تسجّل أعداد اللاجئين السوريين في لبنان تراجعًا كبيرًا، بحسب أرقام حديثة صادرة عن المنظمة الدولية للهجرة، وهو التراجع الذي فرضته عوامل مجتمعة، منها عدم الشعور بالاستقرار بسبب تصاعد الانتهاكات الفردية الشعبية والقمع المؤسساتي الذي تمارسه الدولة اللبنانية ضدهم، فضلًا عن تقليص المساعدات الأممية المخصصة للاجئين.
وأظهرت أرقام المنظمة أن نحو 3 آلاف سوري غادروا لبنان في غضون الأشهر الأربعة الأولى من العام 2024، مقابل 4 آلاف و500 كانوا قد غادروا لبنان على امتداد العام 2023، ورجّحت أن يستمر العدد في الارتفاع.
وعن الوجهة، بيّنت المنظمة أن غالبية اللاجئين توجهوا نحو الجزيرة المتوسطية قبرص، التي علقت طلبات اللجوء من السوريين بسبب الطفرة الكبيرة في أعداد اللاجئين إلى أراضيها.
وتشدد منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش، على أن الإجراءات اللبنانية مثل الاحتجاز التعسفي وعمليات التعذيب والإعادة القسرية إلى سوريا، تدفع اللاجئين السوريين للبحث عن طوق نجاة، وقال إن اللاجئين السوريين الذين ما زالوا في لبنان يكافحون للبقاء، رغم أوامر الترحيل والبيئة العدائية المتزايدة التي تفاقمت جراء إقدام المسؤولين على اتخاذ اللاجئين كبش فداء.
البحث عن مركب نجاة
مثل غالبية اللاجئين السوريين في لبنان، يتحيّن الثلاثيني أبو طارق فرصة الهجرة غير النظامية إلى أوروبا للجوء، ويقول لـ”نون بوست” إن “تشديد الإجراءات في البحر وتكثيف الدوريات القبرصية واللبنانية فيه، جعلا من الرحلة محفوفة بالمخاطر ومرتفعة الأجور”.
وعن الأسباب التي تدفعه للتفكير بمغادرة لبنان، يشير إلى خوفه الدائم من الاعتقال، فضلًا عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وارتفاع تكلفة المعيشة في لبنان.
وبصوت متقطع يضيف: “كل شيء هنا يدفعك إلى محاولة النجاة، فبالنهاية الحكومة اللبنانية تنسق مع النظام السوري، وهذا يرفع منسوب الخوف من ترحيلنا إلى سوريا”.
ويتوج كل ذلك، وفق أبو طارق، التجييش ضد اللاجئين السوريين، خاصة أن هناك شبه إجماع لبناني على اعتبار أن اللاجئين يشكّلون “خطرًا اقتصاديًا وأمنيًا وديموغرافيًا” على بلادهم.
وكانت حادثة مقتل المسؤول السياسي في حزب القوات اللبنانية باسكال سليمان، في أبريل/ نيسان الماضي، والذي عُثر على جثته في سوريا، واتهام “عصابة” سورية بالوقوف خلف مقتله، قد صعّدت من حدّة العنصرية في لبنان ضد اللاجئين السوريين.
تصاعد حملات “التحريض”
لكن العنصرية لم تكن وليدة الحادثة الأخيرة، إذ يسجّل لبنان منذ العام 2019 تصاعدًا في خطاب الكراهية ضد اللاجئين، وذلك على خلفية الوضع الاقتصادي الكارثي الذي تعيشه البلاد.
وليس أدل على ذلك من الحملات التي تُطلق ضد اللاجئين السوريين بدعم من جهات سياسية لبنانية، وآخرها حملة “تراجعوا عن الضرر قبل فوات الأوان” التي رعتها شركات وقنوات فضائية وغرفة التجارة والصناعة والتجارة اللبنانية والمنظمات الاقتصادية اللبنانية ومؤسسات غير حكومية في مطلع مارس/ آذار الماضي، أي قبل مقتل سليمان بأكثر من شهر.
والمستغرب أن القائمين على هذه الحملة وغيرها، يتجاهلون مسؤولية “حزب الله” عن تهجير اللاجئين السوريين إلى لبنان وغيرها من الدول، وأمام كل ذلك تُثار التساؤلات عن مصير ملف اللاجئين السوريين في لبنان، البلد الذي يأوي تقديريًا نحو مليوني لاجئ سوري؟
الأجهزة الأمنية كافة مُطالبة بالتحرك الآن كون عدد اللاجئين السوريين كبير جداً، والأمن العام اللبناني قادر على التحرك وإذا كان بحاجة لأي مساعدة فليُعلن ذلك علناً.#الوجود_السوري_خطر pic.twitter.com/xvNHBJ1wy1
— Samir Geagea (@DrSamirGeagea) May 9, 2024
فيما تتواصل مؤخرًا حملة مكثفة يشنها سمير جعجع زعيم حزب القوات اللبنانية، تحت عنوان #الوجود_السوري_خطر، وسط التهديد باستخدام العنف للضغط على اللاجئين السوريين لإجبارهم على مغادرة البلاد. وبضغط من حملة جعجع على ما يبدو، أغلقت السلطات اللبنانية عشرات المحلات التجارية التي يقوم عليها سوريون، كما تظهر صور انتشرت اليوم السبت 11 أيار/مايو على شبكات التواصل الاجتماعي.
ويكرر جعجع أن النزوح السوري في لبنان “خطر وجودي على لبنان”، ويزعم أنه يوجد في لبنان 1.7 مليون سوري غير نظامي في لبنان وأن عدد اللاجئين الشرعيين هو فقط 300 ألف سوري، لكن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تقول إنّ إجمالي عدد اللاجئين السوريين في لبنان هو 1.5 مليون لاجئ.
يقول الصحفي محمد الشيخ من لبنان بقوله: “الحكومة اللبنانية تشدد الإجراءات وحملات الترحيل لدفع السوريين للمغادرة نحو بلادهم أو ترحيلهم قسرًا، فعلى سبيل المثال جرى الأسبوع الماضي ترحيل 1500 شخص عبر معبر المصنع وحده، فيما تترك المجال للحدود والتي يدخل منها العشرات وهم بالغالب يريدون الهجرة بشكل مخطط مسبقًا لأوروبا، ودول عربية مثل ليبيا ثم أوروبا، وبعضهم إلى قبرص”.
لكنه يستدرك بقوله لـ”نون بوست” إن لبنان “لا يستطيع القيام بحملات ترحيل جماعية لعدم وجود قرار دولي بذلك بعد، وسياسته بالترحيل الجماعي معلقة بالقرارات الدولية، فيما يعمل من خلال تشديد الضغط على اللاجئين للحصول على مساعدات دولية للحكومة مستقلة تمامًا عن المساعدات المقدمة للاجئين”.
ومطلع هذا الشهر، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من بيروت، عن “حزمة مالية بقيمة مليار يورو للبنان، ستكون متاحة بدءًا من العام الحالي حتى 2027″، طمعًا في تعاون بيروت “الجيد لمنع الهجرة غير النظامية ومكافحة تهريب المهاجرين”.
مستقبل مظلم
بالبناء على ما سبق، وصف رئيس الرابطة السورية لحقوق اللاجئين، مضر حماد الأسعد، مصير اللاجئين السوريين في لبنان بـ”المظلم”، قائلًا لـ”نون بوست”: “منذ دخول أول لاجئ سوري إلى لبنان، بدأت المعاناة بسبب وجود حاضنة لبنانية قوية للنظام، وفي مقدمتها ميليشيا “حزب الله”، وميليشيا الحزب القومي السوري الاجتماعي وغيرهما الكثير”.
وأضاف أن اللاجئين السوريين في لبنان يعيشون من دون أي حماية قانونية وعرضة للتجاوزات، متهمًا أطرافًا في لبنان بسرقة جزء من المساعدات الأممية المخصصة للاجئين السوريين، وقال إن “الأمم المتحدة والمنظمات المانحة تعرف حقيقة ما يجري من سرقة للمساعدات المخصصة للاجئين السوريين”.
وقال حماد الأسعد إن أكثر من 40% من حجم المساعدات ذهبت للبلديات اللبنانية، ولم تخصص لدعم اللاجئين الذين يعيشون واقعًا مترديًا، وبذلك حذّر الأسعد من تزايد الضغط على اللاجئين السوريين في لبنان بهدف “ابتزاز” الجهات المانحة، مشيرًا إلى عدم توفر أي مظلة سياسية تمثلهم، معتبرًا أن “النظام السوري هو من المستفيدين من أزمة اللجوء السوري في لبنان”.
اتهامات الرابطة السورية لحقوق اللاجئين للبنان بـ”سرقة” الأموال المخصصة لدعم اللاجئين، تتقاطع إلى حد بعيد مع مضمون وثيقة مسرّبة من الأمم المتحدة عام 2020، تؤكد “ضياع نسبة تبلغ 50% من المساعدات من خلال تحويل العملات”.
التحرك الفاعل للقوات اللبنانية لمعالجة الوجود السوري غير الشرعي يواصل تحقيق أهدافه، فبعد متابعة الضغط على السلطات الرسمية والتنسيق مع البلديات والأجهزة الأمنية، إقفال لمحال تابعة للسوريين في المنصورية، عمشيت وبزيزا الكوره.* #الوجود_السوري_خطر#المواجهة_مستمرة pic.twitter.com/gA5XR9N4Gm
— لبناني اولا (@gdabili63) May 11, 2024
وبحسب وكالة “رويترز“، فإن 250 مليون دولار على الأقل من المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة للاجئين والمجتمعات الفقيرة في لبنان، ضاعت لصالح البنوك التي تبيع العملة المحلية بأسعار غير مواتية للغاية.
لكن مع كل ذلك يبدو من المستبعد أن يقوم لبنان بترحيل أعداد كبيرة من السوريين، ويقول الصحفي محمد الشيخ إن “العمالة السورية في لبنان هي أحد أعمدة الصناعة اللبنانية، لا سيما في مجال تصنيع الخبز، وكذلك بالنسبة إلى الزراعة فالعمالة السورية لا يمكن الاستغناء عنها والحكومة اللبنانية تعرف ذلك جيدًا، ومع ذلك تتشدد في الحملات لتحميل السوريين مسؤولية الانهيار الاقتصادي في البلاد”.
وبالفعل، اتهم الباحث في منظمة هيومن رايتس ووتش، رمزي قيس، السلطات اللبنانية باستخدام اللاجئين السوريين كبش فداء، لصرف الأنظار عن مسؤولياتها تجاه الشعب اللبناني، معتبرًا أن “المقترحات الحكومية اللبنانية حول خطة تستند إلى الإجراءات والقانون اللبناني بشأن اللاجئين السوريين، ترقى إلى “عمليات الترحيل الموجزة” التي تنتهك القانون الدولي”.
في المحصلة، يبدو أن اللاجئين السوريين في لبنان سيبقون عرضة للتجاذبات بين الطبقة الحاكمة والجهات الداعمة، إلا أن أعدادهم آخذة في التراجع.