دخلت معركة كسر العظم بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع عامها الأول، مخلفة ما يزيد على 14 ألف قتيل، مع إرغام ما يزيد عن 10 ملايين سوداني على مغادرة منازلهم، علاوة على الأضرار غير المسبوقة التي طالت قطاع البنى التحتية.
ونظرًا إلى تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية، أعلن تحالف الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) انتهاء أعمال مؤتمره العام الثاني يوم الأربعاء الماضي، والتوقيع على قيام ائتلاف جديد يضم حوالي 50 كتلة وكيانًا مؤيدًا للجيش السوداني في حربه ضد ميليشيا الدعم السريع، وتوافقت الأطراف على رسم ملامح الفترة التأسيسية التي تعقب طيّ مرحلة الحرب، وعلى رأسها تشكيل حكومة وحدة وطنية من كفاءات سياسية دون الاعتماد على مبدأ المحاصصة السياسية، على أن يراعى في الاختيار التمثيل الجغرافي.
وأكد البيان الختامي على وجوب احترام السيادة الوطنية، ورفض أي مخططات لتقسيم البلاد، مع المضيّ قدمًا في منبر جدة التفاوضي لإيجاد حل للأزمة عن طريق التفاوض، إضافة إلى المناداة بحكم السودان بمنهج ديمقراطي في الفترة التي تلي نهاية الحرب، فهل تكون الجبهة السياسية الجديدة سببًا في جمع القوى المدنية أم تزيد من تشرذمها وتقسيمها؟
طبيعة الكيان
يضم الائتلاف الجديد في ثناياه قوى الحرية والتغيير (الكتلة الوطنية)، التي تضم طيفًا من الحركات المسلحة والقوى السياسية المدنية التي أعلنت انحيازها للجيش منذ إطاحته بالحكومة المدنية بقيادة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وذلك اعتراضًا على ما وصفته محاولات قوى الحرية والتغيير (الحاضنة السياسية للحكومة المدنية المعزولة) للانفراد بالسلطة.
وبعد نشوب حرب أبريل/ نيسان 2023، واصلت الكتلة مساندتها للجيش، وتماهت مع قادته في موقفهم الواصف للحرية والتغيير بأنها الجناح السياسي لميليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ووقعت أحزاب الكتلة الديمقراطية على البيان الختامي بصفتها الحزبية، وانضمت إليها قوى مسلحة ومدنية وأهلية عديدة.
وشملت قائمة الموقّعين الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وحركة جيش تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة السودانية، وحزب التحرير والعدالة القومي، وحزب الأمة، والمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة وتحالف الخط الوطني (تخطي)، وحزب البعث السوداني، وتجمع قوى التحرير السودان، ومجلس الصحوة الثوري (موسى هلال)، وفصيل منشق عن التجمع الاتحادي، والإرادة الوطنية والمجلس الأعلى للإدارة الاهلية، بالإضافة إلى الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة، والتحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية، وحزب المؤتمر الشعبي، والحزب القومي السوداني.
كما وقّع أيضًا حزب حركة الإصلاح الآن، ومؤتمر البجا المعارض، وحزب المجتمع المدني، وحركة تحرير السودان تمبور، وتنسيقة العودة لمنصة التأسيس، وحركة جيش تحرير السودان المجلس القيادي (شاكوش)، وحزب التحالف السوداني، وتجمع النازحين واللاجئين ومقاتلي مؤتمر البجا، والجبهة الوطنية السودانية، بجانب منظمات المجتمع المدني ومجلس الكنائس وقوى التراضي الوطني، وقوى الهامش الثوري، وسودانيات من أجل الوطن والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة.
ومن ضمن الموقعين كذلك حزب الأمة (الصادق الهادي)، وحزب التجديد الديمقراطي، وحزب التجمع القومي الوطني، وكيان أهل الشمال والحزب القومي السوداني، وتنسيقية شرق السودان، بالإضافة إلى تحالف القوى الوطنية المتحدة، وحزب الحقيقة الفيدرالي، والحركة الوطنية، وحركة العدل والمساواة السودانية، وحزب التنمية التقدمي العدلية، وقوى الحراك الوطني.
خارطة طريق
يرى إبراهيم سعد الله، وهو قيادي في حركة العدل والمساواة أحد الفصائل الرئيسية في الائتلاف الجديد، إن توافق القوى المدنية الوطنية، حدّ وصفه، يأتي لرسم خارطة طريق للبلاد ما بعد الحرب على أيدي السودانيين أنفسهم، ولقطع الطريق أمام المخططات الأجنبية التقسيمية المتبناة بواسطة من ينعتهم بالعملاء والخونة (ربما في إشارة إلى قوى الحرية والتغيير).
ويخشى في السودان من أن تعلن قوات الدعم السريع حكومتها على غرار النموذج الليبي، حال نجحت في اجتياح مدينة الفاشر غربي البلاد، لتضمن بسط سيطرتها على كامل إقليم دارفور الذي يشكّل حوالي ثلث مساحة السودان.
ويرفض سعد الله في حديثه مع “نون بوست” أن يكون الائتلاف الجديد مصنوعًا ليأتي قبالة ائتلاف تنسيقية القوى الديمقراطية (تقدم) بقيادة الحرية والتغيير، وقال إنهم معنيون بشكل خاص بالمحافظة على الوطن، ولوضع لبنة صحيحة للحكم تضع معايير لولاة الأمر على أُسُس ديمقراطية ووطنية، بقيادة سياسيين أكفاء من مشارب مختلفة تعكس فسيفساء التنوع السوداني.
وفي الصدد، وجّه نداء إلى قادة قوات الدعم السريع بإنهاء تمردهم بشكل فوري والجنوح إلى السلم، ولقادة الحرية والتغيير بالانضمام إلى ما يصفه بالصف الوطني.
وعن الاتهامات التي تساق عنهم بأنهم الظهير السياسي للعسكر، ويعملون على تكريس سلطة الجيش، ردَّ سعد الله بتهكُّم قائلًا إن الاتفاق رسّخ لمبدأ تداول الحكم بطريقة ديمقراطية، وفي أحد بنوده طالب بتطوير وتحديث القوات المسلحة، وبناء جيش وطني قومي وموحّد لحماية التراب الوطني والدستور.
تجمع شمولي
وعن وجهة نظر تنسيقية “تقدم” فيما جرى بالقاهرة، يصفه سامر بشري، القيادي في أحد تكوينات التنسيقية الرئيسية (التجمع الاتحادي)، بأنه تجمع للقوى الشمولية وطلاب السلطة برعاية الجيش.
وقال لـ”نون بوست” إن الائتلاف الجديد ما هو إلّا إعادة للسيناريو الرديء ذاته الذي جرى في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، لوأد الثورة التي أطاحت بالمعزول عمر البشير في أبريل/ نيسان 2019، بإعادة إنتاج ذات مخلفات النظام المباد.
وحذّر من أن التحالف الجديد القديم، حد وصفه، في طريقه لضخّ مزيد من الهواء في نار الحرب بالسودان، من خلال دغدغة الحسّ الجهوي والقَبَلي والعشائري، وتغذية الغبائن والانقسامات في المجتمع، يحدث ذلك وسط أكبر حركة لتسليح المدنيين تحت ستار المقاومة الشعبية.
ورغم ذلك، عاد بشري ونوّه إلى أنهم في تقدم غير معنيين بـ”القوى الظلامية” التي تسعى للكرسي حتى وإن تلطخت أيديها بالدم، وماضون في البحث عن إنهاء الحرب ومعاناة السودانيين، وإعادة الجيش إلى ثكناته وإعادة السلطة إلى القوى المدنية الديمقراطية مجددًا.
الدور المصري
بخصوص الدور الذي تلعبه القاهرة في حل أو تأزيم المشكلة السودانية، بدأ القيادي بالتجمع الاتحادي سامر بشري ردّه بالتهكم من الائتلاف الجديد، كون قادته درجوا على ذمّهم على أنهم معارضة الخارج تارة، ومعارضة الفنادق تارة أخرى، لكنهم -أي قادة الجبهة الجديدة- لا يستنكفون عن إقامة مؤتمراتهم خارج البلاد.
وعطفًا على سؤالنا عن الدور المصري، عبّر عن أملهم في أن تلعب القاهرة دورًا محوريًا في إنهاء الحرب بالسودان، وفي الصدد دعا القيادة المصرية إلى الابتعاد عمّا وصفها بالكيانات الشمولية، خشية تأكيد المخاوف القائلة بعدم رغبة القاهرة في قيام أنظمة ديمقراطية في المنطقة، مخافة انتقالها إلى أرض المحروسة حد قوله.
وعن سرّ اختيارهم للقاهرة وليس بورتسودان (العاصمة السودانية المؤقتة)، قال القيادي بالعدل والمساواة، إبراهيم سعد الله، إن مؤتمرهم سوداني خالص، ولا علاقة له بالسلطة المصرية من قريب أو من بعيد.
وأوضح أن اختيارهم للقاهرة ما هو إلا مسعى لإعطاء المؤتمر أكبر حالة من الزخم، بضمان حضور أكبر عدد من ممثلي الدول والمنظمات، وهو أمر لا يتسنى حاليًا في السودان.
وفي منحى متصل، قال سعد الله إن المؤتمر وبصورة معنوية يريد منح القاهرة التقدير اللازم لمواقفها الداعمة للشرعية في السودان، وأضاف: “بالتالي لا يمكن وضع القاهرة في مصافّ العواصم الداعمة للميليشيا والساعية إلى تمزيق السودان”.
تكريس للانقسام
يرى المحلل السياسي أبو عبيدة رضوان، أن الائتلاف الجديد يعكس بوضوح حجم الانقسامات التي تضرب الأوساط السياسية السودانية، وقال لـ”نون بوست” إن ما يحدث هو تكرار لذات ما يجري منذ بدايات عام 2021، بين مكونات الحرية والتغيير المتصارعة والمنقسمة على نفسها.
وحثّ القوى السياسية على تغليب مصلحة الوطن، والكفّ عن ممارسة الألعاب التكتيكية الخطرة، تحديدًا في هذه المرحلة الخطرة من عمر البلاد، قائلًا بضرورة الانصراف إلى بناء استراتيجية لنقل السودان إلى مرحلة البناء والتعمير، مع “جعل الحرب الحالية آخر عهودنا بالحرب والسلاح”.
يبدو أن المشهد السياسي في السودان لن يتغير كثيرًا عن السنوات الماضية، رغم اختلاف وتجدد وعود القوى والتشكيلات السياسية الجديدة، إلا أن الشكوك والهواجس ما زالت تخيم على الأجواء العامة في ظل فقدان الثقة بكل الأطراف السياسية الحالية ونواياها تجاه إصلاح الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد.