الصدمة الأبرز التي تضمنها رد فعل حكومة الحرب المحتلة إزاء هذا الأمر تتعلق بفكرة القبول الحمساوي للمقترح من الأساس، وهو ما كان يستبعده نتنياهو على وجه التحديد، وكان يتخذ من هذا الرفض شماعة يبرئ بها ساحته أمام عائلات الأسرى الإسرائيليين الذين يطالبونه بإبرام صفقة تبادل مهما كان الثمن.
ورغم أن المقترح الذي وافقت عليه حماس لم يتضمن جديدًا فيما يتعلق بالإطار العام المتفق عليه خلال جولات التفاوض المكوكية التي أجراها الوسطاء ومدير الاستخبارات الأمريكية ووفود حماس والكيان على مدار الأيام الماضية، فإن نتنياهو وجنرالاته أشاروا إلى وجود نقاط عدة لم تشملها تلك التفاهمات وأن حماس أقرتها بما يخدم أهدافها وهو ما لا يحقق طموحات ومطالب “إسرائيل”.
عاجل | "حـ.ماس": نؤكد التزامنا وتمسكنا بموقفنا بالموافقة على الورقة التي قدَّمها الوسطاء pic.twitter.com/1ltMNwBjAz
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) May 9, 2024
نقاط الخلاف.. قراءات متباينة
بداية تجدر الإشارة إلى أن معظم البنود التي تضمنها المقترح الذي أعلنت حماس الموافقة عليه ونشرته قناة الجزيرة وغيرها، هي محل اتفاق من جميع الأطراف، وكثير منها تضمنته الورقة المقدمة في مفاوضات باريس الأولى والثانية فبراير/شباط الماضي، والمقترح الآخر الذي خرجت به مباحثات القاهرة – الدوحة أبريل/نيسان الماضي.
حتى التعديلات التي أدخلتها حماس على ورقة باريس والتي تتمحور حول انسحاب الاحتلال من كامل قطاع غزة وعودة النازحين وزيادة المساعدات الإنسانية للقطاع وإعادة الإعمار، في مقابل تبادل لكل المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة نظير تحرير عدد – لم يتفق عليه – من الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، حظيت في العموم بالموافقة المبدئية من الجانب الإسرائيلي والحليف الأمريكي.
إلا أن الجانب الإسرائيلي قال إن المقترح الأخير الذي وافقت عليه حماس تضمن بنودًا لم يتم الاتفاق عليها ولا تلبي طموحات الكيان، وهي المسائل التي لخصتها صحيفة “The New York Times” الأمريكية، في أربع نقاط رئيسية:
أولًا: الهدوء المستدام والوقف الدائم لإطلاق النار.. من الواضح أن هناك قراءات مختلفة للمصطلحات التي تضمنها المقترح، وعلى رأسه مصطلح “الهدوء المستدام”، حيث جاء في الورقة التي وافقت عليها الحركة في أبريل/نيسان الماضي، وأيضًا وافقت عليها حكومة نتنياهو “أن الجانبين سوف يعملان على تحقيق الهدوء المستدام في غزة بعد توقف أولي للقتال لمدة ستة أسابيع”.
أما المقترح الذي وافقت عليه الحركة قبل يومين، وأدخلت عليه بعض التعديلات بموافقة رئيس جهاز المخابرات الأمريكية وليام بيرنز، وممثلي الوسيطين المصري والقطري، فتضمن تعريفًا واضحًا لمفهوم “الهدوء المستدام” يشير إلى وقف دائم للأعمال العدائية وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة.
وبحسب موقع “فوكس” الأمريكي فإن استخدام هذا المصطلح الفضفاض صياغة قيل إن الولايات المتحدة صاغتها للسماح للإسرائيليين بتجنب الالتزام مقدمًا بوقف دائم لإطلاق النار، فيما يأمل البيت الأبيض أن يؤدي وقف القتال خلال المرحلة الأولى إلى إتاحة المجال للمفاوضات بشأن سلام أطول أمدًا.
ويعارض الإسرائيليون – النخبة العسكرية تحديدًا – إبرام اتفاق يقضي بإنهاء الحرب بشكل كامل دون تحقيق أهدافها التي يرى نتنياهو أنها السبيل الوحيد لنجاته من مقصلة الإقصاء، إذا ما انتهت تلك المعركة دون انتصار يحفظ به ماء وجهه ويسوقه للداخل الإسرائيلي ويعيد به ترميم صورته المشوهة بسبب الفشل في إدارتها.
عاجل | وزير الدفاع الإسرائيلي ردًا على بايدن: سنحافظ على وجود دولة إسرائيل مهما كان الثمن pic.twitter.com/nM6q7TeXMt
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) May 9, 2024
ثانيًا: جدولة الإفراج عن الأسرى.. في المسودة التي وافقت عليها حماس فإن مخطط إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة يتلخص في إطلاق سراح 3 منهم في اليوم الثالث بعد الهدنة، ثم ثلاثة آخرين كل سبعة أيام بعد ذلك، ثم سيتم إطلاق سراح الباقين في نهاية الأسابيع الستة، أما في مقترح أبريل/نيسان فكان ينص على أن يتم إطلاق سراح 3 رهائن كل ثلاثة أيام، بمعدل رهينة كل يوم.
ورغم أن الخلافات بشأن هذه المسألة ليست كبيرة ولا حادة بالشكل المقلق، فإن هناك من يقول داخل الأوساط الإسرائيلية إنه وفق هذا الجدول فإن المرحلة الثانية من الصفقة – بعد ستة أسابيع من بداية دخول الصفقة حيز التنفيذ – ستجري بينما تمتلك المقاومة المزيد من أوراق المساومة، وهو ما يقلق الجانب الإسرائيلي الذي كان يخطط لإطلاق سراح كل المحتجزين قبل بداية المرحلة الثانية، في محاولة لتجريد حماس من أوراق الضغط التي بحوزتها كافة.
ثالثًا: الرهائن بين الحياة والموت.. في مسودة أبريل/نيسان كان النص يقول إن حماس ستطلق سراح 33 من الأسرى الإسرائيليات لديها، بما في ذلك المجندات، وكذلك كبار السن من الرجال والمرضى والجرحى، دون تحديد هويتهم ولا وضعيتهم الصحية والحياتية.
لكن في المقترح الأخير أبلغت الحركة الوسطاء أن العدد المتفق عليه وهو 33 أسيرة ومحتجزة ليست كلهن على قيد الحياة، وأن بعضهن قُتل بسبب القصف الإسرائيلي، وستسلم رفاتهن في أثناء عملية التبادل، وهو ما فاجأ الجانب الإسرائيلي بحسب الصحيفة الأمريكية.
رابعًا: الأسرى الفلسطينيون أصحاب المؤبد.. تُصر حماس خلال الورقة الأخيرة التي وافقت عليها على أن يكون من بين الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم وفق الصفقة بعض من أصحاب أحكام المؤبد والبالغ عددهم قرابة 200 أسير، إلا أن حكومة الاحتلال ترفض الإفراج عنهم نهائيًا، رغم الضغوط الممارسة عليها، وإن كانت هناك تقارير تشير إلى مرونة نسبية لدى تل أبيب في هذه المسألة لكن بشروط خاصة ربما لا تعترض عليها حركة المقاومة من بينها مثلًا أن يتم إبعاد المفرج عنهم إلى القطاع أو خارج الأراضي الفلسطينية وليس إلى الضفة.
عملية رفح.. ابتزاز إسرائيلي وتفاؤل أمريكي
لم يجد نتنياهو أمام الورطة التي أوقعته فيها حماس بقبولها لمقترح الوسطاء، وإحراجه داخليًا وخارجيًا، وبعثرة أوراقه كافة، إلا الانقلاب عليه بزعم النقاط الخلافية سالفة الذكر، والتي اعتبرها لا تتناسب مع مطالب الكيان وتزيد من وضعيته المتأزمة بطبيعة الحال، وعليه كان الهجوم على رفح هو الرد المتوقع، على أمل تحقيق ما لم يحققه في الشمال والوسط على مدار سبعة أشهر كاملة.
ورغم إيمان نتنياهو ونخبته السياسية والعسكرية، ومعهم الأمريكان، إدارة وشعبًا، ويقين الوسطاء والغزيين والمقاومة، من أن عملية رفح لن تفضي إلى نتيجة مغايرة لما أفضت إليه الحرب طيلة الـ215 يومًا المنقضية، فإن تنفيذها كان مسألة حيوية لنتنياهو الذي يسعى جاهدًا من خلالها لفرض معادلة جديدة تمنحه أوراق ضغط إضافية تعزز من قوته على طاولة التفاوض.
ويتفق الجميع على أن الضغط على حماس والوسطاء لأجل تقديم تنازلات، وإيهام الرأي العام الإسرائيلي بانتصار وهمي عبر احتلال ما تبقى من غزة، وإحكام السيطرة على كل منافذ الدخول والخروج منها وإليها، هو المحرك الأبرز لاقتحام رفح، وهو ما تكشفه مشاهد استعراض القوة التي تناقلتها الجروبات العبرية في أثناء عملية الدخول.
وتشير وسائل الإعلام العبرية والأمريكية إلى أن العملية محدودة في نطاقيها الجغرافي والزمني، وفق التفاهمات التي جرت بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن، تجنبًا لمزيد من التصعيد وارتكاب المجازر الدموية بحق المدنيين المتكدسين في رفح، ما قد يضع واشنطن في حرج كبير، ويضع المنطقة بأسرها فوق فوهة بركان قد يهدد مصالح الأمريكان وحلفائهم في الشرق الأوسط، ويصب في خدمة خصمي أمريكا اللدودين، الصين وروسيا.
بعد ساعات من تهديد الرئيس الأمريكي، جو #بايدن، بإيقاف توريد الأسلـ،ـحة للكيان الإسرائيلي في حال شنّ هجومًا بريًّا واسعًا في رفح.. إذاعة الجيش الإسرائيلي تعلن عن توقف العملية العسكرية الموسّعة في #رفح #غزة pic.twitter.com/Qd8BHYdUZd
— نون بوست (@NoonPost) May 9, 2024
وفي هذا السياق ورغم تلك النقاط الخلافية، هناك تفاؤل أمريكي بشأن جولة المفاوضات الراهنة، وقدرتها على تقريب وجهات النظر إزاء تلك النقاط، كما جاء على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض جون إف كيربي، الذي قال إن حماس قدمت اقتراحًا معدلًا وإن النص الجديد يشير إلى أن الفجوات المتبقية يمكن “سدها تمامًا” وتابع: “لا ينبغي أن يكون هناك سبب يمنعهم – في إشارة إلى حماس و”إسرائيل” – من التغلب على تلك الفجوات المتبقية”.
وتحاول إدارة بايدن – على عكس العادة – الضغط على حكومة نتنياهو للجلوس إلى طاولة المفاوضات وقبول المقترح، حتى إن أجريت بعض التعديلات عليه، خشية تعرضها لـ”لعنة التورط في الدم الفلسطيني” في ظل المد الطلابي والشعبي المتصاعد ضدها وضد دعمها اللامحدود لحكومة الحرب الإسرائيلية، بما يقلص من فرصها في الانتخابات القادمة.
فيما اتخذ بايدن إجراءات ضاغطة، ربما تكون الأولى من نوعها منذ بداية الحرب، أبرزها تأخر إرسال شحنات الأسلحة لـ”إسرائيل”، وهي الخطوة التي أثارت قلق النخبة العسكرية والسياسية للكيان المحتل وتراها تحولًا خطيرًا يهدد نفوذ “إسرائيل” ويقوض مكانتها ليس في غزة فقط.
عاجل | المـ.قاومة الإسلامية في العراق: هاجمنا بالطيران المُسيَّر قاعدة نيفاتيم الصهـ.يونية في بئر السبع فجر اليوم pic.twitter.com/nBNzZOEqH3
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) May 9, 2024
ورغم تلك الضغوط، فإن مستقبل الصفقة ما زال غامضًا، ولا يمكن التيقن من أي مسار ستكون، في ظل انفتاح المشهد على كل السيناريوهات، وإصرار نتنياهو وعناده على نجاته من مقصلة الإقصاء من خلال تحقيق انتصارات يبرئ بها ساحته أمام الشارع الإسرائيلي، وعليه فليس أمامه من سبيل إلا إرجاء حسم مستقبله السياسي عبر إطالة أمد الحرب وإشعال المعركة على أكثر من جانب.
وفي الأخير، وفي ظل الخذلان العربي المعتاد وتراجع احتمالات توظيف أوراق الضغط التي بحوزة الأنظمة العربية، حيث المقاربات والحسابات الخاصة، تبقى الكرة في ملعب المقاومة، سواء داخل فلسطين أم عبر الجبهات الإقليمية الأخرى، لبنان واليمن والعراق، فاستمرار عملية رفح مرهون بكلفة تلك العملية، والثمن المتوقع أن يدفعه جيش الاحتلال بسببها، وهو ما بدا يلوح في الأفق خلال الساعات الماضية.