ولدت سلالة المرابطين من رمال الصحراء في القرن الحادي عشر، وحكمت إمبراطورية هائلة عابرة للقارات، تمتد على مضيق جبل طارق، من نهري النيجر والسنغال في الجنوب، إلى نهر تاجة في الشمال وتوسعت نحو الشرق إلى بجاية الجزائرية.
لكن لكل قوة عظمى انتكاسة، فمع عودة انتشار الملذات والفتن وانصراف الحكام إلى الجهاد وترك أمور الرعية، بدأ العِقد في التفكك وتراجع نفوذ دولة المرابطين خاصة في عهد أمير المسلمين تاشفين بن علي ومن بعده ابنه إبراهيم الذي تسلم الحكم في سن صغيرة.
ولإن حكم تاشفين لقرابة السنة والنصف، فإن ابنه لم ينعم بالحكم أصلًا، حيث تقلّد السلطة لفترة وجيزة، وهو أقصر عمرًا بين جميع أفراد الأسرة المرابطية الحاكمة، حتى إنه يمكن القول إنه بالكاد مارس السلطة، وقد عارضه عمه إسحاق بن علي، ما أحدث فتنة بين المرابطين.
ابراهيم بن تاشفين
وُلد أبو إسحاق ابراهيم بن تاشفين بن علي سنة 525 هجريًا، الموافق سنة 1131 ميلاديًا، في قرطبة ببلاد الأندلس، وكان والده حينها واليًا على المدينة، مكرسًا كل وقته لمحاربة ملوك الصليبيين والإفرنج بأمر من جده أمير المسلمين علي بن يوسف.
اشتهرت بلاد الأندلس في تلك الفترة بكثرة الحروب، فملوك الطوائف استنجدوا بالمرابطين لصد تحرشات الصليبيين، وبعد ذلك سيطر المرابطون على إمارات الأندلس – لانصراف ملوكها وأمرائها للهو والطرب وابتعادهم عن الدين الإسلامي والنظر في شؤون الرعية – وصوّبوا جيوشهم للأعداء.
مع ذلك، لم تحد الأندلس عن وظيفتها العلمية البارزة، إذ انتشرت فيها المدارس ومجالس العلم وكانت قبلة لكل عالم وطالب علم في المنطقة، وعرف الأندلسيون بحبهم للعلم وشغفهم الكبير بالتعلم، وفي ظل قلة العلماء في بلاد المغرب، استقدم ملوك وأمراء الدولة المرابطية أعلام الفقهاء والعلماء والأدباء والشعراء من الأندلس لتأديب بنيهم، وحضور مجالس مشورتهم.
تسلم أمير المسلمين، ابراهيم بن تاشفين، حكم المرابطين ولم يبق تحت سيطرتهم سوى جزء بسيط من المغرب والأندلس
ونظرًا لوجوده في ذلك الوقت بقرطبة، فإن تاشفين لم يجد صعوبة في تعليم ابنه ابراهيم، إذ خصص له العلماء لتعليمه أصول الدين الإسلامي وتثقيفه والنهل من التقدم الفكري والحضاري الذي سبقتهم فيه الأندلس، وذلك حتى يكون قادرًا على المهمة التي تنتظره على رأس الدولة المرابطية.
حرص أمير المسلمين تاشفين بن علي على تعليم ولده ابراهيم، فهو ولي العهد وقائد المرابطين من بعده، وبالتزامن مع ذلك عمل على تعليمه الفروسية وحمل السلاح والقتال به، خاصة أنه تنتظره حروب كثيرة.
وتتلمذ الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين على يد الشيخ أبي يعلى الصفدي في أثناء إمارته على مرسية وتعلم من الطبيب ابن زهر، وأقبل على الثقافة والعلم، وبرع في معرفة الأخبار والسنن والآثار، وصحب العلماء للسماع والتعلم.
ولاية العهد
انشغال المرابطين بحرب الموحدين في المغرب، دفع الأمير إبراهيم للتركيز على الجيش، إذ كلّفه والده بقيادة العسكر في قرطبة لحمايتها من الصليبيين ودفع الفتن والفوضى عنها، لأن العديد من أبناء عائلات ملوك الطوائف يتربصون بالمرابطين حتى يعودوا للحكم.
اشتدت الحرب في المغرب وقويت شوكت قائد الموحدين عبد المؤمن بن علي، إذ سيطر خليفة المهدي ابن تومرت (مؤسس دولة الموحدين) على مناطق واسعة في الجنوب وامتد نفوذه نحو الشمال والشرق، وهو ما جعل جيش المرابطين يحل به الوهن.
من سوء حظ أمير المسلمين الجديد أن إمارته لم تحظ بقبول عمه إسحاق بن علي، إذ نقض بيعته ودعا لنفسه بالإمارة ووقع الخلاف بين الطرفين في مركز الحكم بمراكش
في تلك الأثناء توجه أمير المسلمين تاشفين بن علي إلى تلمسان لمحاربة عبد المؤمن بن علي واستقدم جزءًا كبيرًا من جيشه في بلاد الأندلس لدعمه ومساعدته في حربه القادمة، وكان من بين القادة الذين استدعاهم ابنه إبراهيم.
وصل إبراهيم مدينة تلمسان في غرب الجزائر أواخر سنة 538 هجريًا، الموافق 1144 ميلاديًا، وما إن وصل المعسكر المرابطي حتى ولاه والده ولاية العهد، حتى يضع حدًا للصراع على السلطة ويكون قائد المرابطين من بعده.
علم أمير المسلمين أن الهزيمة ستكون مصيرهم وأن تلمسان ستسقط في يد الموحدين وستكون عاصمة الحكم وجهتهم القادمة، فقرر التوجه نحو وهران لإعادة ترتيب الجيش وأرسل ولي العهد إبراهيم إلى مراكش صحبة جماعة من قبيلة لمتونة لحمايتها.
الصراع بين الأسرة الحاكمة
عاد الأمير إبراهيم إلى العاصمة مراكش في شهر شعبان 539 هجريًا، يناير/كانون الثاني 1145 ميلاديًا، وبدأ في تقوية أسوار وحصون المدينة، تحسبًا لأي هجوم عسكري مباغت من عسكر الموحدين الراغبين في السيطرة على مركز حكم المرابطين.
وكان على إبراهيم أن يحافظ على أمن المدينة، فسقوطها بيد الموحدين يعني انهيار دولة المرابطين ونهاية عهدهم، فجمع قادة العسكر ووضع خطط الدفاع رغم صغر سنه وقلة خبرته مقارنة بالأمور التي تنتظره.
وما هو إلا شهر فقط حتى وصله خبر موت أبيه تاشفين في وهران نتيجة سقوط حصانه من على أحد أسوار المدينة، فتمت مبايعة إبراهيم أميرًا على المرابطين، ليكون بذلك الأمير السابع لدولة المرابطين التي بدأت مع الأمير يحي بن إبراهيم اللمتوني.
تسلم أمير المسلمين، إبراهيم بن تاشفين، حكم المرابطين ولم يبق تحت سيطرتهم سوى جزء بسيط من المغرب والأندلس، ذلك أن الموحدين سيطروا على أغلب المناطق في جنوب الصحراء والجزء الشرقي للدولة الممتد في الجزائر.
لكن من سوء حظ أمير المسلمين الجديد أن إمارته لم تحظ بقبول عمه إسحاق بن علي، إذ نقض بيعته ودعا لنفسه بالإمارة ووقع الخلاف والتدابير بين الطرفين في مركز الحكم بمراكش.
نزل الموحدون سنة 539 هجريًا في ساحل الجزيرة الخضراء وكانت مدينة شريس أول بلد سيطروا عليه من الأندلس بعد أن أقاموا صلحًا مع قائدها أبو القمر من بنى غانية
وتذكر بعض المراجع أن أبيه علي بن يوسف بن تاشفين عزم مبايعته وليًا للعهد سنة 536 هجريًا بدلًا من أخيه تاشفين بن علي، بعد فشل الأخير في عدة مواجهات أمام الموحدين، لكنه توفي بعد أشهر دون أن يتم ذلك، ومع تولي تاشفين للحكم ذهبت ولاية العهد ومن ثم الإمارة لابنه إبراهيم.
وعوض أن يركز أمير المسلمين الجديد وقته وجهده للإعداد لمحاربة الموحدين الزاحفين على مراكش من الشرق والغرب والجنوب، كان عليه أن يحارب عمّه الذي يزاحمه في الملك، لكن لم تكن له القوة لذلك، فعوده ضعيف وأغلب وقته كان في الأندلس، والجند والقادة يوالون عمه إسحاق.
العزل من الحكم
عارض إسحاق بن علي حكم ابن أخيه، ما أحدث فتنة بين المرابطين، واستنجد كل طرف بالقادة الموالين له لتغليب كفته، وكان الموحدون في ذلك الوقت على مشارف مدينة فاس يبتغون السيطرة عليها والتقدم نحو العاصمة مراكش.
لم يدم الصراع طويلًا، فسرعان ما مالت الكفة لصالح الأمير إسحاق، فهو الأكبر سنًا والأكثر نفوذًا، ورأى المرابطون أنه الأجدر بقيادتهم في هذا الظرف الصعب، فالموحدون يحاصرونهم من كل اتجاه والأهالي داخل المدن التابعة لهم في تململ متواصل.
بعد أشهر قليلة من توليه حكم البلاد، تم عزل أمير المسلمين إبراهيم بن تاشفين وتولى عمه إسحاق الحكم مكانه، وكان عمره حينها 14 سنة، أي أنه الأقصر حكمًا وعمرًا بين جميع أفراد الأسرة المرابطية الحاكمة.
وبينما كانت العائلة المرابطية الحاكمة تتصارع فيما بينها على الحكم، كان عساكر الموحدين يتجهون إلى الشمال نحو الأندلس، حيث نزل الموحدون سنة 539 هجريًا في ساحل الجزيرة الخضراء وكان أول بلد سيطروا عليه من الأندلس هو مدينة شريش بعد أن أقاموا صلحًا مع قائدها أبو القمر من بنى غانية.
بعد عامين من عزله عن الحكم، قُتل الأمير إبراهيم على يد الموحدين الذين دخلوا العاصمة مراكش واستولوا على حكم المرابطين الذي امتدّ لنحو قرن من الزمن، تمكنوا خلاله من الربط بشكل مستدام بين مناطق جنوب الصحراء الكبرى ومنطقة البحر الأبيض المتوسط في إطار الدين الإسلامي.