تحاول دولة الاحتلال ومنذ تأسيسها لتجعل من نفسها “دولة قومية للشعب اليهودي” في العالم، وعبر سنوات بنائها حاولت التخلص أو تحجيم الوجود العربي الفلسطيني في المدن المحتلة، وكانت البداية بطرد ما يقارب 800 ألف فلسطيني من الداخل عند إعلان قيامها عام 1948، واستمرت على نفس النهج خلال السنوات الستين الماضية.
ومع بدء جولات التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية والتي تكللت في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، كان الهدف الرئيسي للحكومة الإسرائيلية انذاك برئاسة “إسحق شامير” بأن تفصل الإسرائيليين عن الفلسطينيين، وتكريس مفهوم “يهودية الدولة” من خلال رفضهم التعاطي مع حق العودة والإعلان عن القدس المحتلة عاصمة يهودية لها، ليتبين فيما بعد وجود رؤية أبعد من ذلك، تتجلى من خلال التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية وابتلاع الأراضي الفلسطينية وتفتيتها جغرافيا من خلال فرض الاستيطان كأمر واقع.
واليوم وبعد أكثر من 60 عاما على قيام الكيان الإسرائيلي، يصر قادة الاحتلال على شرط مُسبق للمضي قدما في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وهو ضرورة اعترافها وإقناع الدول العربية بالاعتراف بـ”إسرائيل كدولة يهودية” للشعب اليهودي، والقفز عن المطلب الرئيسي لقادة الاحتلال خلال العقود الماضية هو الاعتراف الفلسطيني والعربي بحقها في الوجود فقط.
فماذا تعني “يهودية الدولة” كي يتمسك بها قادة الاحتلال بهذا الشكل؟، وعلى ماذا ينطوي هذا المطلب؟، وما هي نتائج الاعتراف به؟.
لمحة تاريخية
الكاتب والمختص بالشؤون الإسرائيلية عادل شديد قدم في مقابلة خاصة شرحا وافيا عن هذا المطلب الإسرائيلي وتاريخه وخطورته، والسبب الذي يكمن في إصرار رئيس حكومة الاحتلال “بنيامين نتنياهو” على هذا المطلب كشرط للمضي قدما في عملية التفاوض مع السلطة الفلسطينية، إلى جانب الحديث عن قانونية المطلب.
ويقول شديد “إن هذا المطلب الإسرائيلي لا يعتبر جديدا، فقد طرح هذا الموضوع مع نشأة الحركة الصهيونية في القرن 18، والتي تبنت مشروع إقامة دولة يهودية لليهود، وخلال المؤتمرين الصهيونيين الاول والثاني ما بين عامي 897_1904 طرح هذا الموضوع أكثر من مرة”.
المرة الثانية التي طرح فيها الموضوع، كانت أيام الانتداب البريطاني، عندما سعى وزير خارجية بريطانيا “بلفور” إلى توطين اليهود في فلسطين، ونجح في إعدائهم وطن قومي في فلسطين، متناسيا السكان الأصليين من المسلمين والمسيحيين وتعامل معهم كأنهم أقلية في دولة اليهود، في حين تعامل مع اليهود كأنهم أغلبية، على الرغم من أن الحقيقة كانت عكس ذلك”.
وفي العام 1947 أعيد طرح هذا الموضوع مرة أخرى وبنفس اكبر وبتفصيل أعمق ضمن قرار تقسيم فلسطين، والذي منح اليهود ما نسبته 55% من مساحة فلسطين التاريخية، وتكون بمثابة دولة قومية لهم، شرط وجود العرب الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين على 40% من مساحة الأرض المتبقية بما فيها مدينة يافا”.
طرح مختلف.. وخطورة كارثية
الطرح الموضوع على الطاولة الآن يختلف تماما عما كان يطرح في السابق، فالطرح الحالي يرمي إلى عدة أعداف أهمها، إعادة إنتاج المشروع الصهيوني، بمباركة أمريكية ودولية، بالاشتراك مع السلطة الفلسطينية، لتنال “إسرائيل” من ذلك شرعية دولية، وإلغاء الرواية الفلسطينية، وتبني فكرة المشروع الصهيوني، الأمر الذي يعني انتفاء المصداقية عن الرواية التاريخية للصراع العربي الإسرائيلي.
ففي حال اعترفت السلطة الفلسطينية والعرب بهذا المطلب، فستكون نتائجه كارثية، لأنه سيعني أننا نحن الفلسطينيين مسؤولون عن معاناة اليهود منذ أكثر من 100 عام، ليس هذا وحسب، بل يتوجب علينا دفع تعويضات لهم عن كل معاناتهم وخسائرهم التي لحقت بهم طيلة سنوات الصراع معهم.
كما أن اعتراف الفلسطينيين والعرب بـ “إسرائيل” كدولة يهودية للشعب اليهودي في العالم ينطوي على مخاطر وتهديديات تلغي الوجود الفلسطيني في الداخل المحتل، وتدفعهم للهجرة الطوعية عن أراضيهم المحتلة، ليس هذا فحسب بل إن الاعتراف بهذا المطلب، سيسقط أيضا حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم بصورة قسرية عن منازلهم بين الأعوام 1948_1967، وبذلك سيصبح ما يزيد عن 5 ملايين لاجئ فلسطيني أمضوا أكثر من 60 عاما في الشتات والمنفى الإجباري مجرد رقم في كتب التاريخ.
المشكلة بالاحتلال ذاته
إن موافقة أي جهة تمثل الفلسطينيين على يهودية “إسرائيل” يعني ببساطة تسليم وقبول هذه الجهة بكل الخطوات والإجراءات التي تضمن تكريس الطابع اليهودي لهذا الكيان، ومن خلال تصريحات المسؤولين الإسرائيليين يتبين أن الاحتلال الإسرائيلي يعول كثيرا على هذا المطلب في حال تم الاعتراف به، وهذا ما كشفته القناة الثانية العبرية عن “نتنياهو” الذي همس لأحد وزراءه في إحدى الاجتماعات أن هذا الاعتراف في حال تم سيكون بمثابة “وعد بلفور ثاني”.
في المقابل يظهر من يدعو لعدم إعطاء هذا الطلب أي اهتمام، مبررا ما يدعو إليه بأن المشكلة في وجود الاحتلال بحد ذاته وليس بتمرير طلب يضفي الموافقة عليه شرعية زائفة، فالاحتلال الإسرائيلي نهب وسرق الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين ولا يجوز حرف البوصلة عن هذا المنطق.
لكن بالمجمل ترفض السلطة الفلسطينية حتى الآن التعاطي مع مثل هذا المطلب، على اعتبار أنه غير ضروري، فقد سبق لمنظمة التحرير أن اعترفت بـ”إسرائيل” وهذا المطلب لم يعرض على مصر والأردن في اتفاق السلام الذي جرى معهم، كما يقولون.
الرئيس عباس في خطاب ألقاه في افتتاح الدورة الثالثة عشرة للمجلس الثوري لحركة فتح قال “لا يمكن أن أقبل بيهودية دولة إسرائيل، ولا يمكن أن أفكر بقبول ذلك بتاتاً وقطعيا رغم الضغوط الكبيرة التي تمارس علينا”.
وحتى داخل كيان الاحتلال هناك استغراب وجدل حول هذا الطلب من قبل رئيس حكومتهم “بنيامين نتنياهو”، فقد انتقد رئيس كيان الاحتلال “شيمعون بيريز” هذا الشرط واعتبره “أمرًا غير ضروري” وقد يؤدي إلى “إفشال المفاوضات مع الفلسطينيين”.
وعلقت صحيفة “هآرتس” العبرية قبل أيام على الموضوع بالقول “إن إصرار نتانياهو على مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية يأتي من “إصراره على إجبار الفلسطينيين بقبول نسخته الملزمة عن الصهيونية”، ويقصد من وراءه إبطاء المفاوضات أو إفشالها.
رغم كل هذا التعنت الإسرائيلي، ووضوح الرؤية، وانكشاف نوايا “نتنياهو” وحتى موقف وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الذي ذكرت مصادر صحفية أنهم حاول ممارسة ضغوطا على عباس لقبول مطلب نتنياهو، إلا أن السلطة الفلسطينية لا تزال متمسكة كما تقول “بالمفاوضات، وإعطائها الوقت الكافي”، لعل المستقبل يحمل ما يطمحون إليه بتأسيس “دولة فلسطينية” على ما تبقى من الأراضي المحتلة منذ عام 1967.
هذا الموضوع يأتي ضمن سلسلة تقارير مشتركة بين نون بوست وشبكة قدس الإخبارية