تتوالى الشهادات الصادمة من جنود إسرائيليين قدامى شاركوا في نكبة 1948، يجلسون أمام الكاميرات بتفاخر حينًا وبخجل مصطنع في أحيان أخرى، يروون الفظائع التي ارتكبوها دون أن يسائلهم أحد ودون أن يخشوا دوران الزمان.
والنكبة للفلسطيني ليست حدثًا تاريخيًا ينتمي إلى الماضي وتسقط جرائمه بالتقادم، بل هي عملية مستمرة أنتجت عقودًا من الانتهاكات الممتدة ضد شعب بأكمله، شردت منه 750 ألفًا حين كان تعداده 1.9 مليون فقط، وظلَّ اللاجئون في المنفى يتكاثرون، وظلَّ من بقي يرزح تحت المطرقة والسندان، ملايين الفلسطينيين اليوم تحدد النكبة لا ماضيهم وحسب لكن واقعهم المعاش ومستقبلهم المنظور.
الآن يعيد التاريخ نفسه، وتتواصل المقتلة في القطاع بأبشع ممّا كان، حتى غدت مسألة محاكمة المجرمين القدامى مؤشرًا من نوع ما على إمكانية ملاحقة المجرمين الجدد، فهم أصل الحكاية. فهل يمكن في ظل الشهادات المتواترة والاعترافات الصادمة أن تتم ملاحقة هؤلاء؟ أي إطار قانوني يحاسب على جرائم النكبة؟ وهل ما يحدث اليوم في القطاع تكرار لماضٍ مرير أم اتصال لجرح واحد ممتد؟ يحاول هذا المقال تقديم إضاءات على هذه الأسئلة.
النكبة: أول فصول الإبادة الجماعية
بدأت سياسة التطهير العرقي للفلسطينيين قبل 15 مايو/ أيار 1948 بعقود، إلا أن هذا التاريخ توّج المقتلة المستمرة، حيث احتلت القوات الصهيونية إبّان النكبة 78% من أرض فلسطين التاريخية، ودمّرت 530 مدينة وقرية، وقتلت 15 ألف فلسطيني في إطار فعلي من الإبادة الجماعية. لكن هل يقع كل هذا ضمن التعريف المحدد للجريمة في القانون الدولي؟ وهل يمكن لمحكمة العدل الدولية أن تنظر مسألة النكبة وفق هذا التصور؟
قدّمت المحرقة تصورًا حول تعريف الإبادة الجماعية، وقد عبّر رافييل لمكين، القانوني اليهودي من أصل بولندي وصاحب مصطلح “الإبادة الجماعية” عام 1944، عن جوهر المصطلح بأنه عادة ما يتحقق باستهداف البنية السياسية والاجتماعية للجماعة الوطنية، وبإضعاف شعورها بالأمان والحرية والكرامة، وبتدمير لغتها ومعتقداتها وثقافتها، أي باستهداف عناصر وجودها كجماعة مميزة بشتى الوسائل، بينما يعدّ القتل الفعلي آخرها.
بعد أشهر قليلة من نكبة 1948، تبنّت الأمم المتحدة اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ليكتسي معها المصطلح معنى قانونيًا محددًا، وينطوي أساسًا على نية التدمير الجزئي أو الكلي، وتكون ضحيته الأساسية الجماعة المميزة عرقية كانت أو قومية أو وطنية أو دينية.
وتشتمل الجريمة قتل أعضاء الجماعة أو التسبُّب في أذى جسدي أو نفسي كبير، أو التسبُّب في ظروف معيشية من شأنها تدمير الجماعة بشكل كلي أو جزئي، وهي العناصر التي أكدت عليها مرة أخرى المادة السادسة من ميثاق روما المؤسِّس لمحكمة الجنايات الدولية عام 1998.
من هذا المنطلق، تقع النكبة ضحية المتطلبات التقنية للقانون، فالاتفاقية تتطلب مسؤولية دولية تنطوي على نية جرمية محددة، بينما تنطوي النكبة، خاصة في الفترة التي سبقت ولادة “دولة إسرائيل” والفترة التي تلتها، على عنف المؤسسة الصهيونية وأذرعها من العصابات المسلحة، والتي قد يصعب إثبات صلتها بالحكومة الإسرائيلية بالمعنى القانوني أمام المحكمة، ناهيك عن إمكانية دحض فكرة السياسة الممنهجة الهادفة للتدمير الفعلي للجماعة بصفتها المميزة، تحت غطاء من عشوائية ولا مركزية اتخاذ القرار، ووقوع الفظائع كجزء مؤسف من العمليات القتالية.
وذلك رغم أن المؤشرات على الأرض تشير باتجاه وجود مخطط سياسي وعسكري وثقافي واقتصادي محدد سلفًا، للقضاء على المجتمعات العربية الفلسطينية وتطهيرها عرقيًا بصفتها الجمعية المميزة، ترأّسته الخطة داليت التي نفذتها الهاغاناه وقتها، وما زالت العقلية الإسرائيلية مخلصة لها حتى هذه اللحظة.
يأتي هذا التحدي رغم أن جريمة الإبادة الجماعية تحيل إلى استهداف الوجود الاجتماعي والجمعي للضحية، بكسره وتدميره لا مجرد ترهيبه أو التحكم فيه أو إخضاعه، ما يعني منطقيًا انخراط الدولة بسياسة من العنف الممنهج العام والمتواصل، والذي عادة ما تنخرط فيها أنظمة الاستعمار الإحلالية وينطبق بلا شك على امتداد رحلة الاستعمار الإسرائيلية منذ نكبة 1948، بخلاف ما تتطلبه الاتفاقية من وجود إطار واضح ومحدد ومكثّف، كالحاصل الآن في قطاع غزة والمتحقق في محطات تاريخية أخرى في الرحلة الاستعمارية.
دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ عام 1951، لكن تطبيقها على النكبة وإن بأثر رجعي، وهو ما لا يؤيده كثير من خبراء القانون الدولي، يثير عددًا من التحديات التقنية، خاصة تلك المتعلقة بالنية وصفة الفاعل، ما يشكّل عقبة أمام نظر محكمة العدل الدولية لهكذا قضية.
محاكمة للدولة أم محاكمة للأفراد؟
عادة ما يثار التساؤل حول طبيعة المحاكم الجنائية الدولية، وإذا ما كانت موجّهة للدولة وسياساتها أم للمسؤولين فيها. وفقًا لميثاق محكمة نورمبرغ، أولى المحاكم الجنائية الدولية في التاريخ المعاصر، فإن الجرائم تُرتكب بواسطة الأشخاص الطبيعيين وعليهم يقع العقاب والتجريم، أما الدول وهي شخصيات اعتبارية فليس عليها مسؤولية جنائية، ولا يوقع عليها عقاب بل قد تدان بانتهاكات وأفعال غير قانونية توجب التعويض فقط، بينما يُحاسب مسؤولوها على الجرائم التي وقعت بتوجيه منهم أو تحت إمرتهم.
وعلى ذلك جرت السوابق القضائية؛ فقد حوكِم أفراد من يوغوسلافيا ورواندا السابقتَين بتهم الإبادة الجماعية الموجهة نحو جماعة التوتسي في راوندا عام 1994 ومسلمي البوسنة والهرسك عام 1995، وذلك في محاكم دولية جنائية خاصة بالقضيتَين شكّلتهما الأمم المتحدة لذلك الغرض، حيث يملك مجلس الأمن سلطة إنشاء محاكم جنائية خاصة ذات ولاية محددة، وفقًا لنص المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة.
ورغم إدانة عدد من المسؤولين في القضيتَين، إلا أن الدول نفسها لم تتعرض للإدانة ذاتها، فقد قامت محكمة العدل الدولية بتبرئة صربيا مع كرواتيا من تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، مقتصرة على إدانتها بانتهاك الاتفاقية فيما يخص عدم السعي لمنع ارتكاب الجريمة، وذلك بعد نظر القضية لـ 11 عامًا (1996-2007).
أما فيما يخص محاكمة الإسرائيليين والصهاينة كأفراد قائمين على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية اُرتكبت إبّان نكبة 1948، فإن محكمة الجنايات الدولية أيضًا تتجاوز النكبة بوصفها حدثًا تاريخيًا، نظرًا أولًا إلى اختصاصها الزماني الذي لا يتجاوز الجرائم التي وقعت منذ عام 2002 على أبعد تقدير، وهي بالنسبة إلى الملف الفلسطيني أقرب من ذلك بكثير، إذ يبدأ اختصاص المحكمة الزماني في الملف الفلسطيني من الجرائم المرتكبة عام 2014 فما بعد.
إضافة إلى الاختصاص الجغرافي الذي يحول دون مدّ المحكمة لاختصاصها إلى أراضي الدول التي لا تعدّ أطرافًا في ميثاق روما ومنها “إسرائيل”، وبذلك ينحصر اختصاص المحكمة على ما يمكن تصنيفه على أنه جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جريمة عدوان أو جريمة إبادة جماعية وقعت على الأرض الفلسطينية المحتلة وهي قطاع غزة، والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية منذ عام 2014، لتبدأ بعدها رحلة العناصر والمتطلبات والتقنيات القانونية وآليات التنفيذ المكبّلة، وما تجرّه من إجهاض للحقوق ومدّ لزمان الطغيان وانشغال بالصغائر وتعثُّر بالنظام الدولي المتواطئ.
يظل باب التقاضي مفتوحًا بصورة مبدئية أمام المحاكم الوطنية في الدول المصادقة على اتفاقيات جنيف، وغيرها من الاتفاقيات الدولية التي تؤسّس لمبدأ الاختصاص العالمي، والذي يتيح للمحاكم الوطنية للدول غير ذات الصلة التي لم تقع الجرائم على أراضيها أو ضد مواطنيها، نظر القضايا ذات الطبيعة الجسيمة بصرف النظر عن مكان حدوثها، غير أن اعتبارات مرور الزمان وضياع الأدلة وفقدان الصلات، عدا عن الاعتبارات السياسية خاصة للحكومات الغربية، قد تحول دون نظر هذا النوع من القضايا فعليًا.
ورغم النظرة المتشائمة من ناحية قضائية، ينظر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه إلى الاعتراف بالنكبة على أنها جريمة مستمرة كخطوة أولى باتجاه إنصاف الفلسطينيين، ورغم أنه يرى صعوبة إيقاع العقوبات على الفاعلين والتجريم بمعناه الجنائي البسيط للفعل، إلا أنه يؤكد على أن محاكمة الجريمة لا المجرم قضية لا بدَّ منها، وتعويض الضحايا بالعودة غير المشروطة لأرضهم وأملاكهم كما جاء في قرار الجمعية العامة 194 بعد أشهر قليلة من وقوع النكبة هو أول خطوات الإنصاف.
ولأن “إسرائيل”، الدولة ذات الأكثرية اليهودية القائمة على سرقة أراضي وأملاك العرب، تدرك أن في الخطوة إقدامًا على الانتحار، ترفض الاعتراف بالنكبة وتحاول جاهدة إخفاء حقيقة النوايا الإبادية التي رافقت أنفاسها الأولى.
إطارات قاصرة
يصدف وللسخرية أن الأمم المتحدة تبنّت أكثر أدواتها إنسانية وانبعاثًا من رماد الحرب العالمية الثانية: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، واتفاقيات جنيف الأربعة لحماية المدنيين والفئات المستضعفة في أوقات النزاعات المسلحة، بعد أشهر قليلة من نكبة الفلسطينيين، الأدوات التي ظلت عاجزة أمام التحدي الأهم والأكبر لها: النكبة الفلسطينية المستمرة.
فظائع النكبة من قتل وتهجير وتطهير عرقي وتدمير للعمران وسرقة للموارد والأراضي، حَوَتها عدة اتفاقيات دولية في القانون الجنائي الدولي، وما عُرِف بعدها بالقانون الإنساني الدولي أو قانون الحروب؛ ابتداء باتفاقيات لاهاي عامَي 1899 و1907، ومرورًا باتفاقيات جنيف الأربعة عام 1949 وبروتوكولاتها الملحقة لعام 1977، وانتهاءً بميثاق روما المؤسِّس لمحكمة الجنايات الدولية عام 1998.
وإذا ما نظرنا إلى هذه الجرائم في حدّها الأدنى كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفقًا لتعريف ميثاق محكمة نورمبرغ لعام 1945، فإنها لا تسقط بالتقادم كما بيّنت اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1968، ورغم كل هذه الإطارات الناظمة وحقيقة عدم سقوط الجرائم بالتقادم، فإن قواعد القانون الدولي بصورته الحالية تقصر عن توفير الإطار القانوني الشامل لتقديم إجابات شافية وتحقيق العدالة للفلسطينيين، بعد أكثر من قرن من المظلمة المستمرة.
وبينما يوفر القانون الدولي الإنساني إطارات متنوعة هنا وهناك، لمعالجة بعض الجرائم التي وقعت على الفلسطينيين مثل جرائم التطهير العرقي والفصل العنصري وجريمة الإبادة، إلا أن المظلمة الفلسطينية القائمة على الاستيطان الاستعماري الإحلالي تحتاج إلى ما هو أكبر من هذه الإطارات التي تنطلق من دولانية “إسرائيل” أساسًا وقبل كل شيء، وبالتالي إمكانية محاكمة مسؤوليها عن جرائم تم ارتكابها بعد نشوئها.
إن أيًا من هذه الأطر لا يحاكم مشروعية وجود “إسرائيل” كمشروع استعماري استيطاني إحلالي مخالف في جوهره لقواعد العدالة لا في صورتها الطبيعية وحسب، لكن أيضًا في صورتها المقوننة التي تكفلها قواعد القانون الدولي، وعلى رأسها حق تقرير المصير.
والقصور عن توفير الإطار الشامل للسؤال الفلسطيني ليس المشكلة الوحيدة التي يعاني منها القانون الدولي في التعامل مع النكبة وما تولد عنها، لكن الإطارات التي يوفرها تعطي إجابات خاطئة وتتخذ مسارات بعيدة عن تحقيق العدالة للفلسطينيين، وتعمل على العكس من ذلك على تكريس الانقسام والتشظّي في المجتمع الفلسطيني، حيث ينطبق على كل شظية منه إطار قانوني مختلف، فهناك الضفة والقطاع وهناك القدس وهناك فلسطين الـ 48 وهناك اللاجئون.
هذه الأطر المختلفة تعمل كمسمار في نعش قدرة الفلسطيني على النهوض كشعب واحد، يملك الحق في التمثيل السياسي الذي يعدّ حجر أساس في ممارسة حقه بتقرير مصيره، وعنصرًا لا غنى عنه في سعيه وراء صفة الدولانية، عدا طبعًا عن جوهرية هذا التمثيل في معرض نضاله الوطني. وينبع الأساس الإشكالي في القانون الدولي وأدواته ومؤسساته في النظر إلى الجرائم الإسرائيلية كسلسلة من الانتهاكات المتفرقة ضد أفراد، لا كإطار من العنف المنهجي ضد شعب بصفته الجمعية
العدسة الأدق لرؤية النكبة وتأطيرها ترتكز إلى إطار الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، وهو ما لا وجود له في أطر القانون الدولي والقضاء الدولي الحاليين، نظرًا إلى كونهما أدوات خُلقت لتنظيم الاستعمار لا إنهائه
وحتى في أفضل الأطر القانونية المتاحة لمعالجة النكبة وما تمخّض عنها من اضطهاد وشرذمة وسياسات تطهيرية للشعب الفلسطيني على الامتدادَين الزماني والمكاني، والمتمثلة بإطار الفصل العنصري، فنحن نخاطب مرة أخرى المؤسسة الإسرائيلية لمعالجة سياساتها وإن بصورة راديكالية، لضمان المساواة وقواعد العدالة بين الإسرائيليين و”نظرائهم” من الفلسطينيين، دون الالتفات إلى صفتهم كمنتمين لجماعتَين متمايزتَين لا يدقّ وصفهما بالماء والزيت بقدر وصفهما بالزيت والنار.
وإنّ أفضل السيناريوهات المتمثلة بدولة واحدة أو دولتَين تقومان على أساس تعدد الإثنيات وتمازج الثقافات، لا تزال قاصرة عن معالجة جذر المسألة وتقديم إجابات حقيقية على معضلة النكبة التي يقف فيها شعب مستعمَر في كفة وجموع من المستعمِرين الغرباء في الكفة المقابلة، يسعيان لذات الأرض وذات الموارد وذات تطلعات السيادة والتحرر.
النكبة كجريمة قائمة متصلة
يمكن تجاوز هذه الاعتبارات والقصورات المفصلة آنفًا بالنظر إلى النكبة كعملية مستمرة أفرزت كمًّا هائلًا من الانتهاكات والجرائم المتواصلة ذات الطبيعة المميزة عن الإطارات الموجودة، وإن كانت تستوفي متطلبات معظمها وفقًا لتعريفاتها وعناصرها الموزعة على أدوات القانون الدولي الجنائي والقانون الإنساني الدولي.
السياسة الإسرائيلية المتبعة في البذور الأولى للمشروع ما زالت متصلة دون انقطاع، لكنها تتركز في لحظات من الزمان بينما تتراخى في لحظاته الأخرى، الصورة الكبرى بلا شك تشير باتجاه تواصل سياسة الإبادة الجماعية كسياسة للدولة ومؤسساتها، كما اتضح في التطهير العرقي للقرى الفلسطينية بين عامَي 1948 و1956، والتهجير القسري لـ 300 ألف فلسطيني من الضفة الغربية والقطاع في حرب 1967، والتطهير العرقي للفلسطينيين من منطقة القدس الكبرى على امتداد 5 عقود حتى بات عدد المهجرين منهم 250 ألفًا بحلول العام 2000، والإبادة الجماعية لسكان القطاع بالحصار الخانق والحروب المتتالية وصولًا إلى المقتلة المتواصلة اليوم.
ذلك يصبّ كله في خانة الإبادة الجماعية الآنية والتراكمية، في إطار أكبر ممّا توفره اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وهو إطار النكبة المتصلة والمستمرة كجريمة قائمة تنطوي على أطياف الجرائم المقوننة في القانون الإنساني الدولي، وتتجاوزها دون أن تجد ملاذًا قضائيًا واحدًا ينصفها.
وعليه فإن العدسة الأدق لرؤية النكبة وتأطيرها ترتكز إلى إطار الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، وهو ما لا وجود له في أطر القانون الدولي والقضاء الدولي الحاليين، نظرًا إلى كونهما أدوات خُلقت لتنظيم الاستعمار لا إنهائه، وإنفاذ سياساته الناعمة من قبل القوى الإمبريالية في أوروبا.
وحتى في ظل التغييرات الدراماتيكية التي حلت على منظور القانون الدولي ستينيات القرن الماضي، بتأثير من المستعمرات الملونة حينها بتبنّي إعلان استقلال المستعمرات، ظلَّ الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الذي لا تنطبق عليه متطلبات الاستعمار الفظّ التقليدي محصنًا من التغيير، وإلا لكانت كندا وأستراليا والولايات المتحدة بشكلها المعاصر في مرمى النيران.
خرج مصطلح الفصل العنصري إلى النور من رحم التجربة الجنوب أفريقية، وكذا مصطلح الإبادة الجماعية الذي ألهبته نيران المحرقة، بينما رافق مصطلح التطهير العرقي الحرب الأهلية في البلقان تسعينيات القرن الماضي. هذه الأطر تستمد عناصرها من التجارب التاريخية التي مهّدت لظهورها، أما النكبة فتحمل الدمغة الفلسطينية وتحوي من المكونات والعناصر ما تجمع به المصطلحات المذكورة وتتفوق عليها مؤسِّسة لإطار أبعد منها وأوسع، قادر على تقديم الإجابات التي تقصر عنها تلك المصطلحات، إذ إنه وبخلافها يستهدف أصل المرض لا عوارضه.