ترجمة وتحرير: نون بوست
مُحاطًا بعشرات الجنود والدبابات والمدرعات والطائرات المسيّرة وكلاب الجيش، وجد أحمد صافي نفسه ينظر إلى حفرة ضخمة في الأرض. قال أحمد (26 سنة) الذي يسكن في خان يونس لموندويس: “من بين جميع سيناريوهات الموت التي تخيلت نفسي فيها منذ بداية الحرب، لم أشك قط أنني سأرى قبري”.
كان الجيش الإسرائيلي قد اعتقل أحمد وأقاربه الذكور وأجبروهم على الوقوف أمام قاعدة عسكرية للمقاومة بينما كان الجنود الإسرائيليون يختبئون خلفهم، ووقعوا وسط تبادل لإطلاق النار بين الجنود والمقاومة. وفي ليلة 22 كانون الثاني/يناير، شنّ الجيش الإسرائيلي هجومًا مفاجئًا على غرب خان يونس حيث تقع خمسة ملاجئ للنازحين.
وفي منتصف الليل، تقدمت القوات الإسرائيلية باتجاه مباني طيبة حيث لجأ أحمد وعائلته إلى وسط المنطقة الآمنة التي حددتها “إسرائيل”، وكانت هذه المباني محاطة بجامعة الأقصى، ومستشفى الخير، والكلية الصناعية، ومركز جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ومنطقة المواصي الساحلية، وكلها تؤوي عشرات الآلاف من النازحين الفلسطينيين.
في وقت مبكر من تلك الليلة، أدرك أحمد أن طائرات كواد كابتر المسيّرة الإسرائيلية قد احتلت السماء بالكامل، وقد كان يعرف ما يعنيه ذلك بناءً على خبرته المتراكمة في تكتيكات الحرب الإسرائيلية، إذ لطالما كان الجيش يفضّل شن عمليات كبرى تحت جنح الليل.
سمع أحمد إطلاق نار متواصل من مسافة بعيدة تلك الليلة، لكنه كان بعيدًا نسبيًا، لذلك استمر في مشاهدة عرض أنيمي لإلهاء نفسه. وبعد لحظات اشتد صوت إطلاق النار واقترب، وفجأة سمع صراخًا من الغرفة المقابلة، وأصيب ابن عمه برصاصة، ومع اشتداد إطلاق النار، ألقى أحمد بنفسه تحت سريره بينما هرع بقية أفراد عائلته إلى غرفته حاملين ابن عمه المصاب.
كان ذلك عندما داهم الجنود الإسرائيليون شقتهم، واقتحموا الغرفة تحت ضوء المصابيح الكهربائية. قال أحمد لموندويس: “كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها جنديًا إسرائيليًا في الحياة الواقعية”. قام الجيش بفصل النساء عن الرجال وأجبرهن على الفرار جنوبًا إلى رفح، بينما ظل الرجال مقيدين وبقوا في عهدة الجيش.
أمر قائد إسرائيلي أحمد ورجال عائلته بالنزول إلى الطابق السفلي في صف واحد، ثم أمرهم بالركوع أمام الجدار الجنوبي داخل شقتهم التي تواجه قاعدة عسكرية للمقاومة. كان جسد أحمد يرتعش بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وكانت شفتاه ترتجفان وكان تنفسه ثقيلًا. قال أحمد: “حاولت أن أجمع شتات نفسي، ولكن عندما سمعت والدتي تودعنا بينما كان الجنود الإسرائيليون يجرونها إلى الخارج، لم أستطع حبس دموعي”.
في صباح اليوم التالي، يوم 23 كانون الثاني/يناير، أمر الجنود الإسرائيليون أحمد ووالده وشقيقه وبقية أبناء عمومته بالتحرك في الخارج وأمروهم بالتحرك أفقيًا أمام السيارات العسكرية المدرعة. أفاد أحمد: “عندما أمرونا بالتوقف والوقوف مكاننا، وجدت نفسي مرة أخرى على بعد أمتار قليلة من قاعدة المقاومة العسكرية، كانت تلك هي اللحظة التي أدركت فيها أننا نُستخدم كدروع بشرية”.
أجبرهم الجنود على الركوع في منتصف الشارع بينما احتموا خلف أحمد وأقاربه الذكور. وأُجبروهم على ارتداء ملابس خفيفة في برد الشتاء، وكانت أيديهم مقيدة بإحكام لدرجة أنهم لم يتمكنوا من الشعور بأصابعهم. وفي عدة نقاط أطلق الجنود الرصاص بالقرب من أقدامهم في محاولة لإرهابهم، وربما لجعلهم يطيعون الأوامر.
قال أحمد، متذكرًا ضحكات الجنود من مدى خوفه هو وعائلته: “في كل مرة أطلقوا النار علينا، كنت أتحقق من ظهري على الفور للتأكد من أنني ما زلت على قيد الحياة”. وفي أحيان أخرى، كانت تتحرك دبابة بسرعة نحوهم، ثم تتراجع إلى مسافة أقل من متر منهم، وأدرك أحمد أن الجنود كانوا يعبثون بهم. وفي مرحلة ما، أمسك الجنود سعيد، شقيق أحمد، وعذّبوه، مما أدى إلى كسر فكه، وركلوه في أعضائه التناسلية وكأنهم “يضربون كرة القدم”، حسب ما أفاد به سعيد، وقد ضربوه بشدة لدرجة أنه فقد وعيه في وقت ما.
أوضح أحمد: “لقد اشتبهوا في أنه مقاتل في المقاومة بسبب مظهره، بالنسبة للجنود الإسرائيليين، فإن أي رجل ملتحٍ وله علامة سجود على جبهته هو عضو في حماس”. وبعد لحظات، اندلع تبادل كثيف لإطلاق النار أثناء تواجد أحمد وعائلته بين جنود الاحتلال والمقاومين، دون أي مأوى. فانبطحوا على الأرض في محاولة يائسة للاحتماء.
قال عمار، وهو أحد أبناء عمومة أحمد، لموقع “موندويس”: “ظللنا نصرخ باللغة العربية، أوقفوا إطلاق النار، وبعد لحظات قليلة توقف إطلاق النار”. اُجبروا على البقاء هناك لأكثر من 12 ساعة، حيث استخدمهم الجنود الإسرائيليون كدروع بشرية رغم عدم رغبتهم في ذلك. وبحلول نهاية الأمر، كانوا يعانون من الجفاف وبالكاد يستطيعون الوقوف على أقدامهم.
عند الظهر، وفي لحظة تراخي المراقبة، قرر أحمد أن يؤدي صلاة الظهر بعينيه، وهي الطريقة المسموح بها في الإسلام عندما يصاب الإنسان بالشلل أو الموت. ورأى أن الحالتين تنطبقان على حالته.
وقبل غروب الشمس، اندلع تبادل إطلاق النار مرة أخرى. هرع ثلاثة جنود إسرائيليين نحو أحمد وبقية الرجال، وسحبوهم نحو الكثبان الرملية الكبيرة، وأجبروهم على الوقوف عليها بحيث أصبحوا مرئيين ومعرضين لخط النار. وبينما كانوا يقفون فوق الكثيب، نظروا إلى الأسفل، وعلى الجانب الآخر منه كان هناك خندق كبير في الرمال تحت أقدامهم.
أجبرهم الجنود على الوقوف هناك على الكثبان الرملية، مكشوفين لخط النار والخندق في الأسفل. أخبر أحمد موقع “موندويس”: “طلب منا ابن عمي عمار أن نتشبث بأصابع بعضنا البعض ونضع أقدامنا فوق بعضها البعض، حتى لا يسقط أحدنا في تلك المقبرة الجماعية إذا أصابته رصاصة”.
لقد كانت صور المدنيين الذين يُدفنون أحياءً تتردد في أذهانهم، تمامًا كما سمعوا ما حدث في المستشفى الإندونيسي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. وكان هذا أيضًا قبل ظهور الأخبار في نيسان/ أبريل من هذه السنة عن المجازر والمقابر الجماعية التي تم اكتشافها في مستشفى الشفاء ومستشفى ناصر، حيث تم الكشف عن مئات الجثث.
بعد انتهاء تبادل إطلاق النار، أجبر جنود الاحتلال أحمد وبقية الرجال على الدخول إلى أحد المباني. كان المبنى مظلمًا بالكامل باستثناء الغرفة التي أُجبر أحمد وعائلته على دخولها. تم تدمير جدران الغرفة الجنوبية والشرقية، مما جعل من بداخلها مرئيين لأي شخص يمكن رؤيته من قاعدة المقاومة.
وبين الحين والآخر، يأتي جندي ويوجّه شعاع ليزر أحمر تجاههم لبضع دقائق ثم يغادر. وأوضح أحمد قائلا “أعتقد أنه كان يحاول أن يوضح للمقاومين أننا كنا أيضًا داخل ذلك المبنى، حيث كانوا يستخدموننا مرة أخرى كدروع بشرية”.
وبعد لحظات، أخذهم الجنود واحدًا تلو الآخر إلى غرفة أخرى. وكانت هذه المرة الأولى منذ أكثر من 18 ساعة من احتجازهم كرهائن لبدء استجوابهم. بدأ الجنود بركلهم وإهانتهم أثناء مطالبتهم بالحصول على معلومات. وأجبروا سعيد، شقيق أحمد، على قول أشياء مهينة عن نفسه، فقط حتى يتمكنوا من الضحك عليه عندما يفعل ذلك.
صرح أحمد لموقع “موندويس”: “طلبت مني قيادة المخابرات تحديد موقع منزلي من خلال لقطات حية أظهرتها لي من طائرة مسيرة في منطقتي. لم أستطع في البداية، لأن المنطقة بأكملها بدت مسطحة. ولحسن الحظ، فقد حددت موقعه قبل اللكمة الثانية”. وأضاف: “كانت تلك هي اللحظة التي علمت فيها أن منزلي قد دُمر”.
بعد حوالي ساعتين، أطلق الجنود سراح أحمد وعائلته وأمروهم بالتحرك جنوبًا بإجبارهم على تتبع شعاع الليزر في جوف الليل. تمكن أحمد وعائلته، وهم يتخبطون في الطرق، من الوصول أخيرا إلى مدرسة تابعة للأمم المتحدة على بعد حوالي ميل واحد تؤوي عددا من النازحين. قال أحمد: “عندما وصلنا إلى المدرسة، وسمعنا ضجيج بعض الناس في الداخل، انفجرنا بالبكاء الممزوج بالضحك الهستيري. لم نتمكن من تصديق أننا نجونا من هذا الكابوس”.
لقد كانت المدرسة مغلقة، فاضطر أحدهم إلى القفز فوق الجدران وطلب من شخص ما أن يفتح لنا. وساعدهم الناس هناك بالماء وبعض الخبز، لكن أحمد كان ينوي العثور على خيمة عمه بالقرب من المدرسة والبحث عن والدته وأخواته. وأخيرا وجدهم مع عمه. وفي صباح اليوم التالي، هربت العائلة بأكملها إلى رفح، تاركين وراءهم كل ما كان لديهم في خان يونس.
الموقع: موندويس