تتجدد أزمة مياه الشرب في مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، بعد انخفاض منسوب مياه الآبار وخروج عدد منها عن الخدمة تزامنًا مع انتهاء فصل الشتاء، ما يهدد أكثر من 300 ألف إنسان يعيش في المدينة وضواحيها بالعطش.
وكشف المجلس المحلي لمدينة الباب وريفها، عن انخفاض منسوب مياه الآبار إلى حدود كارثية في محطات الآبار بالقرب من بلدات سوسيان والراعي وصندي، باعتبارها المصادر الرئيسية لتوفير مياه الشرب للأحياء السكنية في المدينة.
وخرجت نحو 3 آبار عن الخدمة من أصل 5 آبار في محطة الراعي، ما أدّى إلى انخفاض كمية المياه من 300 متر إلى 88 مترًا، بينما في محطة سوسيان فقد خرجت 12 بئرًا عن الخدمة من أصل 18 بئرًا، ما تسبّب في انخفاض كمية المياه من 250 مترًا إلى 42 مترًا، بينما في محطة صندي فقط انخفضت غزارة الآبار من 800 متر مكعب إلى 300 متر مكعب.
وبناءً على تراجع منسوب مياه الآبار التي وصلت غزارتها الكلية إلى 3 آلاف و430 مترًا خلال 24 ساعة، فقد قرر المجلس المحلي لمدينة الباب وريفها تقنين المياه وفق جدول ضخّ للأحياء السكنية لمدة ساعتَين كل أسبوعَين، مشيرًا إلى ضرورة ترشيد استهلاك المياه.
وتضخّ محطات الآبار الواقعة قرب بلدات سوسيان والراعي وصندي، المياه إلى خزان البلد الواقع على جبل الشيخ عقيل قرب مدينة الباب، بسعة 10 آلاف متر، بينما تغطي نحو 70% من الأحياء السكنية التي تتوفر فيها شبكات مياه البلدية لمدة ساعتين أسبوعيًا، بينما باقي الأحياء الناشئة والتي تقدَّر بنحو 30% لا تصلها مياه الشرب عبر المجلس المحلي لأسباب عدم وصولها توسعة شبكة المياه والصرف الصحي.
معاناة مضاعفة
يواجه سكان مدينة الباب في ريف حلب الشرقي من صعوبة بالغة في تأمين مياه الشرب لمنازلهم، في ظل تقنين ساعات ضخّ المياه عبر شبكة البلدية ووصولها إلى ساعتين كل أسبوعين، ما يدفعهم إلى الاعتماد على صهاريج المياه التي تنقل من آبار المياه في القرى والبلدات المجاورة.
مصطفى غزال يسكن في الأحياء السكنية الناشئة التي توسعت مؤخرًا بالقرب من طريق قباسين، يواجه صعوبة بالغة في تأمين مياه الشرب لعائلته المكونة من 7 أفراد، بسبب عدم وصول شبكة مياه البلدية إلى منزله، وسط ظروف معيشية سيّئة.
ويقول خلال حديثه لـ”نون بوست”: “لا تصلني مياه الشبكة إطلاقًا، وأعتمد بشكل كلي على شراء المياه من الصهاريج التي تنقل إلى وسط البلد، لكن هناك صعوبة أيضًا في الحصول عليها بسبب الازدحام الشديد والدور والانتظار لساعات”.
وأضاف أن عائلته تحتاج إلى 20 برميلًا من مياه الشرب أسبوعيًا (4 آلاف ليتر)، يعبئها على دفعتين في كل منهما 10 براميل، ويبلغ سعرها نحو 150 ليرة تركية (ما يعادل 4.60 دولارات أمريكية)، ويمكن أن يزيد السعر في حال عدم وصول المياه بسبب الازدحام.
وأوضح أنه يعمل في المياومة، ودخله اليومي يتراوح بين 100 و150 ليرة تركية في أحسن الأحوال، بدخل شهري يتراوح بين 2000 و2500، بينما تصل كلفة المياه شهريًا إلى حدود 1200 ليرة تركية، ما يشكّل عجزًا كبيرًا أمام تأمين احتياجات عائلته.
من جهته، الصيدلاني براء منلا من أهالي مدينة الباب قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “أواجه صعوبة في سبيل توفير المياه لعائلتي المكونة من 5 أفراد، لأن المياه التي تنقلها الصهاريج غير صالحة للشرب ولا تخضع لشروط السلامة الصحية، لذلك أخصّصها للخدمات المنزلية وأشتري مياه معقمة للشرب”.
وأضاف أنه يشتري 5 ليترات من مياه الشرب (الصحة) بقيمة 10 ليرات تركية، و300 ليرة تركية شهريًا (ما يعادل 9 دولارات)، بينما تصل الكلفة الإجمالية للمياه التي يشتريها شهريًا بهدف الخدمات المنزلية إلى حدود 1300 ليرة تركية (ما يعادل 40 دولارًا).
وأوضح أن وضعه المعيشي جيد إلى حد ما، لكن هناك صعوبة في توفير المياه، ولا يمكن للحلول الحالية تحقيق احتياجنا من المياه، لأن مياه الشبكة تصل ساعة أسبوعيًا وهذا الوقت لا يغطي تعبئة 1000 لتر ماء في أحسن الأحوال، والـ 1000 ليتر لا تغطي احتياج الأسرة.
وتنقل الصهاريج نوعَين من المياه، فالأولى مصدرها من محطات الآبار البعيدة في الراعي وسوسيان وصندي، وتكون نظيفة إلى حد ما ويتراوح سعر 10 براميل بين 150 و175 ليرة تركية، والثانية تُنقل من الآبار الواقعة في القرى المحيطة لمدينة الباب، وهي غير صالحة للشرب كونها تحتوي على رواسب ومذاق ورائحة سيّئة، ويبلغ سعر 10 براميل منها نحو 75 ليرة تركية.
وأوضح منلا أن المصدرَين لمياه الشرب التي تُنقل عبر الصهاريج غير صحية، فالأولى معرّضة للجرثمة بسبب النقل عبر صهاريج كبيرة (حيتان) من الآبار إلى وسط الباب، وتفريغها في صهاريج صغيرة التي توصلها إلى المنازل، والثانية من مصدرها فيها مشكلة وتختلط مع مياه الصرف، وتحتوي على رواسب وطعم ورائحة كريهة.
وأكد أن حاجة الأهالي إلى المياه وصعوبة الحصول عليها والوضع المعيشي يدفعهم إلى شراء المياه غير الصالحة للشرب، ما يتسبّب في انتشار الأمراض بينهم، مثل التهاب الكبد والكوليرا والتفوئيد والإسهال والتهاب الأمعاء، ما يرجّح أن المنطقة مقبلة على كارثة في انتشار الأوبئة في حال عدم الاستجابة لها.
ويتراوح الدخل الشهري لدى العاملين في القطاعَين العام والخاص بين 2500 و3000 ليرة تركية، ومن ضمنهم العاملين في الأعمال الحرة (المياومة)، بينما تعدّ مشكلة توفير مياه الشرب صعبة للغاية في ظل انخفاض الدخل، ما يعني أن العائلة تحتاج إلى وضع نصف دخلها لتغطية احتياجها من المياه.
غيابٌ للحلول
رغم استمرار أزمة مياه الشرب في مدينة الباب شرقي حلب منذ قرابة 8 سنوات على التوالي، إلا أن الحلول تكاد معدومة من قبل السلطات المحلية، وسط تفشي الأزمة وارتفاع معاناة الناس، ما استدعى عددًا من المنظمات الإنسانية إلى الاستجابة من خلال توفير المياه عبر حفر آبار في سوسيان والراعي وصندي، لكن في صيف كل عام ينخفض منسوبها.
وكانت تصل المياه إلى مدينة الباب عبر قناة مخصّصة، تمتدّ من محطة الخفسة على ضفة نهر الفرات إلى محطة عين البيضا، التي تبعد عن مدينة الباب حوالي 12 كيلومترًا، بالقرب من بلدة كويرس ثم إلى مدينة الباب، لكن المحطة تقبع تحت سيطرة قوات نظام الأسد.
وفي منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلن المجلس المحلي لمدينة الباب عن توقيع بروتوكول مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، لبدء أعمال تأهيل وإصلاح محطة مياه عين البيضا، وتأمين الموارد والمعدّات وتوريد الكهرباء وتكاليف تشغيل بهدف تغذية مدينة الباب بالمياه.
وأوضح رئيس المجلس المحلي، محمد هيثم الزين الشهابي، في حديثه مع “عنب بلدي”، أن المحطة بحاجة إلى مدّ خط كهربائي من محطة كويرس بمسافة 13 كيلومترًا، وإصلاح مضختَين من أصل أربعة، وإصلاح خزان الصدمة المائية، ومن المفترض المباشرة بأعمال إصلاح المحطة وخط الضخّ وخزان جبل الشيخ عقيل وشبكة المياه في أحياء المدينة.
ورغم توقع الشهابي إنجاز المشروع خلال الأشهر قليلة، إلا أن المجلس المحلي لم يكشف أسباب تعثر عملية إصلاح المضخة التي زارتها اللجان المكلفة من قبل اليونيسف، وسط غياب الحلول الجذرية للأزمة المتجددة.
وأكد المهندس مصطفى الأخرس، رئيس قسم المياه السابق في بلدية الباب، أن البروتوكول كان حبرًا على ورق، لأن محطة عين البيضا مدمرة بالكامل، والخط القادم من المحطة إلى مدينة الباب متضرر ويحتاج إلى صيانة، والعمل على المشروع يحتاج إلى أشهر للإصلاح وتكاليف عالية، ويحتاج إلى تدخل دولي كونه يدخل ضمن مناطق سيطرة قوات نظام الأسد.
ويبقى الأهالي في مدينة الباب أمام أزمة عطش مستمرة منذ سنوات دون حلول جذرية، كما أنها باتت تهدد حياة آلاف السكان الذين لا يستطيعون توفير مياه الشرب، ما يؤدي إلى انتشار الأمراض والأوبئة وجفاف الأراضي الزراعية.